الكتابة البيضاء أو كتابة الحرية

الكتابة البيضاء أو كتابة الحرية

  • أ: لستُ من الذين يفكرون والقلم في اليد، ولا من الذين يستسلمون لانفعالاتهم أمام المحبرة، جالسين يحدقون في الورقة.. أغتاظ من فعل الكتابة وأخجل منه: الكتابة بالنسبة إليّ ضرورة. يقرفني أن أتكلم على ذلك حتى ولو بغموض.

ب: إذن لماذا تكتب؟
أ:نعم يا عزيزي، كي أعترف لك؛لحدّ الآن لم أجد وسيلة  أخرى للتخلص  من أفكاري.
ب: ولماذا تريد التخلص منها؟
أ:لماذا أريده؟هل يعني أنني أريده؟يلزمني…
ب: يكفي!
* نيتشه:ما وراء الخير والشر، ترجمة محمد عضيمة

1-
في المحاورة التي يثبتها نيتشه في المقتطف الإفتتاحي لمقاربتنا ،  تبدو الكتابة اختياراً ذاتياً للتخلص من الأفكار  التي يقر المحاور (أ) أنها ضرورة بالنسبة له.لكن تلك الضرورة يتم نفيها بفعل الكتابة ذاته،فعل يدعوه للخجل والقرف والغيظ. هي كلها أوصاف لما يثيره فعل الكتابة لدى كاتبه المتوسل به للخلاص. فهو يكتب لأنه لا وسيلة لديه (للتخلص) من أفكاره إلا بكتابتها.  سيكون إذن نسيانها في قولها ، وحضورها مناسبة فذة لغيابها.واستذكارها محاولة للتثبت من ذلك الغياب.تلك كتابة تتعالى على زمنيتها ولحظة خلْقها. أما الموهبة التي منحت الكتابة فرصة تربيتها وتنميتها وغناها بما يعززها ، فستكون  الحاضنة وأولى درجات الوصول إلى هوية كتابية.هوية للكتابة ذاتها ضمن الخطاب ، ثم كشف هوية كاتبها بما يضم خطاب كتابته من عناصر ومسميات ،هي انعكاس مفترَض لرؤاه ومواقفه، واعتقاداته وحدوسه  ،وشكّه ويقينه، وخبراته الشخصية  ونقصاناته،أفكار يلوح منها اتهام الكتابة بأنها صليب يسير به صاحبه في جلجلة الكتابة.صعوداً إلى لحظة سيزيفية هي دوران  أبدي حول اللغة والوقوع في أسرها، عبر الكلمات التي  تقال وتخضع عادةً لنظام لغوي صارم ، لأغراض منها التواصل والتوصيل.وكلاهما مما لا يرتضيه الحداثيون كونه يضع الكتابة في سياق تواصلي يحمّلها رسالة، ربما كان  سارتر أكثر من عبّر عنها  ببلاغة حين ربط الحرية بالإلتزام، وسماها حرية مسؤولة في كتابه ( ما الأدب ) الذي كان له أثر كبير في نشأة  الكتّاب العرب ،وتعيين اتجاهاتهم الإيديولوجية الرامية للإرتهان فردياً بالواقع، وتعقّب النصوص لرؤية ما تتضمنه من كِسَر ودوال تحيل إليه.لكن حرية سارتر في توضيح الكتابة وتوسيع مدلولها كانت مرتبطة بحرية القراء المسؤولة بدورها ،والوفية للإلتزام.ولما كان الإرتباط بين السياسي والكتابي ، والإيديولوجي والثقافي قد طغى على مفهوم الإلتزام وحرية الكتابة المشروطة بالمسؤولية ،فسوف نشهد انتفاضات عدة على ذلك المفهوم.ستكون أسئلة الكتابة أشد  حرجاً من المهمة التواصلية مع القارئ بتلك الميكانيكية التي دعا إليها الإشتراكيون ممن حددوا جماليات الكتابة بما تقدم لمجتمعها وواقعها بمباشرةٍ ،وبتأخير الفن لحساب الموضوع ، و يجري تقييمها بما تعكس من رؤية للعالم والمجتمع، و هي رؤية تغييرية تضع الأدب والكتابة في مهمة هاملتية يبرز فيها العجز عن الفعل.. هنا تصبح الكتابة مسؤولية مقيِّدة للكاتب و محددة لممارسته. والعودة إلى الذات الكاتبة غير مقبول ،فلابد للكتابة أن تجتر ما يسود في زمنها وراهن عصرها وأسئلته وإجاباته أيضاً.كل ذلك والكاتب كذات منتجة خارج الحساب الجمالي والفني، وفي مقامَيْ الكتابة والتلقي.
