الحداثة الأخرى: مقاربة الصكر المسكوت عنها للمحاولة العربية -دكتور حاتم الجوهري -مجلة أدب ونقد

 
 
من صفحة الدكتور حاتم الجوهري على الفيسبوك

د.حاتم الجوهري

في عدد مايو من مجلة “أدب ونقد” المصرية بحثي عن المسكوت عنه في مقاربة الصكر لمشروع الحداثة العربية وخاصة منهجيا وفكرة تغيير التلقي العام ومعادلته، وما الذي سكت عنه الصكر وتحدثنا عنه سطوره المكتوبة بماء.. لن أكشف أكثر من ذلك وأتركم مع نقدي لمقاربة الصكر النقدية وكشفا للمسكوت عنه عند د.حاتم الصكر.
————————————-
الحداثة الأخرى: مقاربة الصكر المسكوت عنها للمحاولة العربية

د.حاتم الجوهري
————————————-
في كتابه الصادر مؤخرا عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر بالقاهرة بعنوان: “نقد الحداثة: قراءات استعادية في الخطاب النقدي وتنويعاته المعاصرة”، يبدو مؤلفه الناقد والأكاديمي العربي المعروف د.حاتم الصكر هادئا في طرحه وأسلوبه اللغوي ، في حين أن أطروحة الكتاب تشي بغير ذلك تماما وإن بدت هادئة مطمئنة، فهل كان الصكر يتحيط في خطابه لأنه يتناول بالفعل اللحظات التاريخية التي شكلت وعي الحداثة العربية بحلوها ومرها؟ خاصة وأن الصكر وإن لم يعلن ذلك صراحة في مقدمته للكتاب؛ كان يراجع العديد من أشهر وقائع ومعارك الحداثة العربية فكريا وأدبيا وفق منهج معياري خاص اصطكه لنفسه.
مقدمة مراوغة
لسبب ما جاءت المقدمة لحد بعيد مقتضبة إجرائية تبشر بمساحة عامة للولوج للكتاب بوصفه نقدا أو قراءة أخرى للمنجز النقدي العربي خلال القرن الماضي في علاقته بالحداثة ومعاركها، فيها أعلن د.الصكر عن منهجه الذي سيستخدمه في مراجعة وإعادة قراءة ذلك المنجز النقدي، وسمى هذا المنهج بـ”القراءة الاستعادية” الذي يقوم على إجرائين أساسيين الأول هو تحديد الدوافع التي أثرت على الكاتب أو الناقد وشكلت وعيه ورسمت الهدف من وراء كتابته، والثاني هو دراسة أثر تلقي المادة المكتوبة على محيطها الاجتماعي، وهل كان الكاتب سيراجع نفسه ويغير في المادة الأصلية بعض الشيء شكلا ومضمونا لتكون أكثر اتساقا مع محيطها الاجتماعي لو امتلك الفرصة!
مُدخلات الحداثة ومُخرجاتها
بالأساس الصكر هنا يقدم مقاربة تعتمد على البحث عن السياق الاجتماعي الخاص الذي أنتج النص النقدي عند مؤلفه، ويعتمد على السياق الاجتماعي العام واستقباله وتلقيه للنص النقدي وقدرته على التأثير فيه والتأثر به، وهو ما يجعلني أضع السؤال حول ما إذا كان الصكر متواضعا أم حائرا أم مترددا في مقدمته للكتاب؟ علَّ د.الصكر كان متواضعا ربما في مقدمته الهادئة، فالاسم الذي أعطاه للمنهج وهو “القراءة الاستعادية” كان غير معبر تماما عن ركنيه الراديكاليين تجاه مدخلات الحداثة (دوافع المؤلف في نصه) ومخرجات الحداثة (أثر النص في محيطه والعكس).
الصكر ربما في تواضع أو حذر كان يضع تعميما نظريا من خلال منهجه، يجوز لنا أن نبحث له عن اسم أكثر جرأة من اسم “القراءة الاستعادية” الأقرب لما هو إجرائي، الصكر كان يرسم ويحدد معايير “الحداثة العربية المفقودة”، كان يبحث في “المسكوت عنه” داخل المحاولة العربية لمقاربة الحداثة وسبب تعثرها، في جدل بين المؤلف المنتسب للحداثة (منتج النص) والمتلقي المنتسب للواقع (مستقبل النص)، الصكر في هدوء ولباقة ودماثة خلق كان يضع فرضية نظرية دون أن يعلن ذلك تختبر وتزن معظم محاولات الحداثة العربية.
