الناقد العراقي حاتم الصكر في “نقد الحداثة”: قراءات استعادية في الخطاب النقدي – الشاعر هاشم شفيق

 
الناقد العراقي حاتم الصكر في “نقد الحداثة”: قراءات استعادية في الخطاب النقدي 
جريدة القدس العربي-لندن  
27 – أبريل – 2019
هاشم شفيق
 
يستحضر الناقد العراقي د. حاتم الصكر في كتابه النقدي الجديد “نقد الحداثة” عوالم النقد العربي الحديث، منذ مطالعه الأولى، وبزوع التجارب النقدية الوليدة على يد النقاد العرب الأوائل الذين أرسوا مفاهيم نقدية ونظرية وأسلوبية باكرة، مكتنهاً بخبرته الوفيرة واطلاعه المتمكن على سبر البكوريات في عالم النقد العربي وتشكلاته وفجر التأسيسات الباكرة لهذا الفن الذي أصبح بمرور الوقت، خطاباً نقدياً واسعاً، ومتفرعاً، وذا أصول ومدارس وتيارات وموجات، بدأت منذ مطلع القرن الفائت، ونمت لتتوسع في الربع الأول منه، ولتمضي وتيرتها بالتصاعد في فترتي الخمسينيات والستينيات وصعوداً باتجاه العقود الأخيرة من القرن المنصرم وحتى أيامنا.
يبحر الصكر في المراحل التأسيسية من مطلع القرن العشرين وربعه الأول، كاشفاً الرموز النقدية في كل من البلدان العربية مصر والعراق وتونس ولبنان، متمثلاً بالمهجر، بدءاً بعصر النهضة والتحديث ورواده المعروفين، كأعمال مدرسة الديوان في مصر، والممارسات النقدية البدئية للناقد العراقي رافائيل بطي، ومحاولاته الحثيثة في إرساء بناء نقدي يواكب مجرى النقد في العالم الأوروبي والأمريكي، وحفريات كل من “الرابطة القلمية” وميخائيل نعيمة في المهجر، في تأسيس وتوطيد وأنشاء بنية نقدية عربية وليدة وحديثة في كتابه اللافت “الغربال”، ومحاولات الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي في كتابه “الخيال الشعري عند العرب” ونقده للموروث الشعري، مضافاً إلى ذلك الخطاب المخترق واللاذع والجديد عهد ذاك لكل من الكاتب الكبير طه حسين، في “الشعر الجاهلي” والعلامة العراقي علي الوردي وكتابه “وعاظ السلاطين” .
غبّ هذه الفترة وبُعَيْد انصرامها، سيلتفت الناقد د. حاتم الصكر إلى المرحلة التجديدية في فترة الأربعينيات والخمسينيات ليشير إلى جهود محمد مندور النقدية الرائدة، ونازك الملائكة وتبشيرها بالشعر الحديث عبر تنظيراتها العديدة في كتابها المثير للجدل “قضايا الشعر المعاصر”، ومن ثم نكوصها وتراجعها في بعض المواضع، وإلى الجهود المتميزة لكل من جبرا إبراهيم جبرا في كتبه النقدية البارعة عن الحداثة الشعرية وتحولاتها، وكذلك الجهود الكبيرة والمبكرة والمدشنة لسياق الحداثة النقدية، تلك التي قدمها الناقد إحسان عباس، في كتاباته المتعددة حول الشعر الحديث، ككتابه “اتجاهات الشعر المعاصر”، وكتابه البارز عن السياب، وصولاً إلى التجارب الأحدث، كتنظيرات أدونيس النقدية ورؤاه حول الشعرية بوجه عام، والمدونات الرائدة والكشوفات النقدية الأجد لكل من كمال أبو ديب وجابر عصفور، وأسماء أخرى أحدث برزت في عالم النقد العربي لاحقاً مثل عبد الله الغذامي وسعد يقطين وعبد العزيز المقالح، وحركة النقد الحديث في العراق.