وسط هذا الحصر السياقي للكتابة وتحديد أسئلتها وأغراضها برزت القراءة المغايرة التي سيقوم رولان بارت بتقنينها في (درجة الصفر للكتابة) ثم لاحقاً في( لذة النص) التي نقلت مركزية الكتابة من( نص اللذة) وشبقيته إلى( لذة النص) المسلطة عليه بالقراءة.ودوماً ثمة نفي وإقصاء سيتبلور في نظرية بارت عن موت المؤلف كلحظة تكتيكية كالتخدير الجزئي  لإنجاز قراءة يصفها  بالبريئة والبيضاء والمحايدة أو درجة الصفر للكتابة. وكان ألبير  كامو هو نموذج تلك الكتابة .الكتابة حرية يقول بارت، لكنها حرية الذات التي  تقابل حرية القارئ.وهي فعل لازم يشبهها بالجنس لذاته وليس للإنجاب في مؤسسة زوجية أو عائلية هادفة.. أو كما يصفها في درجة الصفر للكتابة:(كتابة لم تعد تقتصر وظيفنها على الإيصال والتعبير، بل تفرض ((ما وراء)) لغة..) وبذا تقيم الكتابة لنفسها بنية فوق اللغة تتحدث عن ذاتها ولا ترتهن بسائد اللغة وأعرافها.
ويتعقب بارت ما يسميه (حالات الترسيخ التدريجي : من كون الكتابة  موضوعاً لنظرة، ثم لصنع ، وأخيراً لقتل) ويراهن على بلوغها اليوم تحولاً تصبح فيه موضوعاً لغياب.كتابات (محايدة)يسميها درجة الصفر للكتابة، تتميز بحركة نفي وعجز عن إنجاز ذلك النفي ، وصولاً إلى طموح افتراضي بوجود كاتب بدون أدب..هي كتابة بيضاء متخلصة من أية اعتبارات خارجية ،وسيندفع بارت لتمثيل ذلك النفي بافتراض موت المؤلف .
كان موريس بلانشو يتحدث عن قارئ ليس له من هدف سوى أن يقرأ ذات الكاتب(أن تكتب ذاتك فهذا يعني أنك تتوقف عن الوجود؛ لكي تستسلم لضيف آخر، لا مهمة له ولا حياة إلا انعدام حياتك). بذلك يقدم مفهوماً للكتابة يقوم على الزوال..زوال حياة الكاتب لتتقدم كتابته.وبمعرفة الكاتب بمصيره وزواله وانفصال المكتوب عنه ، سيتخذ وضعاً لغوياً فيه مناكدة للغة ومفرداتها والمتاح من مجازاتها..وسيعتمد المحو هدفاً.حيث يكون للمحو قدرة تغيير وجهة الكتابة.
وبدخول جاك ديريدا على خط ماهية الكتابة وأسئلتها التقنية والوجودية،تنشأ مقاربة جديدة تعتمد فك هيمنة الثنائيات المركزية، وقيام الكتابة على الإختلاف.وتفكيك خطاب المركز القائم على الصوت.ولأجل ذلك لابد من قراءة تكمل مهمة كتابة الإختلاف وكتابة الهوامش ،وهي قراءة تفك – وتنقض- مركزية النصوص لاستجلاء المعاني المغيّبة والمطمورة في بنية النص وبيان اختلافها ..
وبهذا تكون للكتابة ذاكرة تاريخية خاصة تتابع تنويعاتها بكونها سلسلة من التركيز على (فعل الكتابة ) لا على  تمظهراته النصية فحسب.