“حاكمية السياق” أم “حاكمية النص”
هل كان الصكر في حالة تردد من أن تحسب محاولته لاستعادة السياق العربي (إنتاجا واستقبالا) على غير ما يريد! خاصة وأنه يعلن مرارا وتكرارا في كتابه أنه ضد التمركز حول الذات والقطيعة من الآخر، هل كان الصكر في مقاربته يتحدث عن نظرية تقوم على فكرة “السياق الحاكم” أو “حاكمية السياق” وضرورة الارتباط به في مواجهة “حاكمية النص” الحداثي وإخضاع السياق له عند البعض؟ تحمل طيات خطاب الصكر ما يفيد بأن المعيار الرئيسي للتوحد مع السياق الاجتماعي واستنهاضه للتحديث والتطوير، هو أن تُعَبر التمثلات الفكرية في خطابها للناس عن مساحة الخصوصية التاريخية (التراثية/السياقية) بالنسبة لهم، وأنه يجب عليها أن تطور من خطابها وتغير فيه لتحقق هدف التحديث، بعيدا عن التمترس حول خطاب (نص) بعينه يجعل التحديث شيئا أقرب للأيديولوجيا أو المقدس/ التابو، وهو يبدو ما جعل محاولة الحداثة العربية تتعثر في تحديث المجتمع العربي كما يطرح البروفيسور حاتم الصكر.
أعتقد أن الأجابة على السؤال والكشف عن حقيقة “الحداثة الأخرى” المسكوت عنها عند حاتم الصكر، ومنهجه في السياق الحاكم ستتضح عند دراسة كيفية تطبيق منهجه السياقي على المحاولات العربية ومراجعتها، سواء في الأطروحات النقدية والفكرية الصرفة التي حُسبت على الحداثة العربية، أو في التمثلات الأدبية والأشكال الأدبية الجديدة التي ارتبطت بالحداثة العربية كـ”قصيدة النثر” أو شيوع الرواية وإزاحتها للشعر، هنا فقط سيكشف الصكر عن نفسه وعما يريد قوله حقا.
هناك في الكتاب محطات فاصلة يمكن أن نستدل منها على مشروع الصكر الحقيقي لمقاربة محاولات الحداثة العربية، منها ثلاث دراسات دالة تحديدا في المسألة الأدبية قبل أن ننتقل لتناوله للمسائل الفكرية التي ارتبطت بالحداثة، وهى دراساته التي تناولت كتاب “المرايا المحدبة” لعبد العزيز حمودة، وكتاب “زمن الرواية” لجابر عصفور، وأخيرا تناوله لمشروع “قصيدة النثر” العربية وأزمة تلقيها.
المرايا المحدبة: دفاعا عن الفكرة
سنبدأ بتناوله لـ”المرايا المحدبة” لأنه يحمل دلالة رئيسية في الكشف عن طبيعة الصكر الخاصة (كمنتج للنص النقدي بدوره)، سيبدو الصكر في الكتاب في حالة استياء من عبد العزيز حمودة لسبب واضح من عنوان الدراسة وهو “تجريم الحداثة عبر المرايا المحدبة: إضاءة النصوص أم إضاعتها”، لكن سيتضح لنا شيئا فشيئا أن دفاع الصكر عن الحداثة هنا هو في حقيقة الأمر دفاعا عن “الحداثة الأخرى” الخاصة به، وليس مجرد دفاع عن محاولات الحداثة العربية في العموم أو جذورها الغربية في الخصوص، فدفاع الصكر في الأساس هو دفاع عن الفكرة وحلم التحديث وليس دفاعا عن المحاولات أو تقديسا لها، وهو يقول في ذلك: “سنجد أن الحداثة كلها مستهدفة وليس النماذج المنهجية أو نماذج التحليلات النقدية التي اختارها لإثبات التهم” (الكتاب ص181). وهو ما يتأكد حينما يقول مستنكرا عن عبد العزيز حموده: “فلا الحداثي الناقل عن الغرب إذن بمنجى من هجوم المؤلف، ولا الناقد الذي يكيف ويعدل ويطور المنهج ويجتهد فيه” (الكتاب ص182).
