حاتم الصكَر التنوع النقدي-بقلم الشاعر أسامة غالي-العربي الجديد

 
 
 
حاتم  الصكر… التنوع النقديّ  وحداثة الكتابة
ورقة أولى
جريدة العربي الجديد -لندن- 8 ديسمبر 2018

بقلم أسامة غالي  –  

في الثقافةِ العراقيّة، في حداثتها الفنيّة والأدبيّة، ظهرَ فنانون و مبدعون، وتشكّل في ضوءٍ من هذا توصيف الريادة، ثم توالت اسماء هامة شكّلت ما يعرفُ بالأجيال، الخمسينين، والستينين، وما بينهما، وبعيداً عن هذه التوصيفات والمحددات وإشكاليتهما، رافق النقدُ هذه الاشتغالات، وتابعها معرّفاً بها، محدداً مدى استجابتها لأسئلة التحديث، متخذاً منها طريقاً في تدشين مناهج نقد مجاورة، ورؤى مبتكرة، وأساليب جديدة، وكانَ من بين من زاولَ هذا النقد نهاد التكرلي، ونقاد أخرون زاولوا ضروباً أخرى في النقدِ، ومضى النقدُ العراقيّ خطوةً في الطريقِ إلى الحداثةِ، مثله مثل الفنِ، والسردِ، والشعرِ، غيرَ أن أغلب النقادِ كانوا يشتغلون في اطارٍ واحدٍ، الأدب بتنويعاته، أو الفن، التشكيل والمسرح بخاصةٍ، دونَ أن يتجاوزَ اشتغالهم هذه المحددات، ناقد أدبيّ، ناقد فنيّ، وكانَ جبرا إبراهيم جبرا استثنائياً في تجاوزه، فكتبَ عن الشعرِ والروايةِ والتشكيلِ، كتبَ عن (المرايا والمسرح) لأدونيس مثالاً، وكتبَ عن (النهايات) لعبد الرحمن منيف، وكتبَ عن (أعمال) الفنان إسماعيل الشيخلي، وكتبَ، أيضاً، عن مسرحيات غسان كنفاني، وإلى جوار نقده التطبيقيّ تجيء رؤاه النقديّة في مفهوم الأدب والفن بعامةٍ، وفي هذا كلّه لا ينحازُ إلى شكلٍ دونَ آخر، فيكتبُ عن السياب رائد الشعر العراقيّ الجديد ويكتبُ عن الجواهري، فضلاً عن مساهماته الإبداعيّة في الشعرِ والروايةِ والمسرحيةِ والرسمِ، المساهمات التي تتخذُ من أسئلةِ الحداثةِ اشتغالاتٍ مختلفة، واسهامه في الترجمةِ، أيضاً، الذي شكّلَ ملمحاً هاماً من ملامح سيرةِ جبرا الإبداعيّة.
هذا التنوعُ النقديّ والحداثةُ في الكتابة يتجلى في الثقافةِ العراقيّة بشكلٍ واضحٍ مع الفلسطينيّ العراقيّ جبرا ابراهيم جبرا، ثم مع الدكتور حاتم الصكر.
قرأتُ الدكتور حاتم الصكر فيما كتبَ من نقد أدبيّ عبر مجلاتٍ عراقيّة وعربيّة، في مجلة الأقلام، آفاق عربيّة، الطليعة الأدبيّة، الأديب المعاصر، ومجلات أخرى، ثم عربياً في مجلة دبيّ الثقافيّة، في عموده الثابت (فكر)، نبهني إلى ما يكتبُ تنوعُه في النقدِ، يكتبُ عن الشعرِ وما يجاوره، وعن الفنِ وما يتصلُ به، عن قضايا ثقافيّة هامة، الحداثة في الكتابة هي الأخرى كانت تحفزُ الرغبةَ بالمتابعةِ، وهي تفتحُ آفاقاً جديدة، مرّة قرأتُ له دراسةً عن عبد القاهر الجرجاني، كانت مصادفة جميلة أن أتعرفَ أكثر على هذا التنوعِ، على الصلةِ مع القديمِ في كتابات الدكتور الصكر، صلة تقومُ على المساءلةِ، على رصدِ الجذورِ الأولى في المدونة النقديّة القديمةِ ومتابعتها، وفي كتبه، طبعاً، تعرفتُ على الحساسيةِ النقديّة الجديدة بشكلٍ أوسع، في متابعته الجادة للنتاجات الأدبيّة والفنيّة المعاصرة، يكتبُ عن، السبعينين، والثمانينين، والتسعينين، وما جاء فيما بعد، في الشعرِ، بحثاً عن صوتٍ آخر، عن حداثةِ في الرؤيا والبناء والمعالجة بعيداً عن صَرامةِ الشكلِ، و بلاغةِ الايقاع، وفي التشكيلِ عن اساليب أكثر ابتكاراً…