2-
شخصياً طالما كانت الكتابة تعني لي  (خلاصاً) متعدد الأسباب والوجهات.مواجهة الشظف والتربية الصارمة وتراكمات المجتمع والحرمانات والرغبات والطموح، وأساسيات المدرسة وتجاوز نماذجها التي تنتهي حداثتها في مرحلة النهضة بينما يضج العالم بالجديد الذي ينفي ما قبله.. و وجدت نفسي  عبر تقليد نماذج مبهرة  لجبران خليل جبران خاصة ،وسيل عاطفته وزهده وإنسانيته ورمزية كتابته، ثم يأتي السياب في مرحلة لاحقة متجاوزاً عذاباته وفشله وخيباته في الحب والإلتزام و دراما مرضه شديدة الألم، ومن البعيد يأتي كتاب الواقعية الجديدة، ثم في مرحلة نضج الوعي كتّاب يؤرخون لزمنهم خارج تاريخه الرسمي.. سارتر وكامو، ثم في فترة متأخرة ماركيز ساحر الكتابة السحرية ..
ما الأسئلة التي كنت أطرحها عبر الكتابة؟ هي دون شك قياسات  التجاوز والتفرد..أبحث عنهما في ما أكتب خارج نص يزول بزوال كاتبه من الذاكرة..كتابة نفي أو ( كتابة مضادة )بتعبير عبدالله الغذامي تتخلص من النموذج لصالح ( فعل ) الكتابة ولكن عبر تجلياتها النصية.وربما كان هذا هو التكييف المنهجي الذي توخيته في ماكتبت. وصارت الكتابة بالنسبة لي اختباراً في الموازنة بين افتتناني بكتابة لازمة وماحية ،ومتجددة تنقض  ما قبلها كمنظومة فكرية وفنية وجمالية ،وبين أعراف الكتابة ومهاراتها الأسلوبية وتأثيرها في قارئ ضمني كامن في النص ، لاعتقادي بان الكتابةَ أدبيةٌ في المقام الأول ؛ لذا لم أحتكم في ممارسة  التحليلات النصية لتزمت البنيوية، واعتبارها النص بنية لغوية مغلقة، ولم أركن لإبعاد العوامل الخارجية تماماً لاسيما في المرحلة التأويلية.فكانت مقارباتي تتوخى التحديث مقاومةً للألم والعوز والهيمنة الأسرية والدينية والسياسية، ورفضاً لما هو قائم، وتهديمً للمستقر أو( الثابت) كما كان أدونيس يحرض عليه في كتاباته الأولى..
بهذا صار لي فريق من الأصدقاء المتباعدين ،وصورهم المغيّبة إلا عبر كتاباتهم..
وامتحنتُ وصفة الكتابة كخلاص ذاتي في محنة مريرة تعرضت لها بخطف أوسط أولادي خريف عام 2006، فيما كان متجهاً مع أسرته إلى عمان، هرباً من عواقب الإحتراب الطائفي الذي شهده العراق باشتداد نشاط الجماعات الإرهابية المتطرفة. شعرت بشلل يشبه الموت وأنا أتلقى الصدمة بعيداً عن البيت، ولم يعد لي من حل سوى الركون إلى فداحة الواقعة.كنت أنظر لكلماتي التي لم أكملها على الورق  أو شاشة الحاسوب فأبتعد مقصياً حضورها كما كانت تقصيني قبل ذلك بإتمامها وخروجها من مكامنها.كنت أكتب في حالات الأرق والعناء النفسي والجسدي وتسلط الحزن المميت ،ثم أصحو لأجد ذلك كله وقد فرَّ من الذاكرة ،فأعود لحالتي السابقة. …وفجأة قررت أن أعود إلى الكتابة كتجربة، والإنغماس في أسئلتها عن ماهيتها وصلتها بالذات، وإمكان احتواء الألم بالعبور فوقه .ليس الكتابة بالضرورة عن الواقعة ،ولكن بتفتيتها وبعثرتها في لحظة محو ونفي لتتشظى في مقاربات عدة ..
4-
مهنياً مررت بتجربتنين في استقصاء آراء الكتّاب العرب حول فعل الكتابة: في مطلع التسعينيات أثناء عملي في تحرير (مجلة الأقلام )ببغداد، وفي مجلة( غيمان) الفصلية بصنعاء في العقد الألفي الأول ،حين كنت عضواً في هيئة تحريرها ،وكان سؤال الكتابة يتضمن مغزى أن تكون كاتباً، وأن تكون الكتابة وسيلة وغاية معاً. ولاحظت أن أغلب الإجابات كانت تقفز من( فعل) الكتابة إلى مظاهرها وتمدداتها الدلالية والوظيفية ،كوسيلة تواصل مع الآخر، وكتعبير نصي.ويتساوى في ذلك بنيويون عرب ( مدرسيون وتكوينيون) وواقعيون وسيميائيون وأسلوبيون.كما أسهم الشعراء والروائيون في بعض تلك المحاور، فكانت الكتابة هاجساَ في الغالب أو دافعاً أو تابعاً لإيديولوجية أو موقف.هنا تتصاغر الكتابة وتتساوى المواهب والقدرات وتختفي أغراض الكتابة من أجل الكتابة.وهو شعار لا يشبه الفن للفن في الذاكرة الأدبية والإنقسام الإجتماعي حول ذلك بين توظيف الأدب -الكتابة عامة- وبين ترفعه عن الوظية المباشرة.كان الكتاب والأدباء في العراق قد شهدوا حدة ذلك الصراع بعد التعدد الفكري والإضطفافات المتباعدة قزمية ويسارية وراديكالية و الذي جاء به قيام النظام الجمهوري في العراق ،واستلاف  النظريات الشرقية المنادية بنوع من الإلتزام السياسي الذي يؤخر الوظيفة الفنية والجمالية للكتابة لصالح الموضوعات. وهو شبيه بما حصل في أقطار عربية أخرى دون شك.وظل سؤال الكتابة بين الإلتزام والحرية معرضاً للتشويش لاسيما مع بروز التحديث الحاد في الشعر خاصة وظهور مجلات مثل شعر وحوار ومادار حولهما من نقاش وصل حد التخوين ..
وظهور موجات من كتابات الرفض الجيلي وتجمعاتهم وأدبياتهم..