وتأكيدا على أن الصكر يبحث عن حلم التحديث المجرد و”الحداثة الأخرى” المسكوت عنها وعن معاييرها المفقودة في المحاولات العربية، سنجد في دراسته عن “المرايا المحدبة” نقطة أخرى شديدة الدلالة والأهمية، فهو في سياق هذه الدراسة سيدافع عن جابر عصفور في مواجهة عبد العزيز حمودة حين يقول: “ويقع في تناقض آخر إذ بعد حملته على غموض النص النقدي نراه يرفض التبسيط الذي يصف به بعض كتابات جابر عصفور حول الحداثة” (الكتاب ص182). والدلالة هنا أن الصكر يدافع عن عصفور في سياق الدفاع عن الفكرة العامة المجردة، لكن الصكر سيعود بحثا عن “الحداثة الأخرى” المسكوت عنها التي يحلم بها، ليقف في مواجهة محاولة جابر عصفور ذاتها ومقاربته للحداثة العربية، ليفند في دراسة أخرى شملها الكتاب أطروحة عصفور حول إزاحة الشعر لصالح الرواية وربطه بين هذه الإزاحة وفكرة الحداثة، لتكون هذه الدراسة هى محطتنا التالية في الكتاب.
زمن الرواية: اختلافا مع التطبيق
في دراسة بعنوان: “زمن الرواية لجابر عصفور: الانقلاب على تراتب الأجناس الأدبية”، يبرز واحد من أوضح مواقف الصكر في بحثه عن التحديث و”الحداثة الأخرى” الخاصة بمنهجه في فكرة “السياق الحاكم”، حيث يبدأ الصكر في ممارسة إجراءيه المنهجيين الرئيسيين: لرصد دوافع إنتاج الكتاب من جهة وتلقيه من جهة أخرى، ليخرج بالتعميم النظري في تطبيق منهجه على محاولة جابر عصفور ومقاربته للحداثة العربية، فيرصد ضمنا السياق التاريخي المنكسر الذي استند عليه جابر عصفور للتأسيس لفكرته عن زمن الرواية حين أورد من كتاب عصفور ما يقول: “وإذا كان الشعر ابن اللحظات الحدية من التاريخ.. فإن الرواية ابنة اللحظات الرمادية من التحول” (الكتاب ص185)، لكن الصكر يعود ليرد في حصافة – تحمل من المسكوت عنه أكثر من المنطوق – رافضا باستنكار دافع الانكسار كمنتج للنص الحداثي عند عصفور وإلصاقه بفكرة التحديث والحداثة عموما، حين يقول: “ولتكتمل المقولة عصريا تتم نسبة التحديث حصريا للرواية.. وقرينة التحولات التي وصفها جابر عصفور شعريا أيضا بالرمادية لما فيها من انكسارات وهزائم..” (الكتاب ص187).
ثم يرصد الصكر المبررات النظرية التي اسيتند لها عصفور لينتج نصه (الحداثي) عن زمن الرواية، والتي ترتبط أيضا بفكرة سياق الانكسار التاريخي من حيث أن الرواية تعبر عنده عن التعاقب والأحداث المتوالية التي لا تحمل موقفا حديا واضحا للنهضة واختصار العالم كما يفعل الشعر، ورصد الصكر جذرها الغربي عند “الشكلانيين” بين التعاقب للرواية والتزامن للشعر. لكن الصكر يعلن موقفه ونقده وتلقيه الشخصي لأطروحة عصفور حين يقول: “لكننا نتساءل كيف اكتسبت الرواية هذه الطبيعة التعاقبية والحركية الزمنية التي لا يمتلكها الشعر؟” (الكتاب ص186)، ويرفض النموذج الذي قدمه عصفور للتفرقة بين وصف الشعر والرواية من ناحية طبيعتهما الفنية وقدرتها على التعبير عن السياق حين يقول: “لكن المؤشرات كلها تدل على أن استنباط الوصفين لا يأتي من تلك الطبيعة” )الكتاب ص186(، ثم بالحصافة نفسها المستمرة طوال الكتاب يعلن الصكر رفضه لقبول السياق الذي أنتج فكرة زمن الرواية عند عصفور، وقيام عصفور – المسكوت عنه – بالربط بين الحداثة وبين الانكسار وبين الرواية، وإزاحة الشعر كأثر للانكسار وغير الحداثي، فيقول الصكر في كياسة شديدة: “لي اعتقاد بأن الوصف التعاقبي والتزامني، أو الآني الرأسي والمتتابع الأفقي إنما اجتلبت من موقف أو سياق التداول والتلقي غالبا، لا من نظام أو شعرية كل من الرواية والشعر” (الكتاب ص187).
