مالكولم دو شازال: شاعر الشذرات

 
 
شاعر الشذرات والمفارقة الوردية
 
شاعر يهرب من التصنيف والانتماء لمدرسة شعرية محددة. ذلك يعكس تقابلاً إيقاعياً فذّاً بين وجوده شاعراً وبين حياته في الواقع. فقد قضى حياته منعزلاً في جزيرة موريس بعيداً عن صخب المدن الكبرى، فآستحق لقب شاعر موريس الذي ضاعف أغلفة عزلته البعيدة بانطوائه، وتهربه من البوح بشيء عن سيرة حياته وتفاصيلها…
إنه الشاعر الفرنسي مالكولم دو شازال (1902-1981) الذي ظهرت مجموعته (قصائد) التي يصفها الشاعر نفسه بأنها (ذروة أعماله) ومختارات من عمله المهم (الحسّ التشكيلي) بترجمة عربية قام بها الشاعر العراقي المغترب عدنان محسن.
في مقدمته للمختارات الصادرة عن دار ( سطور) في بغداد أواخر عام 2018 يعرفنا المترجم بأبرز سمات شعر دوشازال الذي تميز بكتابة القصائد القصيرة والبالغة القصر الموصوفة بالشذرات إفصاحاً عن تلك الميزة الخطّية ،وكذلك لاكتفائها بنفسها في التعبير عن شعرية خاصة، لا شك أن الهايكو الياباني كان أحد أسلافها النوعيين .ولدينا من النصوص الشذرية ما يؤيد استنتاجنا ،حيث تمثل الطبيعة جانباً مهماً من موضوعات تلك القصائد الشذرية الخالية من العناوين ،كنايةً عن آندراجها في سلسلة متصلة من الرؤى والتصورات والأخيلة التي تخضع هنا لعملية تكييف فنية نادرة ؛لتظهر بالهيئة التي يطالعها المتلقي، ولكنها تشكل في وحدتها المفترضة وما تفرز من دلالات ،بنيةً متكاملة لا تغفلها عين القارئ ،لاسيما وقد عكف الشاعر على تعميق تجربة الكتابة الشذرية المتفاوتة بين سطر واحد وأربعين سطراً مركزاً فيها على المعرفة المتصلة بجوهر الأشياء. تلك إشارة ذات أهمية استراتيجية في قراءة المختارات ،كما هي في شعر دوشازال الذي كتب عدة آلاف من الشذرات خلال حياته الحافلة بالإصدارات المتنوعة والمتعددة، حتى فاقت الستين مطبوعاً منشوراً.
حاول السرياليون أن يتبنوا شعر دوشازال كونه مثَّل لهم تطويراً وإحياءً لما ذهبوا إليه في بياناتهم النظرية وتفوهاتهم حول دور اللاوعي في الكتابة الشعرية وإمكان الكتابة خارج الوعي، ووجود ما فوق الواقع والإستمداد من مناطق المخيلة، وما يتراءى للشاعر من تهيؤات تعمل اللغة على تكريس غرابتها ومخالفتها. لكن دوشازال يوازن بين الوعي واللاوعي، والحقيقة والمعرفة، والمفارقة والغرض الشعري المقصود. وبذا فارق السورياليين في أكثر من نقطة، جعلته ينفرد بإجماع نقاده بخط شعري ورؤية مستقلة، سوف تتجسد في نصوصه.
الطائر
الذي
يخاف
يشعر بأنه في قفص
 
