من يوميات الجائحة ولياليها

 
 
 
من يوميات الجائحة ولياليها
 
 
1-
جائحةٌ جانحةٌ وجامحة، وبكل ما تتداعى لها من صفات القسوة والعنف.لكنها لن تكون في المصير إلا كسواها مما تغلب عليه البشر من ويلات الطبيعة من مجاعات وكوارث ومآس ،لاتزال شواهدها في المدوّنات والمخيلّة والتاريخ. انتصر الإنسان وأعاد الحياة .وصارت صورها جزءاً من الدفاع عن الوجود الإنساني ،والبقاء لصنع حياة أفضل على هذا الكوكب.
الحروب التي يصنعها البشر ليست أقل ّضرراً وفداحة. لقد تركت جراحاً وآلاماً كثيرة في الجسد الإنساني .وأشعلت نيران الفرقة والتعصب. ولكن الجائحة تأتي باستقواء غريب. استقواء بالطبيعة التي لا يحدها حد. وبالتخفي على التحليل .والتلون والتمدد بسرعة وسِعَة ،وفوضى تُربك المعالجين .أكثر ما جلبته الجائحة هذا التوتر النفسي الذي أظهر ما في أعماق  بعض البشر من أنانية وأُثرة.وتعدى ذلك الأفراد ليعمَّ الحكومات . دول (عظمى) متحضرة في أسلوب حياتها.هاهي تتصارع من أجل الإستحواذ على المواد الطبية اللازمة في هذه الأزمة الإنسانية الكبرى. تساوم وتنافس بدفع الأموال والقرصنة أحياناً للإستحواذ على تلك المواد.وهي في هذه المعركة الإنسانية التراجيدية، ووسط الأرقام المخيفة للضحايا حول العالم،ستترك للذاكرة والتاريخ أبشع الأمثلة.ولاشك أن الدروس ستكون عميقة وثرية.
2-
جائحة جامحة.يتنزل لنا من اسمها مدلول بالغ القسوة.حاولتُ في تأملٍ يهيمن عليه الخوف والترقب أن أقلّبَ جذر التسمية.ُ معانيها ودلالاتها كلها تسهم في تجسيد عنفها. ولم يخلُ الأمر من دلالات جندرية(نوعية) فالمرادفات كلها أنثوية الصياغة.سبَكَها ذكَرٌ متسلط على اللغة والمجتمع والحياة ، فولَّد الجذر الثلاثي لها ( (جاحَ ) ليستخرج منها اسم فاعل (أو فاعلة هنا ) يحف بإيقاع حروفها هبوبُ عصفٍ قوي كاسح.. تجنبَ من سكَّها ما يدل على الذكور من الدوال.فترك المرض والوباء والفيروس ليتمسك برنين اسمها القادم من المجهول . تاريخ عذاب إنساني تَغير فيه الخيول والعربات وتلتمع السيوف وتتدحرج الرقاب .ولا شيء  يكبح جماحها وجموحها وجنوحها.جيم الجحيم وحاء الحرب وهاء الهلاك.لم أحس  براحة حال سماعها تتردد على ألسنة المتخصصين المؤكدين أنها ذروة الوباء.أحسست أنها شيء قادم كقدر بعيد ،يستيقظ ليشطب يوميات الحياة ويعطّلها ،ويوقف ساعة الزمن..
إنها مؤنثة.ارتاح لها العقل الذكوري، وهجر من أجل ذلك الوصف المذكر: الوباء .وحتى مرادفاتها المعنوية مؤنثات.هكذا يقترح المعجم للجائحة وجمعها المؤنث السالم- ياللسخرية      من سلامتها الضارية! ألفاظاً مثل: المصيبة  / الداهية/النازلة .ويستطرد: الجائحة داهية أو مصيبة تصيب الرجل -!- في ماله فتجتاحه كله. والسنة الجائحة الجدْبة هي الغبراء القاحلة.كلها مؤنث.ولاوجود لوباء أو مرض فاتك أو شديد.. هناك المزيد من العداء الأنثوي : الجائحة في المعجم هي (آفة ) سماوية تتلف الثمر أو وتذهب به.وهناك المزيد من العنف والألم.اجتاح العدو البلاد اهلكها وهدمها واستأصلها.واجتاحها الماء  غمرَها واكتسَحها ..وأخيراً البلد مجتاحٌ بالوباء.كـأنها أسلمت قيادها واستقرت لمن يهيمن على البلد وقت الشدة هذه. هكذا تهبنا السياحة اللغوية وافراً ً من الدلالات.وستظل في ذاكرة الأجيال التي تشهد الجائحة في زمننا ما يؤكد البلاء ، وارتباك الإنسان إزاء هبوبها العاصف.
3-
ولكن سيشتق الإنسان  ما يخفف هولها. سيدرأ شرها وشرورها بالعزلة ذات الوقع الرومانتيكي.عزلة حلم بها المتصوفة ليرتقوا درجات الوجد والتوحد والإتحاد. وحلم بها الشعراء ليكونوا إلى نفوسهم أقرب، يستخرجون مكنوناتها بعيداً عن ضوضاء العالم وضجيج مخلوقاته.لم تكن العزلة او حجْر النفس وحظْرها عقاباً بل دواءً ومقترحاً للعثور على الذات في صفاء يتيح التأمل.هدأت النفوس قليلاً ، وعاد الإنسان إلى نفسه يسائلها ويخلو بها ليراجع ما عاش وما أراد وما تحصّل له. لفظة العزْل عربياً مرادفة للحجْر..ذلك موجع.فالحجْر يُستخدم  للقاصرين والممسوسين والمخرّفين.فيحجر عليهم ذووهم ،ويقيدون تصرفهم بما يملكون.لكنّ العزْل يحمل معنى الإبعاد والتبرؤ ؛ فيكون المعزول مداناً بخطر عدواه .كلاهما مرٌّبالغ القسوة . وأقرب تمثيل صوري له هو عزلة الطائر عائداً إلى محبسه بعد أن سئمه الفضاء ..
 
