ليس في الكتابة الشعرية نصائح ولا تعاليم-حوار أجرته: الشاعرة منى كريم-1/2 موقع إيلاف

 

  • الثلاثاء 07 ديسمبر 2004 – 18:45 GMT
  • آخر تحديث : الخميس 09 ديسمبر 2004 – 22:12 GMT

الصكَر: ليس في كتابة الشعر نصائح ولا تعاليم

 
حوار مع الناقد العراقي حاتم الصكر (1/2)
nbsp;
حاورتهnbsp; منى كريم:
حاتم الصكَر من أهم الأسماء التي عرفها النقد العراقي و العربي، تتبع خطوات الحركة الحداثية، فدرس مفصليات جيل السبعينات في العراق و من ثم تجربة الشعر النسائي في اليمن الخ… يملك هذا الناقد الشاعر آراءً خاصة حول الشعر و تلمس نبض الحركة النقدية العربية. يقيم حالياً في اليمن وقد شغل عدة مناصب تعليمية فيها.. بعد إلحاح طويل استطعنا أن نحتوي كلماته في هذا الحوار:
* قلت ذات مرة في إحدى حواراتك عن قصيدة النثر إنها تريد في برنامجها غير المعلن ـ أي المسكوت عنه ـ “أن تقلل كمية الشعر في القصيدة، هذا الذي يملؤها حتى تفيض به أو تختنق، وهي بذلك تهدم وتبني معا. وتلك إحدى عللها وأبرز مآزقها”. كيف ترى في تخلص قصيدة النثر من : زوائد القصيدة والبلاغة والاعتماد الكلي على الشعر المنطلق من اللغة والزخرفة.. هدماً؟
– (الهدم) في إجابتي وصف معرفي لخطوة إجرائية معروفة في مناهج التفكيك خاصة، وهي لحظة منهجية تكتيكية على مستوى القراءة، نتخلص خلالها مما أسميته فائض الشعر فيها، وهذا مأزق فني على مستوى الكتابة، إذ يواجه الشاعر مسؤولية إبعاد تلك الزوائد وإيقاف تدفق الشعر وتداعي لوازمه التقليدية: غنائية موضوعية أو تصويرية، زخارف بلاغية مكررة الخ…
لقد قلت ذات مرة إن قصائد السّياب تختنق بشعر وفير أكثر مما تتطلبه القصيدة. كان في خاطري وأنا أقول ذلك قصائد السياب المزدحمة بالاسترسال التصويري وخلق ما يدعوه إحسان عباس الصور المستعرضة، أي التي تتمدد أفقياً وعرضياً دون أن تنمو عمودياً وتؤسس لبؤرة نصية تتسع حولها أطراف القصيدة. كان الشعر بآلياته المعهودة يحاصر رؤى السياب، فيطفح نصه بذلك الشعر الذي كان بالإمكان تنقيته أكثر.
وذلك انتقل لبعض قصائد النثر في مراحلها المبكرة، وهو ميراث أصيب به النثر الشعري أيضاً: تجارب الريحاني وجبران و روفائيل بطي وسواهم.. وترك ظلاله على تيار من قصائد النثر التي لم يمارس كّتابها عملية (الهدم) المشار إليها في سؤالك وفي إجابتي.. هذا الوقوع تحت جاذبية (الشعر) وحضوره التقليدي الفائض، هو أحد وجهي أزمة فنية في قصيدة النثر، ووجهها الآخر هو الاستسلام لمفهوم (النثر) بمعناه المقابل أو المناقض للشعر، فصرنا نقرأ قصائد وثائقية مثلاً يحضر فيها النثر (في السرد والوصف معا و وفي البناء الجملي والتراكيب وغنائية الموضوع) حضوراً نثرياً إذا صحّ الوصف، أعني بكل برودته ومباشرته ولا شعريّته..nbsp; وإذا كنت قد دعوت لهدم فائض الشعر لصالح قصيدة نثرية خالصة، فأنا أذكّر هنا بضرورة إقصاء حضور النثر ككتلة بهيكله ووجوده ووظيفته الخارجية.
