مَشغَل كاتب السرد


 
 
 مَشْغل كاتب السرد
 
يطلق الكاتب محمد خضير ما يصفها بأنها همهمات محبوسة بين جدران مشغل كاتب السرد في كتابه النظري ( السرد والكتاب )(1) فيكون ما يقدمه نوعاً جديداً من السيرة التي تخص المكتوب بما أنه ماضٍ، كانت له حياة بين تلك الجدران التي يعمد محمد خضيرعلى تجاوز حُجُبها ومصدّاتها  في لحظة مكاشفة فذة زمنياً ،بعد إتمامها ونشرها ووقوعها في سياق القراءة.
هنا تُصبح للمكاشفة قيمتها الوثائقية ،لاسيما وأنها لا تتعلق بالقصص كمنجزات نصية فحسب ، بل بكونها ذات خلفيات نظرية وقناعات جمالية يبسطها محمد خضير للقارئ؛ ليشركه في حياة تلك النصوص وسواها ،وهي بعد أفكار أو خُطاطات ومذكرات، دأب على تدوينها والإحتفاظ بها في المشغل السردي الذي تنضج فيه.
ولعل فكرة المشغل التي يتحدث عنها محمد خضير في الكتاب تشي بفهمه للعمل السردي.إنه يقدم للقارئ أسرارَ محتَرَف أو مشغَل يشبه ما يعمل فيه التشكيليون وهم ينفذون رؤاهم على الحامل في غرفهم( = مراسمهم )أو محترفاتهم ومشاغلهم. وذلك ما يكرس له محمد خضير مقالة بعنوان((السرد التشكيلي))يسمي فيه مشغله ب((المختبر القصصي))حيث تندمج الرؤية البصرية للأشياء بالرؤية التشكيلية، ويمثل لهذا بقصته ((أطياف الغسق)).هنا يكون للأدوات وظيفة حِرَفية.وهو ما يقصده محمد خضير مستعيراً فكرة المشغل أو أمثولته التخييلية.ولكنه في مكان آخر من الكتاب يعزز وصفنا للمشغل بأنه ذو تكوين رياضي افتراضي.(( يقع مشغلي الخيالي في منتصف الهجرة صعوداً  من الشرق إلى الغرب، أو هبوطاً من الخيال إلى أرض الحاضر وطرقه المتشعبة..))(2). وسيلمح القارئ الفاحص العارف بعالم محمد خضير القصصي أنّ هذا التموضع بين الشرق والغرب ،وبين الخيال والحاضر ، هو من أسرار المشغل التي آن أوان البوح بها، ورؤيتها من وراء جدرانه.
يصنع محمد خضير عوالمه ويؤثثها بتلك الوجبة المصنوعة بمهارة ،وبموازنة بين العقل والروح، وامتدادٍ حرٍّ بين شرق مكتنز بالأسرار  والعجائب والسرد المبهر، وبين غرب يأتي   محفوفاً بالجديد والجميل، بين خيال يبتكر ويجلب لأرض المشغل طيناً يصلح للخلق ، وبين حاضر يضغط بقضاياه، لكن ليس بمعنى تشرب الواقع وإعادة إنتاجه كما في النظريات الإنعكاسية البالية ، بل بخلق حاضر آخر : ذي طبيعة نصية ، ورقية بحسب بارت ..وله
غور في النفس الإنسانية ..
يعترف محمد خضير بأن المشغل بناء خيالي تولد فيه المسرودات، وتتفقس عن قشرتها  كما يجري في حياة بويضات العالم الحيوي.إنها تدب في المشْغل الذي صارت له الآن صفة المفقس البيضوي ذي الطابع الخَلْقي، حيث تولد الحيوات، وتولد الأفكار، وتنشأ رويداً تلك القصص التي يبوح  الكاتب الآن بمكنوناتها، بذلك الجزء اللامرئي من صُنعها أو خَلقها.
وتمادياً في الإيهام والتعميق الخيالي لوجود المشْغل في حياة القصص يلجأ محمد خضير لوصف مشغله بأنه ربما يكون بناء مستقبلياً  كروياً أو مخروطياً ،مغلفاً بالحُجُب والأستار: مياه تغمره  أو فضاء يتعلق فيه، فيتضاعف غموض الأسرار بتلك الأستار والأسوار.ولعبة السرد تتم عبر إخراج هذه البيوض الوليدة لمتلقٍ منتظر أو مستطلع في الخارج.يتلاقف المخلوقات ليقوم هو أيضاً بعملية تفقيس مشابهة لمخلوقات يخلقها من ضربات قراءة على جدران بيوض النص.