كما يؤكد الصكر انتصاره للتراتب القديم (الموروث/التراثي) للأجناس الأدبية ومكانة الشعر خاصة في علاقته بالجماعة، حين يقول : ” الشعر الذي لم يدخر كتابه جهدا لمحاولة احتواء وجدان الفرد، وهجس الجماعة، والتحولات في رؤاها وتصوراتها عبر أشكاله المتقدمة فنيا ورؤيويا” (الكتاب ص189). وعند إعمال الشق الثاني من منهج الصكر الإجرائي وتلقي النص واستقباله في محيطه وسياقه، كان حياديا بأن أثبت لعصفور أثر كتابه في محيطه وتحريك الراكد، وأثبت الصكر لنفسه حقه في التلقي الخاص والاختلاف الكلي مع أطروحة جابر عصفور ومحاولته في الحداثة العربية وذلك حين قال: “ولجابر عصفور وكتابه فضيلة تحريك الراكد من الثوابت ومعاينتها بمناظير جديدة أسهم الكاتب في ترسيخها منهجيا وتطبيقها عمليا بسعة وشمول نادرين، رغم اختلافنا كليا حول لب أطروحته” (الكتاب ص190).
قصيدة النثر: بحثا عن النموذج
أما المحطة الثالثة والأخيرة التي سنقف عندها في تناولنا لمقاربة الصكر للتمثلات الأدبية التي ارتبطت بالحداثة العربية ومحاولتها، قبل أن ننتقل لدراسة مقاربته للتمثلات الفكرية التي ارتبطت بها، فستكون في تناوله لـ “قصيدة النثر” وأزمة تلقيها في دراسة شملها الكتاب بعنوان “قصيدة النثر وحجاب التلقي: قراءات انتقائية للمقترح والنصوص”، هذا مع ضرورة الإشارة إلى أن الصكر يتحيز بالفعل للشعر أو للقصيدة كما ظهر في موقفه من جدلية زمن الرواية عند جابر عصفور.
أعتقد أن لب “الحداثة الأخرى” ومشروع حاتم الصكر الذي يبحث عنه يتبدى أكثر ما يتبدى في هذه الدراسة، فهو حين يبحث في دوافع وسياقات ظهور أو إنتاج قصيدة النثر العربية كإجراء أول في منهجه السياقي، ثم حين يبحث في أزمة تلقيه وأسباب هذه الأزمة كإجراء ثاني في منهجه السياقي؛ تظهر روحه التبشيرية هنا لحد بعيد. فيرصد الأزمة في سياق إنتاج قصيدة النثر العربية تحديدا لدى مجموعة مجلة “شعر” اللبنانية صاحبة المبادرة، ناقدا تقديسهم لكتاب سوزان برنار وتحويلهم القصيدة لشكل مدرسي نمطي حين يقول: “ولعل أكثر الجنايات التحديثية فداحة هو ما بشرت به المجلة بحماسة غريبة لأفكار سوزان برنار في أطروحتها عن قصيدة النثر.. وليس الخطأ في تبني أفكار برنار والقوانين التي استقرأتها من متابعة التحديث في أدب لغتها الفرنسية، بل في التلخيص المخل والابتسار الذي صنعه كتاب المجلة لتلك الأفكار والصنمية التي منحوها لها” (الكتاب ص261).
ويستمر الصكر في تناول أسباب الأزمة في إنتاج قصيدة النثر العربية عند جماعة شعر راصدا عدة عيوب ذاتية عند منتجيها حين قال: “عانت من عيوب داخلية يمكن أن نسمي منها: تضخيم الذات وتكبير الأنا وتجسيمها، وتعالي خطابها على المتلقي وافتراض جهله غالبا.. من حيث أراد كتابها رفض المهمة الاجتماعية وإصلاح الواقع بالشعر، قاموا بنقد مجتمعاتهم وأسندوا للقصيدة مهمة التغيير والبناء، ومن حيث رفضوا مفهوم الجماعة وانضواء الشاعر كفرد تحت مسمياتها، راحوا يعبرون عن كونهم ممثلي الضمير المعاصر والحياة الجديدة” (الكتاب ص257).