5-
يقودنا واحد من أسئلة الكتابة  الجوهرية إلى دور الموهبة وتقابلها مع الخبرة أو المهارة والصنعة. في الغرب ينشئون  اليوم ما يشبه مصانع تفريخ الكتاب وتعليم الكتابة والتدريب عليها منذ الصغر دون مراعاة الإستعداد الذاتي المساوي للموهبة.
وأحياناً يُزج بالكبار أيضاً لتعليمهم الكتابة .ويذهب الوهم بهم إلى اجتراح أسس وخطوات إجرائية لامتلاك مقدرة الكتابة.
..وكان آخر ما عثرت عليه في مكتبات الكتب المستعملة  كتاب بعنوان( كيف تقرأ القصيدة كبروفسور) يقدم وصفات ويقترح خطوات لقراءة النصوص بمهنيةدون اعتبار للملكة الجمالية في تقبل النصوص.. هنا يتم نفي الموهبة التي تقوم مقام المولّد للأفعال الكتابية..  وأعزو ذلك إلى صعود موجات ما بعد الحداثة أو بسببها في الأحرى، وبتأثير النزعة الشعبوية التي تستهدف تسطيح الفن والثقافة عموماً، بدعوى جعلها منفتحة ً جماهيرية، وانتزاعها من نخبويتها وانغلاقها،.ويتعزز ذلك بما تقدمه الوسائل التقنية الحديثة ووسائط التواصل الإجتماعي ،ماحدا بمفكر من أبرز منظّري السيرة الذاتية  هو موريس بلانشو لجعلها منفتحة للكتابة للجميع :صغاراً وكباراً مثقفين وغيرهم؛ ليكتبوا سيرهم.صارت الكتابة مشاعاً، وزال تمركز الكتابة في المقدرة السردية التي تقوم الذات بتربيتها وتعزيزها..
و تكمن  المفارقة في اختلاط تلك المقترحات الشعبوية مع الدعوة النظرية لمناهج ما بعد الحداثة لإعلاء الهوامش والمهمشين: سواء أكانت فنونًا كتابية أو صنفًا من الكتّاب – النساء مثلًا كجنس، والسيرة الذاتية كنوع أدبي- وإذ نقرّ بضرورة نبذ التهميش ونشارك في الاهتمام المستحق لأدب الهوامش المقصاة اجتماعيًّا بسبب الهيمنة التقليدية ،ونرى ضرورة تنشيط الفنون المقصاة لأسباب معروفة؛ كالكتابة السيرية، فنحن لا نقرّ بأن يغدو ذلك مبررأً لإلغاء شرط الموهبة الفردية، أو التقليل من شأنها في الكتابة الإبداعية والفنون عامة. ولا تقنعنا بجدوى تلك المصانع التي يراد لها أن تفرخ الكتاب بوضع قوالب وأطر توقع مقلديها في البساطة والهشاشة، ويصبحون مستنسخين للنماذج المتصورة، يذكروننا بكتب الرسائل الجاهزة.
ولعل  النقد الثقافي مسؤول بدعواته لنزع الصفة الأدبية للنقد أو إعلان موت النقد الأدبي.فهو بذلك يمنح الكتابة صفة شعبوية، وتغدو بعبارة ناقد غربي تتحدث عن لوحة إعلان الفلم أكثر من حديثها عن الفلم نفسه.وقد جرى تبسيط الكتابة لتدخل مسارات وحقولا هي من الشأن الإجتماعي والسياسي والشعبي أو اليومي العادي..