هذا الإيهام جزء من تقنية القص لدى محمد خضير.و كثيراً ما بنَت قصصُه كياناتٍ خيالية يزيد  من غموضها ارتكازُها على نظريات رياضية .تلك الأبنية الخيالية كالمتاهات والغرف المتداخلة المرهونة بأزمنة ،ساعاتها كالخيول تجري في مدارات لا يلحق بها قارئ إلا وتدخل في مضمار زمني آخر( 3)ٍ ومناسبة التذكير بتلك الكِسرة الحِرَفية المميزة لمحمد خضيرهي بنية المشغل الذي سيكون محور القسم الأول من الكتاب الذي وصف محمد خضيرمقالاته  بأنها مقالات سردية ،وهكذا تتعالق الفكرتان :النظرية والسردية .أما الهدف من جمع مقالات الكتاب المكتوبة في أزمنة مختلفة فهو أن تكون المقالات السردية المنبثقة من بيوض المشغل عرضاً لسيرة كاتبها(( سيرة نظرية  لصاحبها،أي عرض المؤثرات والمصادر والحوادث التي توسطت بين حياته الخاصة ونصوصه السردية)). وهكذا نجد أن بعضها يؤدي وظيفة سرد السيرة، فيما يقوم الآخر بوظيفة  عرضٍ نظريّة.ولابد من التنويه بأن بعض البوح السيري والإذاعة المقالية لأسرار المشغل السردي تنبني فيما يشبه الميتا نص.أي النص المتركب شارحاً فوق نص أصلي سابق عليه. حيث يبدو النص الموازي في حضور مركزي ينير كثيراً من زوايا النص الأصلي.وهذا ما يطمح إليه محمد خضير في( السرد والكتاب).
لقد سبق لمحمد خضير أن صنع بعنوان مجموعته المعروفة (في درجة 45 مئوي ) مجالاً   لدراسة الميتا نص القصصي في عزلة عن الأصل ، يليه أو يتبعه بعد ولادته ،لكنه يتعالق معه بشكل من التناص الجديد الذي يتجاوز العلاقة التقليدية بين النصين: السابق واللاحق، وهي علاقة تمت دراستها في فترة الهبَّة البنيوية العاصفة، وشيوع دروس التناص وانتشارها نقدياً، حتى أن رولان بارت يستلفها (من) أو يحيل بصددها (إلى ) تلميذته المنهجية جوليا كرستيفاوهي لا تتعدى استقصاء حياة النص القديم في النص اللاحق، وتكييف ذلك بحسب الموضع الذي يتم فيه التناص ويخدم قراءة النص.لكن اللاحقين من الكتاب أجروا تعديلات كثيرة على المفهوم، فغدا التناص أوسع مدى ومساحةً، وتنوع كثيراً ليأتي مصطلح جامع النص بديلاً لآليات التناص التقليدية، و ليشمل أنماطاً من التناص  كنت قد أحصيتُ بعضها في دراسة سابقة ومنها التناص النوعي بين الأنواع الأدبية (4)).لكن ما صنعه محمد خضير في العنونة خاصة هو إرسال نص موازٍ يكشف بيئة العمل الظرفية وحاضنته أثناء ولادته.درجة حرارة الغرفة التي يجلس فيها ليكتب وهو في منزله في البصرة الجنوبية ذات الأصياف اللاهبة حرّاً ورطوبةً، وهو يقصد إرسال العنوان كأحد موجهات القراءة لقارئ غير عراقي- كما صرَّح في لقاء مع القراء- فذلك القارئ لا يمكنه تخيل المحيط المناخي الذي صنع فيه القاص قصصه. بهذا يتوسع أفق التناص ليغدو عابراً للنصيْن المتعالقيْن، بل يصل إلى مكان أو زمان الكتابة ، وإلى موجهات قراءة المكتوب.
يؤمن كتّاب مابعد البنيوية بأن النص نفسه يعاد بألسنة كثيرة.بل لا يرون جديداً يقال،
سامحين لأنفسهم بإعادة سرد نصوص سابقة يضعون عليها أسماءهم.ولعل بورخس أكثر الساردين شهرةً في هذا المجال،كما في (كتاب الصانع) حيث يعيد سرد (حكاية حالِمَيْن) المعروفة في ألف ليلة وليلة وفي كتابه عن الحيوانات الخرافية.ويتكئ على كثير من الحكايات الشائعة في آداب الشعوب وسردياتها التقليدية المتوارثة .لكن عجائبيتها تغريه بإعادة قصها أو سردها لقارئ آخرلم تصله، وربما وصلته، لكن بورخس يعيد إنتاجها بأسلوبه الخاص.
عند هذه النقطة تكتمل فكرة المشغل والولادة البيضوية لدى محمد خضير.فالعالم ((سيصبح مفقساً كبيراً للكتب يملأ المدن والبحار بأوراقها ؛فتتحول المياه إلى عجينة لاصقة وجزر متصلة.تلك رؤيا خوليو كورتثار التي لم نصلها بعد)) .وهي رؤيا يعضّدها محمد خضير ويتبناها، فيكون الهدف من مقالاته السردية ((تمجيد الكتاب)) .ويكون لهذه المقالة أعراف يبسطها مختصرةً بالقول إنها ((تتوفرعلى حادثة أو موضوع سردي أو معلومة شخصية، تتناسب والغاية النظرية أو الفكرية التي تؤلف المحور الرئيسي للمقالة) .ولكننا نحس بغلبة مهيمنة السرد على المقالة، فهي ذات نهاية مقنِعة تقف عندها كما في القصة القصيرة.وتكون حاضنتها هو المشغل السردي حيث تتسلط حزم ضوئية من الأزمنة المنبثة من وراء جدران المشغل.