أما من ناحية التلقي وأثر القصيدة في محيطها الاجتماعي بمستوياته المختلفة كإجراء ثان؛ يرصد الصكر أزمة تلقي قصيدة النثر على مستوى النخبة الشعرية من خلال موقف مدرسة الشعر الحر التي تحسب بدورها على محاولات التحديث العربية، ويعدد أسباب رفض نازك الملائكة وغيرها لها من جهة في القرن الماضي، ويعرج من جهة أخرى على القرن الحادي والعشرين عند أحمد عبد المعطي حجازي في كتابه “القصيدة الخرساء” الذي صدر في العقد الأول من هذا القرن، في خضم معركة حجازي مع شعراء قصيدة النثر المصرية الذين تبلور مشروعهم منذ تسعينيات القرن الماضي. وفي مستوى تلقي ثاني عند النخبة السياسية يرصد الصكر أزمة تلقي قصيدة النثر العربية عند القوميين واليساريين العرب ويبرز دور الشعراء أنفسهم في ذلك.
كما يرصد الصكر التلقي الأهم وهو مستوى التلقي العام عند الجماهير حيث يبرز هنا كذلك مشروع الصكر التبشيري على استحياء وفي هدوء، فمن ناحية التلقي العام والسياق الجماهيري يقول الصكر ما يفيد أن قصيدة النثر كسرت كل المتوقع الشعري في مخيلة التلقي عند الجماهير العربية دفعة واحدة، من ثم نشأ حجاب التلقي السميك بينها وبين التلقي العام، لكن المهم هنا أن نرصد ما طرحه الصكر كمحاولة منه لعبور حجاب التلقي هذا، هو لم يكرر على نقده الذاتي لخطاب قصيدة النثر أو اختيارات شعرائها، فقد قام بذلك بالفعل في إجرائه الأول بدراسة سياق إنتاجها، لكنه هنا سيتحدث عن نقطة شديدة الأهمية وللمرة الأولى عن تغيير السياق كلية، نعم تغيير سياق التلقي العام أو تغيير المتلقي ذاته ووعيه التاريخي المتراكم داخل السياق الزمني وكأنه يتحدث عن ثورة حين يقول: “إن السعي لخرق جدار التلقي لا يؤتي نتائجه سحريا، بل باكتمال التفتح الثقافي والمعرفي للقراء، والارتقاء بفعل القراءة بعيدا عن الاجترار والتقليد، والاعتقاد بخصوصية القصيدة وسط الكيان الشعري الكبير الذي يلتهم وجودها لصالح وجوده” (الكتاب ص259).
لكن لب المسكوت عنه في محاولة الصكر لمعيرة محاولة الحداثة العربية ومنهجتها سياقيا يظهر هنا أيضا، الصكر أمسك هنا عن شيئين وربما سياقه الذاتي/ التاريخي جعله يكتفي بالإشارة لهما من بعيد، لكن هذان الشيئان هما جوهرة التاج التي افتقدتها ربما أطروحة الصكر السياقية عن الحداثة العربية، أولا الصكر اكتفى لحد بعيد بدور الناقد الثقافي هنا ولم يقدم نقدا أدبيا وفنيا بديلا للعيوب التي رصدها في قصيدة النثر، ثانيا لم يتناول الصكر كيفية تغيير سياق التلقي العام عند الجماهير وآليات ذلك وسبل الوصول تلك الثورة في الوعي التاريخي. أعتقد أن منهج الصكر اكتفي لحد بعيد بما هو نقدي إجرائي وسكت عما هو تبشيري نظري بطريقة ما، لكنه ترك لنا الإشارات الكافية لنكمل الأجزاء الناقصة، المنهج السياقي الذي يطرحه الصكر يحتاج ببساطة لترقب لحظة تاريخية مفصلية تنتج التحول المطلوب عند منتج النص (الأدبي أو الفكري) وتمنحه دافعا جماعيا يجعل يصنع الجسر الطبيعي بينه وبين المتلقي العام (الجماهير).
الشعر الجاهلي لطه حسين والاستجابة للسياق
لكن دعونا لا نستبق الخاتمة ونذهب لنستعرض منهج الصكر السياقي في مقاربته لثلاثة مشروعات فكرية ذائعة الصيت ارتبطت بمحاولة الحداثة العربية، ونرى كيف سيطبق إجرائيه السياقيين على تلك اللحظات المحفورة والمؤسسة في الذاكرة العربية، وهذه المشروعات الثلاثة هى طه حسين وكتابه “في الشعر الجاهلي”، وأدونيس في “الثابت والمتحول”، وإدوارد سعيد في “الاستشراق”، حيث ستتضح اكثر فكرة التبشير السياقي الذي يمرره الصكر داخل إجرائيه المنهجيين بهدوء، ورصده لمحاولات كل من طه حسين وأدونيس للتماس مع السياق رغم كل شيء، ورصده للوعي بالذات الذي يشبه الثورة المعرفية عند ادوارد سعيد.