النظر
هو
مفتاح الفضاء الوحيد
 
يرى
المركز
نفسه
معكوساً
ويغطي نفسه بالدائرة
ولعل تأمل دلالات تلك الصياغات الشعرية الشذرية تعطينا رغم كثافتها مدى انفتاح النصوص على الفكر ،ومحاولة تأطير المعرفة بالشكل الشعري من خلال البناء الخطي الممتثل بدوره للشذرية في تشظية الأبيات إلى أسطر من كلمات، فلا وجود لجملة نحوية مكتملة ،بل ثمة جمل شعرية تتوالى لتشكل الإحساس بالحالة الشعرية كلها رغم تجزئة الملفوظ ونثره على الورقة كلمةً كلمةً غالباً. وتلك ميزة تشكيلية في الأساس، وهي جزء من خطة الشاعر ورؤيته. فالرسم يتطلب أيضاً الإحساس بأثر الحالة، وتسلم رسالة اللوحة دون النظر إلى جزئياتها التي قد لا تعني وحدها شيئاً تاماً في معيار الدلالة المستخلصة من قصائد النثر خاصة، كونها قصائد دلالة لا معنى في المقام الأول. وهذا هو شأن مضمون اللوحة حيث تتلخص رسالتها في دلالتها الكلية.
إن انتثار الجمل في كلمات تستقل كل منها على السطر أو مع كلمتين أو ثلاث يعد محاولة لإيجاد مظهر شذري يليق بالأفكار المختزَلة والمقطَّرة باقتصاد وبلاغة. وبذا يتطابق شكل الشذرات ودلالتها المفترضة. وهذا مجال آخر لدراسة افتراق دوشازال عن السورياليين الذين طالما بشّروا بشعره كتطوير لخطابهم وتنويعٍ عليه. وقد ذكر المترجم في مقدمته بعض أقوال السورياليين في تمجيد تجربة دوشازال، وأبرزهم أندريه بروتون الذي أعلن أنه وجد في أشعار دو شازال ما كان يدعو إليه ويبشّر به.
وثمة امتياز آخر بجانب ذلك الاقتصاد الشكلي والتركيز في نصوص الشذرات يكمن في وجود حس المفارقة في الخطاب الشعري لدوشازال. مفارقة تقرب من الدعابة لكنها كما يقول دعابة وردية وليست سوداء كما لدى السورياليين!
لقد قامت الدعابة الشعرية في صياغاتها الشائعة على المفارقة بأنواعها دلالية أو بنائية: منزاحةً لخلق الإحساس بها، أو بنائية لتوجيه القراءة إلى حقلها الدلالي إذا ما عددناها شكلاً من أشكال توصيل الاعتراض على الحقائق أو القناعات السائدة، أو تعديل النظر إليها.
وقد استخدم السورياليون المفارقة بطريق الدعابة بشكل حاد جارح وغير مترابط منطقياً حتى بالاحتكام إلى المنطق الداخلي للنص الشعري، وربما كان ذاك دافعاً لوصفها من قبل دو شازال بأنها دعابة سوداء. وهذا أبرز اختلافاته عن السورياليين، ودليل على مفهومه لرسالة النصوص التي تثير السؤال وتدفع إلى المعرفة.
والتساؤل هو من سمات النصوص الشذرية ، والتفكير  هو من سياقاتها الأساسية. وهو افتراض يستلزم العدوى أو التعدية ليصيب القارئ أيضاً. في إحدى الشذرات نقرأ:
عندما
لا
نفكر
نرتطم
جميعاً
بالهواء
هل يمكننا أ نعد هذه الدعوة للتفكير جزءاً من مانفست أراد الشاعر إنجازه في برنامجه الشعري المترامي الأطراف؟
مترجم الكتاب الشاعر عدنان محسن الذي يعمل في شعره أيضاً على دعابة قوامها المفارقة والتفكير في مغزى الأشياء ودلالاتها يشخّص في مقدمته عنصر الفكر في قصائد دوزال، مستشهداَ بقوله  (كان دانتي كاتباً كبيراً لأنه فهم ما لم يفهمه الكثير من الكتّاب: الكلمة كائن حي، ويمكن للكاتب أن يقوم بمزجها وتفكيكها ووضعها في المكان المناسب.). وسيعضّد ذلك رأي جورج باتاي وجان بولان بأن دوزال         ( فيلسوف، ليس للشعر عنده سوى وظيفة أخرى غير التي تعبّرعن أفكار. ويسعى عن طريق الحس إلى صياغة صورته الشعرية) كما يذكر المترجم.
ومن دروس الشذرات التي بودنا لو تدبر مغازيها كتّاب نصوص الهايكو توسيع الشاعر لأفق المفارقة، فنقرأ مثلاً أن (الصمت محامٍ يترافع بعينيه). ويكون للمفارقة توسيع صوري مبعثه المخيلة التي ترى الصمت في شخص محامٍ، لكنه لا يترافع بلسانٍ ثرثار أو حِجاجي مضلل، بل عبر عينيه اللتين لهما بلاغة اللغة حينذاك.
حقائق وأفكار لها قوة الشعر بسبب صياغاتها التي أوصلت لغة المترجم دلالاتها بوضوح ورشاقة أسلوبية تناسب تخلص أشعار دوشازال من الترهل اللفظي والتراكم المعنوي وجموح الخيال المفرط الذي يغلّف الفكرة أو يحجبها عن القارئ كما في بعض الصياغات السوريالية. تلك خلاصة أو هوامش على متن دوزال الذي سيترك أثره دون شك في كتابات الشعراء الباحثين عن التركيز والكثافة اللغوية والمعرفة ،عبر الفكر والحقائق التي تخدم المفارقة دلالاتها وتوصلها بيسر ..