nbsp;
* عُرفت قصيدة النثر بتخلصها من الإيقاع، ما رأيك في التجارب التي حاولت منح بعض الإيقاع لقصيدة النثر كصنع موسيقى من تراكيب الجملة وتراتب الألوان والأفكار حسب وصف الأستاذ صلاح نيازي، أو مثلاً كتجربة شاكر لعيبي مع قصيدة النثر المقفاة؟
– ثمة التباس في السؤال.. قصيدة النثر لم تعرف بتخلصها من (الإيقاع) إلا إذا كان المقصود (الإيقاع الخارجي) المتحصّل من الموسيقى الشعرية التقليدية (الأوزان والقوافي)، وكثير من الأطروحات النقدية الحداثية تؤكد وجود (إيقاع داخلي) بديل عن تلك الموسيقى المقصاة في قصائد النثر. وعلى هذه الفرضية دارت بعض دراسات كتابي (مالا تؤديه الصفة) بيروت 1993، وبعض دراسات كتابي الأخير (حلم الفراشة) صنعاء 2004وفي تلك الدراسات مقترحات وتصورات لوجود ذلك الإيقاع البديل مثلاً كإيقاع التكرار والتوازي وإيقاع السرد والإيقاع الخطّي المتكون من هيئة النص وتنضيده الكتلوي…nbsp; هذا الزعم النظري المدعم بتطبيقات نصية وتحليلات فنيّة وصفه البعض من الزملاء بأنه (وهم) أو (تصوّر تجريدي) وافتراضات قراءة، مبعدين تماماً وجود إيقاع داخلي أو أي إيقاع في قصيدة النثر، ما دامت تقوم أساساً على اتحاد متناقضين هما الشعر والنثر.. ولكل منهما أعرافه واشتراطاته.
التجربتان اللتان يشير إليهما سؤالك لم تجدا ملموسيّة نصية :أي أن التجّسد أو التحقّق النصي لهما ظل غائباً، لكنني أجد أن تراتب الألوان أو تدرجها وكذا تجاور الأفكار أو تقاطعها والبناء الجملي جديرة بالفحص والدراسة حقاً.. وتساهم في البحث عن أطر إيقاعية لقصيدة النثر، تنسحب من بعد على وجودها النصي كله – أي مستوياتها الدلالية والبنائية واللفظية والخطيّة…nbsp; أما التجربة التي لخّصها السؤال بأنها (قصيدة النثر المقفاة) فلم أجد لها ـ شخصياً على الأقل ـ أي مستند نظري إيقاعي مقنع، وذكرت في إحدى اللقاءات أنها تخلخل إيقاعية قصيدة النثر بجلب القافية لمتن متمدد دلالياً وبنائياً متخلصاً من إيقاعية الوزن، وذلك يجعل النص ناشزاً، ويعيد إلى ذاكرة القراءة تجارب شعراء النثر الشعري وطابياتهم المتذبذبة إيقاعيا، إضافة إلى أن هذا المقترح يعكس أو يقلب مقترح الزهاوي الذي أسماه (الشعر المرسل) القائم على الالتزام بالوزن مع إهمال القافية، وذكّرت بالنقاشات الذوقية التي دارت حوله، ووجدت في مبررات رفضه ما يصلح لرفض قصيدة النثر المقفاة التي لم تفرز أفراداً من النصوص تعزّز الفرضية الإيقاعية تلك.
وأظن أن سردية قصيدة النثر التي تأكدت في العقود الأخيرة جديرة بالتأمل والمحاكمة النظرية، كمقترح عملي للبحث عن طرق إيقاعية جديدة لقصيدة النثر العربية.