عند تطبيق منهجه السياقي في معركة طه حسين جاءت دراسة الصكر بعنوان “في الشسعر الجاهلي لطه حسين”، ولكي يرصد مؤثرات ودوافع إنتاج مضمون النص أو الكتاب قال الصكر إن طه حسين تأثر في منهجه داخل الكتاب بعاملين، الأول هو ابن خلدون ورفضه لفكرة التأريخ والتدوين القائم على السرد أو الرصد دون حضور للتمحيص والرأي والمراجعة، والثاني هو ديكارت وتأثر طه حسين بفكرة الشك كآلية أساسية للوصول للحقيقة واليقين، ونقد الصكر تحول الشك من آلية إلى غاية بدرجة ما عند طه حسين، حين يقول في ذلك: “ولكن طه حسين –وهذا مبعث نقد الكثيرين لمشروعه- لم يعدَّ الشك لحظة منهجية تكتيكية أو افتراضية كما أرادها ديكارت بل صارت لديه غاية مهمة في مركز الطريقة أو منهج البحث” (الكتاب ص32).
وعند تطبيق الإجراء الثاني وفكرة التلقي وأثر النص في محيطه الاجتماعي والعكس، يرصد الصكر تلقي كتاب طه حسين والمعارك التي دارت حوله خاصة وقائع المحكمة القضائية، التي جعلت المحيط يؤثر في النص ومن ثم أصدر طه حسين الكتاب في طبعة جديدة بعنوان “في الأدب الجاهلي” بعد أن تجنب أربع نقاط أساسية تاريخية ودينية، كانت قد أثارت المحيط الاجتماعي وتلقيه ضد طه حسين في المحاكمة، حيث يقول الصكر في ذلك: “وهذا يفسر رد الفعل الذي قوبل به الكتاب والمحاكمة التي جرت للمؤلف، وما جرى له من تنقيح له بعد صدوره لاحقا بعنوان جديد هو: في الأدب الجاهلي متخلصا من النقاط الأربع التي سجلت ضده في المحاكمة والتي يتصل أغلبها بالموقف من قضايا تاريخية ودينية، لا حول الأطروحة ذاتها” (الكتاب ص31).
الثابت والمتحول: أدونيس مراجعا
وفي تناول الصكر لكتاب الثابت والمتحول لأدونيس في دراسة بعنوان: “صراع الاتباع والإبداع في الثابت والمتحول لأدونيس” يزداد وضوح منهجه السياقي القائم على رصد مسببات إنتاج النص ودوافعه من ناحية وعلى تلقيه واستجابته لهذا التلقي من ناحية أخرى، فيقول إن الفكرة المؤسسة لأطروحة أدونيس عن الاتباع أو الإبداع، أو الثابت والمتحول، هى وصوله أو اتكاؤه على أن الذات العربية القديمة تؤمن بفكرة النموذج الطارد لما عداه، وهذا النموذج المطلق في الحالة العربية هو الأصل القديم الثابت المُتبع، وأصبح المطرود والمرفوض هو كل جديد ومستحدث وطارىء، وذلك حين قال: “لأن الثبات والاتباع كما يراه أدونيس قادم من لحظة تاريخية سابقة ظل العرب بحكم عدم اعتقادهم بالنهايات منساقين لهيمنتها، وتتلخص في البحث عن أصل أو نموذج طاؤرد لما عداه” (الكتاب ص118).
عند تطبيق فكرة التلقي على كتاب الثابت والمتحول يرصد الصكر سلسلة محاضرات لأدونيس بمكتبة الإسكندرية 2006م حول فرضية إعادة كتابة كتابه الثابت والمتحول، حين تحدث أدونيس عن السياق الاستقطابي الشديد الذي ظهر فيه الكتاب بين دعاة التجديد العرب ودعاة استمرار القديم، وأثر ذلك على الأحكام (النيات) المسبقة التي استقبل بها الكتاب، ثم رصد الصكر ما قاله أدونيس عن أثر ذلك التلقي عليه في حالة كتابة الكتاب مرة أخرى، بأن قال أدونيس إنه سيحتفظ بمصطلح الثابت والمتحول في إشارة لاستبعاد ما أثاره التلقي في حينه، وهو العنوان التفسيري “بحث في الاتباع والإبداع عند العرب” الذي اصطدم بحالة الاستقطاب وسياقها القائم بالفعل.