أنظر إلى رفوف الكتب وكأني أستنجد بها لتهبني أمناً أبحثُ عنه بعيداً ًعن التلفاز وثرثرات الأخبار والمخبِرين ،وعن الصور والمصوّرين. كلماتٌ باح بها كتّابه وراهنوا على حياتها بين أغلفة كتبهم .ترقد بسلام في بيتها الأثير. حيث المكتبة التي تصمت في العزلة ولا تنطق إلا بنداءات الأيدي والأعين التواقة لها..
أمسح الحروف والكلمات والأسطر.وأعود لدواوين قرأتها ورواياات لم أقرأ.لمجلات تحتفي بموضوع أو شخص أو قيمة.وأسترد مع الكتب لحظات المساندة والقوة.ولكنها تخبئ لي كمائنها أحياناً.
كنت لأغراض تتصل ببحث أعمل على إنجازه،أتصفح قصائد باول تسيلان لأعثر على قصيدة له بعنوان (كورونا) .إنه اسم الجائحة التي أحاول إبعاد شبحها في عزلتي .لكنها عنده تعني الإكليل أو التاج الذي يحف بالكورونا لشكلها الذي يشبهه.تسيلان الروماني الذي يكتب بالألمانية – لغة مدينته الأم – يكتب القصيدة عام 1947  ضمن ديوانه الأشهر(خشخاش وذاكرة)  ويعارض  بها قصيدة ريلكة: يوم خريفي تلك التي طالما رددنا أبياتاً مميزة منها:
من ليس له منزل الآن ، لن يبني بيتا أبداً
من هو وحيد الآن سيبقى هكذا طويلاً
سيأرق ويقرأ، ويكتب رسائل طويلة
وسيجول قلقاً في الشوارع جيئة وذهاباً
حين تتطاير الأوراق .
كورونا تسيلان المكتوبة عام 1947تحمل إمكانات التأويل الكثيرة التي ضمها كتاب عبدالقادر الجنابي ( الأنطولوجيا البيانية)2010 والذي وازن بينها وبين يوم ريلكة الخريفي.ولمح في آخرها إلى أن الوقت حان لتجهد الحجارة لتزهر..ويردد بالتكرار: حان الوقت، لكي يحبن الوقت. ويختم ببيت منفرد وحيد : الوقت حان. وهو مطلع قصيدة ريلكه. فكأنه يرفض عزلة الوحيد الذي لابيت له في قصيدة ريلكة ،وضياع الوحيد في يومه الخريفي.هنا التاج علامة تصالح بين الشاعر والخريف .ويقدم  الشاعر خالد المعالي ترجمة أخرى للقصيدة  عن الألمانية في كتابه :باول تسيلان سمعت من يقول- قصائد مختارة.1999 ومنها ومن ترجمة الجنابي أفدت في الإقتباس هنا.
كورونا تعود إلى الذاكرة. يمزح الأميركيون وهم يرون قوارير البيرة المكسيكية كورونا. ويتندرون وهم  في المخازن مصطفون عند طاولات  الدفع، وبيدهم صناديق الكورونا بألوانها الصفراء. وتعود الكورونا في اسم حي  فقير في في ولاية أمريكية بعيدة  أصابته الجائحة..ثم هاهي تداهمني في الشعر،تتسلق جدران عزلتي ؛فأُبعدها بالتأمل في الغد القريب..
4-
صباح جديد مضمخ بروائح ربيع قريب ،بلبل الشجرة المنحنية على غرف المسكن. يغرد طويلاً غير آبه بالصمت الذي فرضته العزلة.والسناجب تجري بصغارها متقافزة على الخشب والكراسي والأصص في الفناء الخارجي .أشخاص يهرولون عائدين من رياضتهم الصباحية غير بعيدين عن عزلتهم، كأنهم يخشون الضياع أو الغرق في أخبار الجائحة التي صارت أرقاماًعلى الشاشات، تتزايد مقتربة من ذروتها التي ستهبط بعدها كما يفترض المحللون.
وأطل من نوافذ الغرف  لأرى الطبيعة تحتفي بمهرجان أنوارها الطالعة من الشجروالأرض. تتبرعم الأزهار وتنور الشجر وتخضر المساحات التي داهمها برد الشتاء وثلجه ورياحه..لقد هزمتْ الشتاء ولم يتمكن من وأد حياتها. إنها تحتفل بعزلتها كما تحب لنفسها.ترتدي ما تشاء من الألوان والأوراق.ولا تعبأ بما يجري.وتلهمنا بشيء من الأمل.أمنا الأرض تعود لها الحياة كل ربيع .
وكل ربيع كانت عذارى بابل تتراص صفوفهن حاملاتٍ سلال الثمر والخبز النذري لتموز الذي يرقد في العالم السفلي؛ فيقوم على وقع نداءاتهن وتزهر الحياة بعودته.
عودة نحلم بها، ونندم على مافات أن نفعله قبلها، وافتقدناه في عزلة الجائحة ويومياتها ولياليها أيضاً..