* يحمل المتلقي العربي كمّاً كبيراً من الأخطاء في تصوره لقصيدة النثر، بعضهم يراها متجذّرة في التراث العربي، قبل رامبو و بودلير ـ كما رسّخ أدونيس ـ والآخر يجد أنها نوع متطفل على الإبداع العربي. باعتقادك على من تقع ولادة هذه المفاهيم الخاطئة؟، وهل لاحظت وجود أية محاولات لترسيخ مفهوم كوني لقصيدة النثر؟
– في مناسبات سابقة أسميت البحث عن جذور لقصيدة النثر العربية في التراث بأنه مظهر من مظاهر (عقدة الأصل) أي رغبة العربي بالانتساب والبحث عن أصول، فكما أن للفرد سلالة وقبيلة وأسرة…الخ…فلا بد للنوع الفنّي من أصول. حصل هذا في البحث عن أصول لفنون مستلفة من الغرب كالرواية والقصة والشعر (الحر) والمسرحيّة.. وحصل في أطروحات كانت تحاول التنظير لقصيدة النثر وتأسيس تاريخية مفترضة لها، وقد وصفت ذلك بأنه أحدى جنايات جيل الرواد في كتابة قصيدة النثر.. ومظهر لردود أفعالهم على رفض المتلقين لتجاربهم وتخوينها.. لا بأس في البحث عن (ممهّدات إيقاعية وشكلية) تخفف رفض القارئ العربي لنوع القصيدة النثرية واحتجاجه التام عليها، والتذكير بأنواع (شعرية) خارج الترسيم التقليدي والرسمي الصارم للشعر.. وهذه الحجة استخدمها رواد الشعر (الحر) في العراق خلال الحجاج حول شرعية قصيدتهم منتصف الأربعينيات، فأشارت نازك الملائكة مثلاً إلى شعر البند والموشح كنوعين لهما قرابة أو نسب بالقصيدة الجديدة، وأشار السياب إلى مرجعيات أخرى: الجرأة الموسيقية في شعر المولّدين العباسيين (المحدثين) ومعلقة عبيد وفي نماذج من شعر الحداثة في دوراتها المبكرة كالمهجريين والحوار في مسرح باكثير..nbsp; أدونيس بوصفه صاحب المقترح الاصطلاحي (قصيدة النثر) والذي ظل يراجعه ويرفضه ويستبدله لاحقاً، حاول أن يبحث أيضاً عن (سلالة) كي لا تظل قصيدة النثر مخلوقاً هجيناً أو مولوداً بسفاح زوجي أثمره لقاء النثر والشعر خارج المؤسسة الرسمية الشرعية..
قد يكون مقترح البحث عن ممهّدات إيقاعية في التراث الشعري والتنويه بنصوص تفرّ من التجنيس النوعي المألوف، مقترحاً توفيقيّاً، لكنني أحاول من خلاله تسمية الأشياء بأسمائها، فقصيدة النثر شكل شعري فرنسي نقله شعراء عرب في لحظة من تطور الشعريّة العربية- بعد مقترح شعراء العراق الرواد (ما عرف بالشعر الحر) وربما وجد المشتغلون بالنظرية الأدبية جذورا لهذا النوع قبل إطلاق بودلير المصطلح (قصيدة نثر) عام 1861م :كالنثر الموقّع والترجمات والمذكرات، بل حتى في استخدام المصطلح (قصائد نثر) وصفاً لبعض الروايات كما يقرر بوالو عام 1700.. فعندنا أيضاً جرى النبش في الماضي للقول بأننا نعرف هذا النوع.. وذلك غير دقيق، فالكشف الذي قام به أدونيس بذائقته الشعرية العالية وحسّه النقدي عن كتابات النفري في المواقف والمخاطبات وبعض كتابات التوحيدي ثم الندّات الشعرية في نثر المتصوفة كالبسطامي والجنيد والخرّاز والحلاج وغيرهم تظل في سياقها الكتابي، فهي تنطلق من النثر أساساً، وإذا صادف والتمعت فيها مناطق شعرية فهي تخلق ذلك على مستوى (الأثر) الذي تحدثه في نفس القارئ والشبيه بأثر الشعر، لكن كتّابها محكومون بالقصد أي إنتاج نصوص يقصد منها أن تكون نثراً تأمليّاً لا ينتسب في كتابته إلى اشتراطات الشعر.
أما محاولات ترسيخ مفهوم كوني لقصيدة النثر فأعتقد أنها موجودة ضمن الاصطفاف الحداثيّ العالمي، فلكل عصر ذائقة وإيقاع في الفنون كافة، كالرسم والسينما والمسرح والشعر، تسود فيها رؤية أو منهجية أو تيار، وهذا ما يسم قصيدة النثر ذات البعد الكوني بالمعنى الفكري لا الجغرافي..أي الاشتراك الإنساني في الهموم الفنية والعقلية والوجودية.