الوعي بالذات وسياقها في “استشراق” إدوارد سعيد
أما المشروع الفكري الثالث فهو تناوله إدوارد سعيد في دراسة بعنوان “أقنعة الاستشراق: تمثيلات الآخر في كتاب إدوارد سعيد”، وهنا سيختلف ولابد تناول الصكر لمشروع سعيد، فإدوارد سعيد يبدو أنه الوحيد الذي نجح لحد ما في تغيير السياق الخاص به، ونجح في صنع تأثير ما ربما لأن تلقيه كان موزعا بين الشرق العربي والغرب الأمريكي، ولأن عوامل تكوين شخصيته وإنتاج نصه تأثرت بالوعي بالذات والوعي بالاخر أيضا. ففي منهجه السياقي وبحثا عن المكونات والدوافع التي أنتجت نص الاستشراق عند ادوارد سعيد يستعرض الصكر عدة عوامل محتملة ومتجاورة تم رصدها، منها كشف إدوارد عن الحقيقة المعرفية للاستشراق ودوره ربما باعتبار إدوارد سعيد مُطلعا ومنتميا لذات العربية والأمريكية في الوقت ذاته، فامتلك الوعي بالذات والوعي بالآخر من داخل بنيته ذاتها، ويكشف الصكر عن أهم أبنية ادوارد سعيد الغربية التي وظفها لفهم الاستشراق وتفكيكه، وهو اعتبار الاستشراق حسب مفهوم فوكو الذي تباه إدوارد خطابا ذا سلطة، ينتج صورة نمطية ويؤكد عليها حين يقول: “هنا كانت التفاتة سعيد المهمة، فهو يتحدث عن علاقات ثقافية وسياسية يريد الاستشراق بكونه خطابا ذا سلطة حسب المفهوم الفوكومي الذي تبناه سعيد، أن يلخصه في صورة نمطية تشيع وتترسخ ليسهل من بعد رفضها، وتبرير كراهيتها” (الكتاب ص112).
وساق الصكر أمثلة دالة لإبراز فكرة سعيد عن الخطاب صاحب السلطة والربط بين المعرفي والواقعي والسياسي، فمصطلح الانتداب الذي صاحب الاستعمار دُشن بفرض أن الشرق متخلف وفي حاجة للوصاية والحماية، ومصطلح أو التسمية الغربية لحكايات “ألف ليلة وليلة” هى “الليالي العربية”، للتأكيد على انها صورة واقعية ونمطية وحقيقية وليست سرديات قصصية بها من الخيال والأساطير والإضافات الكثيرة.
وعند إعمال إجراء التلقي وأثر النص أو كتاب سعيد في محيطه وسياقه، فسنجد أن الصكر يقاربها من زاوية مغايرة عند سعيد، لأن سعيد نجح في تقديم نموذج مغاير للحداثة يختلف عن طه حسين وعن أدونيس، هى حداثة قائمة على الوعي بالذات والتأكيد عليها من خلال خطاب ومنهج تفكيكي للحالة المعرفية للاستشراق بأكمله في الغرب، لذا فقد استعرض الصكر هنا أثر التلقي كمحاولة للبحث عن آلية جديدة في التعامل مع الآخر، ويرصد الصكر رفض سعيد إنتاج خطاب سلطوي تتبناه الذات العربية كرد فعل لخطاب الاستشراق وسلطته، وجهوده كمنظر لمرحلة ما بعد الكولونيالية. لكن تظل معادلة سعيد المعرفية في حاجة لعنصر ينقصها إذا أردنا تطبيق منهج الصكر السياقي، وهو لحظة توحد تلك المعرفة مع حاضنة عربية تستعملها كرافعة للتحديث والعبور للمستقبل، وهذا ما سكت عنه بعض الشيء الصكر، كما سكت عنه نوعا في بحثه عن نموذج قصيدة النثر المنشود الذي نقده عند مجموعة مجلة شعر.