6-
كخاتمة تؤكد وجود طوفان لايحد من أسئلة الكتابة وبرنامجها وفلسفتها ،سأتحدث عن نموذج شعري تصدى لها ،وأفاد من حرية قصيدة النثر الإيقاعية والبنائية لسرد معاناة الكتابة وهدفها الذي جرى تعديل منطوقه لصالح البنية الفنية للنص.
ففي صدفة موضوعية كما كان الفنان والباحث شاكر حسن آل سعيد يصطلح على ما تتركه الطبيعة من تآكلات وتغيرات في الأمكنة واللقى، عثرت أثناء إعدادي للمراحل الأخيرة لهذه المادة على قصيدة لشاعر يمني شاب عنوانها( أكتب كي تنمو لطيبتي مخالب) .في القصيدة يقدم الشاعر أحمد النجار مكاشفة نفسية عميقة يزيدها البناء الشعري ولغته الإنزياحية وعناصر السرد من تعميق الفكرة الأساسية التي تبدو جواباً لسؤال الكتابة الجوهري : لماذا نكتب؟ ولأسئلتها الفرعية فنياً وجمالياً ووجوديا..
هذه أجزاء من أسئلة القصيدة التي صار عنوانها جواباً مركزياً: أكتب كي تنمو لطيبتي مخالب ، كاشفاً موقعه كإنسان مغلوب لطيبته ،فتكون الكتابة عوناً له للإستقواء على ضعفه.وكذلك للتغلب على واقعه المرفوض: أكتب..لكي أكنس الواقع بمقشة. وللثأر من ماضيه ومستقبله ، .ثم يعود لتصغير دائرة هدف الكتابة: أكتب .. لكي يصبح لي أب وأم وأصدقاء طيبون على الورق…وهذا تعويض نفسي عن فقدان الآصرة ،وكذلك للإنتصار على الفشل..بالتعويض الورقي المتخيل.أكتب لكي أستمتع بتمزيق خيباتي كإسفنجة..وأخيراً تتحقق دعوة الكتابة الماحية والبيضاء : أكتب لأكون شخصاً آخر سواي..وهو هدف دارت حوله كثير من اجتهادات الكتاب وناقديهم وقرائهم…
هنا مقتطفات من أسئلة النص التي جاءت في إجابات لم تخف صياغاتها الفنية أفكاراً تشتغل في بنية النص المولدة أو خليتها المعنوية الأساسية…وهي خاتمة تنطوي على مفارقة: أن أبدأ مادتي بكلام من فيلسوف غربي وأنتهي بقصيدة من شاعر عربي، وبينهما مسافة الزمن التي يبدو أنها لاتردمها الكتابة ..الكتابة التي لاتنتهي أسئلتها إلا بالنسيان….

أكتب كي تنمو لطيبتي مخالب
لوحة من مجموعة آدم وولفيت (Getty
 أحمد النجار

أكتب لكي تنمو لطيبتي مخالب
لكي أعرج كذئب بساق واحدة
لكي أكنس الواقع بمقشة
أكتب لكي يصبح لي أب وأمّ وأصدقاء طيبون على الورق
لكي أستمتع بتمزيق خيباتي كإسفنجة
أكتب كي أعالج تواضعي الجاف بجرعة زائدة من الغرور
كي أبيع كلماتي مقابل “لايكات” باردة
كي أشتري قطعة أرض خالية أزرعها بالدموع والضحكات المستعملة

أكتب لكي أمرغ الماضي بالطين،
وأتوعد المستقبل بالإصبع الوسطى
أكتب كي أمارس الدوران حول نفسي كطاحونة هواء
كي أعثر على قطع غيار جديدة لمشاعري
أكتب لكي أضحك كمهرج في الهواء الطلق
لكي أنهمر ببطء داخل بئر
لكي أحرق قلقي وسط علبة كبريت
لكي أدخر حزني الأبيض لليوم الأسود
لكي أفخخ لهفتي في الفراغ،
وأنفجر كبالون دون أن يراني أحد
أكتب لي فقط،
أكتب لكي أكون شخصاً آخر، سواي…!