nbsp;
* انطلاق قصيدة النثر على مستوى الشعر العربي من العراق (على يد روفائيل بطي والرصافي وغيرهم) في عشرينيات القرن السابق، هل منح بريقاً ما للتجربة الشعرية العراقية؟
– لا أعتقد أن لكتابات بطي أثراً في قصيدة النثر العراقية بأجيالها المختلفة، منذ جماعة كركوك (سركون بولص وصلاح فائق وفاضل العزاوي وجان دمو..) وحتى زملاءهم الآخرين (عبد الرحمن طهمازي وحسين عبد اللطيف وعمران القيسي وسواهم) وصولاً إلى الجيل التالي للستينيين حتى اليوم، لسبب بسيط هو أن تلك الأشعار النثرية التي كتبها روفائيل بطي في ديوان (الربيعيات 1925) وكذلك أشعار أمين الريحاني (الريحانيات) وخواطر جبران وشعره المنثور أيضاً، وكتابات مدرسة مجلة (الأديب وصاحبها (ألبير أديب) وما نشر في المجلات العربية مثل (الحرية) التي أصدرها بطي ببغداد عامي 1924 و 1926 والنصوص المنشورة في مجلات المهجر ولبنان ومصر لم تكن تحت قوة القراءة كمراجع مؤثّرة أو جزء من ثقافة الشاعر.. ربما كانت تلك النصوص حافزاً مرجعيّاً لشعراء من جيل الروّاد وما عرف بالشعر الحر لقربهم الزمني والفكري من تلك التجارب.. لقد كانت العودة لتلك الأشعار لاحقاً وفي فترة البحث (الأكاديمي والنقدي) عن مستندات تقوّي وتعزّز الحاجة للانتقال إلى قصيدة النثر.
أما الرصافي فلا أرى لـه أي دور في ذلك، ولم أقرأ في شعره أية اختراقات للبنية الشعرية التقليدية، بل كان شعره في أغلبه (نظماً) عاديّاً.. ولم يلفت انتباه الشعراء اللاحقين إلى ما فيه من حسّ يومي حياتي وكسرٍ لهيبة الموضوع الشعري –بسبب ضعف بنائه وتقليدية قصيدته.. ربما وبصدد الحديث عن مؤثرات في تجربة قصيدة النثر في العراق، يكون ممكناً الحديث عن أثر الترجمات الشعرية، والكتب الدينية، وإطلاع الشعراء بحكم إجادتهم للّغة الإنجليزية على نماذج عالمية، إضافة إلى تأثير مجلة (شعر) البيروتية ودواوين شعراء التجمع الذي عرف نقدياً بجماعة شعر، وأدونيس وأنسي الحاج وأبو شقرا ويوسف الخال بوجه خاص.. بقياس المؤثر كان يمكن للتراث الرافديني الأدبي كحوار السيد والعبد وكملحمة جلجاحش والرقم الطينية التي حققت ونشرت نصوصها من بعد أن تكون ذات أثر أقوى لو أنها قرئت جيدا..
nbsp;
* كيف تحدثنا عن حاتم الصكر الشاعر؟ ألا يجد (الشاعر الناقد) صعوبة في كتابة القصيدة، ألا يجلدها؟
– تجربتي الشعرية متواضعة، فأنا أندرج ضمن المناخ الستيني، كتبت القصيدة الحرة بمؤثرات سيّابيّة أولاً ثم هدأت إيقاعات قصيدتي قليلاً، لكن ذلك ترافق مع انصرافي للنقد، وقراءة كتبه، وذلك دعاني لإقامة علاقة أصفها دوماً بأنها (عشقية) لا رسمية مع الشعر.. أكتبه في ضجرات واستثارات لكني لم أكرس نفسي كليّاً لـه.. والشعر لا يرضى بعلاقة كهذه بل يريد تملّكاً وتسلّطاً تاماً..nbsp; كان ثمة توتر بيني وبين قصيدتي، وعدم رضى أو استقرار، حتى تباعد ما بيني وبينها رغم دواويني الثلاثة المنشورة.. وقطع نثرية كتبتها ـ ونشرت بعضها ـ في الأعوام الأخيرة.. مؤخراً وربما لتعليل القطيعة وتكييفها نظرياً ـ صرت أؤمن أن الشعر ممارسة يمكن أن تأخذ تجلياتها خارج (النصوص) أي بملاحقة القصيدة في مظاهر عدة منها: القراءة والمتابعة وكتابة النقد الشعري، لاسيما وأنا ممن يتبلور جهدهم النقدي في الجانب التطبيقي.. أو بمعيار تصنيفي منهجي أنا من المصطفّين حول النص، والمركّزين توصلاتهم وقناعاتهم النظرية من خلاله أولاً… إن ذلك لا يبعدني عن الشعر كثيراً وربما جعلني وسط عناءاته ومشاكساته..