الخاتمة: بحثا عن اللحظة المفصلية للسياق
أعمل الصكر منهجا حاكما ليقيس به محاولات التحديث العربية في ظل تماسها مع خطاب “الحداثة” ونصوصه في جذوره الغربية وتمثلاته العربية، اعتمد هذا المنهج على إجرائين راديكاليين اهتما بسياق إنتاج نصوص الحداثة وأفكارها وتمثلاتها الأدبية ذلك كإجراء أول، ثم تلقي هذه النصوص والأفكار والتمثلات الأدبية داخل سياقها وحاضنتها الاجتماعية وتأثرها به وتأثيره فيها، بحثا عن علاقة جدلية بين المنتج والمستقبل لخطاب التحديث لينظر أين حدث الخطأ ولماذا تعثرت محاولات التحديث العربية كإجراء ثاني، ويبدو منهج البروفيسور الصكر منهجا سياقيا أسماه هو “القراءة الاستعادية”، وكان المسكوت عنه في منهج الصكر السياقي وحلم بحثه عن “الحداثة الأخرى” التي يطاردها عبر دراساته، هو بكل بساطة أن المنهج السياقي يحتاج للحظة مفصلية رغم كل محاولات التبشير الفردية، وأن الأزمة في الحالة العربية كانت افتقاد اللحظة المفصلية التاريخية لإنتاج التحديث، بما جعل خطاب الحداثة والمحاولات العربية يتم تنميطها وقصرها في إطار خلق التناقضات السياسية، وإدارتها من جانب سلطة عربية مركزية اعتمدت طوال القرن الماضي على بنية عسكرية تدير التناقض الكلي وتُشكله بين يسار اشتراكي وقومي يرفع راية الحداثة والعلمانية كنصوص مقدسة، في مواجهة يمين ديني ما بين جهادي وسلفي وإخواني يرفع راية التراث والموروث كنصوص مقدسة!
فرق الصكر بوعي بين التحديث كفعل وبين “الحداثة” كمصطلح له سياقه، لم ينخرط في الدفاع عن “الحداثة” ومحاولاتها العربية كمقدس، بقدر ما اهتم بفعل التحديث وكيف يمكن لنخبة ما أن تتواشج مع حاضنتها الاجتماعية الذاتية ليعبرا معا للمستقبل، برز طموح الصكر الأكبر في “حداثة أخرى” من خلال موقفه من الشعر وقصيدة نثر مستقبلية مفترضة لم يضع لها نموذجا فنيا له توصيف أدبي بعينه، بقدر ما حلم بأن يكون الشعر هو لحظة التوحد والوعي التاريخي الجديد عند التواشج مع الحاضنة العربية ولحظة عبورها للمستقبل. كما أن الصكر رأى في نموذج ادوارد سعيد ووعيه بذاته إرهاصة لحداثة عربية قادرة على تحقيق معادلة خاصة بها، وإنتاج خطاب جديد تُعَبر به عن نفسها وتواجه به الآخر (الحداثي الغربي أيضا)، حيث أفصح ذلك عن موقف الصكر من العالم بقدر ما سمحت به ظروفه التاريخية وسياقه الخاص بدوره.
ويبقى أهم ما طرحه الصكر مسكوتا عنه؛ في علاقة التغيير في السياق العربي بوجود لحظة مفصلية قادرة على إحداث التغير في الوعي المشترك والمتواشج عند منتج نص التحديث ومتلقيه في آن واحد، ويبقى هنا السؤال ملحا هل كجزء من خلق التناقضات العربية وإدارتها منذ سياق القرن الماضي، أغمض كثير من دعاة الحداثة العرب أعينهم عن لحظات مفصلية ثورية بعينها كانت قادرة على خلق خطاب التحديث وتثوير وعي التلقي التاريخي المتراكم، وتحولوا إلى ما يشبه سدنة أيديولوجيا “الحداثة المقدسة” وأصبحوا عقبة حقيقية في سبيل التمفصل حول لحظة عربية منيرة جديدة تخلق نخبتها وخطابها وتراكمها الخاص في القرن الحادي والعشرين وفي العقد الثاني منه؟ إنما ستبقى مقاربة الصكر الفعالة وبحثه عن “حداثة أخرى” تربة خصبة لما سينثر فيها من بذور أحلام أخرى، قادرة على التواشج بعضها البعض أملا في تغيير سياق التحديث وبحثا عن لحظته المفصلية التاريخي