التنوع النقديّ عند الدكتور الصكر لا يكشفُ عنه تنوعُ الاشتغال حسب، بل يكشفُ عنه ـ بشكلٍ اساس ـ الوعي  بتجاوزِ  الفواصل بينَ  الفنونِ والآدابِ، وهو وعي ثقافيّ قبل أن يكونَ وعياً نقدياً، فالنقدُ بوصفه وعياً يتشكلُ في ضوء مكونات ثقافيّة، ترفده، وتعززُه، وهي مكونات متنوعة، ثم تطبيقياً تقفُ إلى جواره بوصفها مرجعيات ثقافيّة، وهذا التنوع من أوضح تباشير الحداثة واستجابات التحديث، الذي ادرك ضرورته الدكتور الصكر مبكراً، وواصل الكتابة في ضوءٍ منه، في (ذاكرة الشمعة) مثالاً، في الصفحة الأخيرة من مجلة آفاق عربيّة، يقول: (( هل يمكننا النظر إلى عالمنا من الشرفات والنوافذ؟ هل نكتفي بتلقي ما يحدث من تحولات  دون تفاعل ودون فعل؟ إن الإقامة في العصر ليست انتماء ارضيّا إلى كوكب، ولا انتماء زمنياً إلى عصر. إنها اسهام فاعل في صنع اتجاهاته وأفكاره، في الذهاب إلى قلبه لا المكوث في حواشيه أو هوامشه..))
وإذا كانَ قلب العصر ينبضُ بهذا التنوع، بتجاوزِ الفواصل بين الفنون والآداب من جهة، وبين الأنواع  الأدبيّة من جهة ثانية، فمجاسّ هذا النبض ليسّ بوسعها سوى أن تكونَ متنوعة أيضاً، لتقتربَ منه وتتفاعل معه بشكلٍ حيوي، وهذا ما يبدو  في اشتغالات الدكتور الصكر، تنوعاً وتجاوزاً، سواء في اطار اشتغالاته العام، وهو يكتبُ عن الشعرِ بتنويعاته (مرايا  نرسيس) مثالاً، أو عن السرد بتنويعاته، أو عن الفن بتنويعاته (أقوال النور)، ودراسات أخرى، منها: (جماليات النحت الشعبي)  متخذاً من الفنان الفطري منعم فرات نموذجاً ـ وهي دراسة نُشرت في مجلة الثقافة العراقيّة، أو في الاطار الخاص، مثلاً، يكتبُ عن (الشجرة القتيلة) لجواد سليم  وهو يرصدُ فاعليتها في خلقِ تناصٍ أدبيّ في كتابة الشاعر يوسف الصائغ..
في  تنوعه النقدي  هذا يشتغلُ على تجارب مختلفة، ولأجيال مختلفة، فإلى جوار جواد سليم يكتبُ عن صدام الجميلي، وإلى جوار الشاعر الدكتور علي جعفر العلاق، مثالاً، يكتبُ عن الشاعر باسم فرات، وتجارب شعرية أخرى تضمنها  كتاب (بريد بغداد)..وفي هذا كلّه  يفتحُ آفاقاً جديدة، آفاقاً  يتداخل فيها ما هو شعري وما هو غير شعري، آفاقاً تتسع لجميع أشكال الإبداع والكتابة..
بهذا التوصيف، الورقة الأولى، للتنوع  النقديّ وحداثة الكتابة عند الدكتور الصكر، تبدو، أيضاً، اشتراطات  المزاولة النقديّة، بدءاً بالاختيارات، اختيارت الأعمال أو النصوص التي يشتغل عليها، ثم الكتابة عنها، وهي اشتراطات  داخليّة، أيّ اشتراطات تتصلُ بالعملِ الفنيّ أو الأدبيّ، في موضوعاته واساليبه، في مضامينه وأشكاله، في مدى استجابته للتحديث وابتعاده عن الاجترار لما هو تقليدي وسائد، أو بتعبير اليوت: ما يجعل  الإبداع يقفُ بذاته وليس بما حوله، فهو من النقاد الذين لا يزاولون الكتابة عن عملٍ أو نصٍ لا ينتميان إلى أفق اشتغاله، يذكرُ ليّ في حوارٍ خاص  معه: ((لا أكتبُ عن نصوصٍ لا توافق منهجي في قراءة الشعر))، وبعيداً عن سؤال المنهج، وهو سؤال مهم جداً، يجيبُ عنه الدكتور الصكر عبر دراستين: (حول علمية الأسلوب واسلوبية التقبل) و (الالسنية وتحليل النصوص الأدبية) في مجلة آفاق عربية، وفي حوارات  كثيرة معه، ويحتاجُ طبعاً إلى كتابة مستقلة لأهميته، غير أن هذا السؤال يؤجل في حدود هذه المتابعة، يؤجلُ إلى حين اكتمال رصد تجليات التنوع النقدي وحداثة الكتابة في ورقة ثانية..