يعتبر كتاب الصكر هذا نقدا للنقد، لما سوف يوليه الناقد للأسماء البارزة من اعتبار نقدي، وفني وجمالي لأعمالهم الجلى، ولكنه وبحس الناقد الحصيف واللبيب والمُعتبر سيتخذ من النماذج النقدية مختبرا لدراسته، ليقدم بذلك قراءة استعادية للخطاب النقدي العربي، مبرزاً الأساليب والاتجاهات والمفاهيم النظرية التي يتمتعون بها، فضلاً عن المميزات الكثيرة لديهم، عدا الأصول والبنيات والمدارس والتيارات التي نهلوا منها، ليقدموها إلى العربية بذائقة مختلفة وجديدة.
ولكن ناقداً بحجم الصكر، وقف طويلاً أمام هذا المعمار الهائل للنقد العربي، سيرى ما يرى من ثغرات ونكوص وخلل في المنهج النقدي هنا وهناك، لدى هذا الناقد أو ذاك، فوجد ما وجد من تخرُّصات وتعالقات وتشاكل لدى كل واحد منهم، فأوضح عبر مفهومه النقدي ومنهجه البحثي، مراده ومسوغاته ورؤاه النقدية التي يرى أنها صائبة أو دقيقة، إزاء كل من ذكرناهم في هذا الكتاب المستعيد لأسماء برزت في فضاء النقد العربي، ولا يزال البعض منها مستمراً في عطائه النقدي، البحثي والجمالي، ولا يزال يثير الكثير من الآراء والوصايا والتسميات والمشكلات النقدية في كتب تظهر، لتحمل نتاج بعض النقاد المثيرين للإبداع والجدل والمجترحين آفاقاً منيرة، تنضاف لمسيرة النقد العربي المتواصل، والمرفود على الدوام بأسماء جديدة، تسعى إلى توظيف النقد في المجالات السردية، كما هو دارج وبارز وواضح وعلى نحو متواتر في النقد المنصب حول الرواية العربية، وحول نتاجها الغزير، ومن ثم صعودها المدوي في سماء الثقافة العربية، وذلك لم يكن لولا مواكبة النقد العربي الحديث لها، ولولا آراء بعض  النقاد العرب المبرزين في نقد الشعر حولها.
لا ينسى حاتم الصكر وهو في خضم نقده للنقد مسار وتحولات قصيدة النثر، وإلى ما آلت إليه أحوالها ومقاماتها، منذ بدئها على يد محمد الماغوط وأنسي الحاج وأدونيس ويوسف الخال وشوقي أبي شقرا، وحتى أواخرها، متناولاً البدايات والدراسات حولها، منذ نشأتها، مشيراً إلى أهم من درسها ونظر إليها في مرحلة انطلاقتها الأولى، مركزاً على أنسي الحاج والماغوط على نحو رئيسي، وشارحاً التحولات التي مرت بها على يد منظريها كأدونيس وسلمى الخضراء الجيوسي وخالدة سعيد في بعض وجوهها، ولكنه من ناحية أخرى يعطي لجبرا إبراهيم جبرا المجال الأوسع في تنظيره للقصيدة الخالية من الوزن والقافية، كالقصيدة الحرة التي كتبها الماغوط وتوفيق صايغ، أو قصيدة النثر التي كتبها توفيق صايغ وأنسي الحاج ونظر لها في ديوانه الأول “لن”، وسماها أدونيس تسمية مثيرة للإشكال والانقسام والحيرة بـ “قصيد النثر”، حسب منظرتها الفرنسية سوزان برنارد “قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا”.