* تقع التجارب العربية الحديثة في خطأ كبير حيث ينطلق الشاعر في كتابة قصيدته من اللغة، بينما عمل الشعر على المستوى العالمي على استخدام اللغة باعتبارها وسيلة لإيصال الفكرة الإنسانية التي يحملها الشاعر وتكويناتها من رؤية أو مخيلة وغيرهما. ما رأيك بهذا التصور؟
– القصيدة نشاط لغوي إنساني يصهر داخل تراكيبه المستويات النصية الأخرى كالدلالة والمعنى والإيقاع والهيئات النصية وحتى الموضوعات والمضامين التي تتراجع أهميتها إذا ما احتكمنا إلى (الكيفية)- أي إذا عددنا الشعرية هي إجابة على سؤال (كيف قال النص ما يريد؟) وليس (من قال) أو (ماذا قال) وهما الحلقتان الأقدم في سؤال الشعرية،حين كان الاهتمام بالتاريخ والبيوغرافيا وتركيز القراءة والتحليل في صاحب النص، وذلك هيمن على الجهد النقدي التراثي عندنا، ثم صار الاهتمام بالمعاني والدلالات والأغراض التي يؤديها الملفوظ النصي، فظهر شرح النصوص وتفسيرها ونثرها بديلاً عن تحليلها وتأويلها والبحث في طبقاتها عن المسكوت عنه، والصلة النصية بين القصيدة المقروءة وأفراد النصوص الأخرى (التناص) وفحص المستوى الخطّي (هيئة النص أثناء كتابته) وعتباته (عنوانه وما يحف به من ملاحظات تمهيدية وختامية كالإهداء وزمن الكتابة ومكانها..الخ) ومما فات القراء والنقاد ـ والشعراء بداهة ـ الانتباه إليه في تلك الحلقات من تاريخ الشعرية العربية هو المستوى اللغوي للنص بما أن النص هو نسيج لغوي في المقام الأول، فأهمل المعجم اللفظي ودلالاته الزمنية والصرفية والمستوى التركيبي ـ الجملي ـ والأسلوبي و دلالة استخدام أساليب معينة في النص..
وضمن الثورة المنهجية الأخيرة في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي جرى التركيز على اللغة ومظاهر وجودها في النص والتي أشرت إليها قبل قليل.. ولكن وقع خطأ كبير سببه الحماسة المنهجية، فقد ترافق استلافنا لمناهج النقد الغربية الحديثة مع الاتجاه اللساني بأنواعه (البنيوية والأسلوبية خاصة) مما عزّز الاعتقاد بوجود اللغة كعنصر مهيمن مستقل عن أية وظيفة.. وأعتقد أن كثيرا منا وقع تحت فتنة لغة النص وكونها غاية لا وسيلة، حتى ردّد البعض رأي بارت الطريف في تشبيهه للغة النص المقصودة لذاتها وليس لإنتاج المعاني والدلالات، بممارسة الجنس لغرض المتعة والجنس ذاته وليس لإنتاج الأبناء أو ولادتهم. بل هو يبشّر بالنص اللازم (الذي يكتفي بنفسه) لا النص المتعدي (الذي ينتج أغراضاً أو دلالات في المقام الأول). وهرع المتحمسون للمنهجيات اللسانية إلى التراث النقدي ليعلوا من شأن المدارس اللفظية في الشعر العربي القديم والقائلة بأن اللفظ جسد والمعنى روح، وبأولوية الألفاظ والتراكيب على المعاني (المطروحة في الطريق يعرفها الجاهل والعاقل، العربي والأعجمي ) برأي الجاحظ..
لكن سؤالك يعيد ترتيب المسألة، فتصبح اللغة (في الكتابة الشعرية) وفحص مستوياتها المتحصّلة (في الكتابة النقدية) مناسبة ملائمة للانفتاح على الدلالات والأفكار التي توصلها النصوص باعتبارها (رسالة) تنطلق من مرسِل إلى مستقبل عبر قناة.وهذا التصور يحفظ أدبية النص من جهة ولا يبدد لغته فداءً للمعاني، ومن جهة ثانية يحفظ الحمولة الدلالية للنص ويتيح للمتلقي استخراجها، علماً بأنني استخدم (الدلالة) عامداً لأنها أوسع من (المعنى) الضيق، ولان كلّيتها أكثر مشروعية في البناء النصي من محدودية المعنى وجزئيته..
يتبع
إيلاف في
منى كريم
المزيد من المقالات
 
السابقما أصعب التأمل في هذا العالم
التاليعنقاوي: لا تناقض بين الحجازية والوحدة الوطنية
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج
أضف تعليقك
Top of Form
اُوافق على شروط الإستخدام
شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
Bottom of Form
إشترك في النشرة البريدية
Top of Form
– اختر جنسك – ذكر أنثى
إشترك
Bottom of Form
نشرة إخبارية ترسل يومياً إلى بريدك الإلكتروني
في لقاء إيلاف

إخترنا لكم