أما نقد الناقد حاتم الصكر للنقاد الآخرين، والذي أطلق عليه تسمية “نقد النقد” فقد قدم الصكر في هذا المجال رؤيته المفاهيمية، وأسلوبه الجمالي النقدي، وتصوره الحداثي وتشخيصاته الفنية، ومحمولاته التعبيرية، على نحو يتسم بالعمق والدراسة والتحليل المنهجي المصحوب بالذائقة الشخصية للناقد، والمطالعة النزيهة والقراءة الواعية والمتأنية، الخالية من التحذلق والعسر النقدي والتقعر المفاهيمي في رسم صورة الناقد الآخر، المُكمِّل والنِّد النزيه والصنو المعاصر المدفوع بالتكامل الرؤيوي والحس المتماهي عملياً مع الآخر، فقدم عبر مفهومة نقد النقد، التحليل المستبطن والمكتنه والعليم لقراءة نهج الناقد الآخر، دون تجنٍ وبهتان وحط من معيار الآخر، بل وضع العلم المنطقي لمباهلة الآخر، بالرأي السديد والحجة المقنعة والدليل المستهدي، والرائق، في سبر عمق المكانة المواجِهة ودرسها بالقرينة الأدبية الرشيدة، ذات التوجه النقدي المتمكن، والواثق من المعلومة ومن النسق الفكري والعلمي والأدبي المسترشد به، وذلك كله جاء بالتخلص من عبادة النص وتأليه المسطور، والافتتان بالقائل والمقول، فناقدة من عيار نازك الملائكة، يرى أنها تقع في خطل حين تراجعت عن مسارها التنويري السباق في كتاب “قضايا الشعر المعاصر”، ويرى أنها تقيم وزناً كبيراً للدور الشفاهي لديها، وترى إلى أن البحور الصافية هي الوحيدة القادرة على كتابة القصيدة الجديدة، أي قصيدة التفعيلة، بينما البحور غير المتجانسة قد كتب بها السياب وشعراء آخرون، ذلك أنها لم تزل حسب الصكر متعلقة بالموروث الشفاهي للقصيدة “لأنها تتخيل جمهوراً مستمعاً وشاعراً منشداً، ثم تشتق هذه الأحكام الذوقية”. وكذلك رؤيتها للقصيدة المدورة فهي تقدم مسوغات غير مقنعة، أو “ربما رمت نازك شعراء القصيدة المدورة بالتعبير عن إحساسهم بالذل السياسي أمام إسرائيل وأمريكا وعن شعورهم بالقهر والكبت والانكسار والافتقار إلى العزيمة والصمود”.
إنه لرأي غريب حقاً أن ترمي شعراء بارزين كتبوا القصيدة المدورة كفن شعري وشكل شعري ينضاف إلى شكل القصيدة العربية التي ابتلت بالنسق الواحد والقالب المصبوب والنهج النغمي المتواضع، لتصمهم في المآل بهذه الوصمة العامة والعادية والخارجة عن أي مفهوم نقدي بارع وذكي ومتزن وله معيار فني وجمالي.
كما أنه يعرج باتجاه ثنائيات أدونيس الرديفة، الثقافية والفكرية والأدبية في كتابه “الثابت والمتحول”، وهي كثيرة كالقِدم والحداثة، الماضي والحاضر، التراث والمعاصرة، الارتداد والامتداد، العرب والغرب، الائتلاف والاختلاف، الخطابة والتدوين، الشفاهية والكتابة، المعروف والغريب، الباطن والظاهر، الوحي والعقل، البادية والحاضرة وغيرها من الثنائيات التي مست الكثير من أعماله الأدبية والشعرية والنظرية والفكرية وتهويماته الكتابية.
ومن هنا “يصح إذن استنتاج الدارسين بأن (الثابت والمتحوّل) هو استكمال لديوان الشعر العربي الذي وضع أدونيس بجانب مختاراته المقدمات النظرية التي ستظهر مستقلة لاهتمامه بها ولأهميتها في كتاب مستقل، لكن تشخيصه في الثابت والمتحول لتقليدية الشعر العربي، وأنه امتداد للشعر القديم يناقض ما قاله تماماً في مختاراته (ديوان الشعر العربي) حيث رصد تحولات واتجاهات شعرية بعضها سحري وسريالي وصوفي”.
كتاب الناقد حاتم الصكر شامل وجامع ومثمر، كونه تناول جميع الحقب النقدية البدئية، منذ ظهورها في مطلع القرن العشرين وحتى اللحظة.
د.حاتم الصكر: “نقد الحداثة”
دار أروقة للدراسات والترجمة والنشر، القاهرة 2019
270 صفحة.