إن ما يسميه محمد خضير ((استعمالات السرد)) ستكون المكان المناسب للتعرض لموضوعات نظرية تخص تقاليد العمل الأدبي. وهنا يبوح محمد خضير بصلته بالسرد فهو كاتب قصة قصيرة.بذا تتبين هوية خطابه .فهو يبوح لقارئه – وهذه إحدى سمات السيرة السردية في الكتاب- بأنه لم يؤلف((غير كتاب واحد ينتسب بصعوبة إلى فن الرواية .وستحتل ( كرّاسة كانون) الصادرة عام 2001 محور اشتغالي بنظريات هذا الفن..)) وظلت النصوص الروائية إذاً في الغياب تعترضها أجناس أدبية .فكان النص الروائي غير متحقق برضا مسبق من الكاتب  .فما هي القصة القصيرة التي ظل محمد خضير أبرع محام عنها ،ونتاجُه أبرزَ شاهدٍ على جدواها وضرورتها أمام غطرسة وتعالي أختها الكبرى -الرواية -المتنفجة بما أُسند لها من كون الزمن زمنها ،وأنهامرآة العصر،وديوان العرب الجديد؟
في مقالة ( الإستعمال الرمزي) يعرّف محمد خضير القصة بأنها ((مجموعة الألفاظ والجمل التي تترابط في نص لغوي؛ لإنتاج حادثة أو حبكة أو موقف،بهدف التعبير عن فكرة أو مغزى)). ويستدرك بالقول((يبدو هذا التعريف اللغوي للقصة تقليدياً،لكنه مفهوم أساسي لاكتشاف التقابلات اللغوية المتفرقة: لفظة/حادثة، جملة /حبكة، نص/فكرة، المؤدية إلى التعريف الدلالي المكمل للتعريف السابق….)) وهذا الإستدراك مهم في عملية فحص المصطلح وصلته بالمفهوم.فالدلالة جناح ثان للبناء اللغوي الذي تتشيد به القصة.ولئن استطرد محمد خضير من بعد للوصول إلى مطلق القصة وفضائها الزمني التعاقبي فإنما ليسد الثغرة المصطلحية التي أبعدت القراءة في تعريفه.لقد وازن بين بنية القصة اللغوية وبنيتها الدلالية وامتدادها الزمني الذي سيتم استعادته عبر العصور بسرد الحكاية التي مرت بدورات زمنية متكررة،وتصبح((الرؤى المستعادة )) بتعبير محمد خضير وسيلة الكاتب المعاصر اللغوية للمضي إلى المستقبل عبر(( الإستعمال الرمزي)).وهذا التناص الزمني للحكاية يعود إليه محمد خضير في مقالة عن ( السلاسل المرجعية)) مكتشفاً بقراءاته الشاملة والمتبصرة ما يسميه (( الحلقات المتدرجة)) لتلك المراجع.ممثلاً لأنماط منها ؛ كروايات المسوخ: مسخ  أوفيد، مسخ فرنكشتاين ، مسخ نوتردام، مسخ كافكا)) وسنجد السلسلة المرجعية واضحة في أعمال تمتد من حي بن يقظان حتى أولا د حارتنا. ولعل هذه المقاربة  النظرية المعززة بالتطبيقات والأمثلة تعيدنا للتناص كنظام بنائي في السردة يجري تكييفه وتنظيم مفرداته بأسلوب معاصر .
 
 
في قراءة (السرد والكتاب ) نصل إلى يقين بأن عمل محمد خضير فيه عمل يقترب من حفريات معرفية تمت صياغتها بلغة سردية شفيفة تميز بها محمد خضير، وأسهم في اقتراح  قواعد لغراماتولوجيا عربية ذات جماليات خاصة دون شك ،ولكن بهدي من أساسيات علم الكتابة كما وضع قواعده جاك دريدا، وأفاض في تنويعاته أمبرتو إيكو وآخرون..
تبقى في حصيلة القراءة بضعة أسئلة لم يفصّل فيها محمد خضير وأشار إليها،  ربما بسبب طبيعة الكتاب المقالية- السردية.لكن له فضيلة إثارتها وتنبيهنا إليها، منها:
– السكوت عن معنى الحاضر واختلاطه المكاني بالواقع رغم إيحائه الزماني. الحاضر الذي يؤوب إليه من رحلته في التعريف بمؤثرات كتابته .حاضر ملتبس مفهومياً مع مفرداته .ليس مطلقاً كي نعدَّه ذا بعد فلسفي ، وليس هو الواقع بكثافته وثقله -الذي لا يحتمل!- شيء ما توجب معرفته بتطويل وبسط..
– وفي الموقف من البدائل التفاعلية للكتاب المطبوع  كوسائط لبناء السرد، لا نتبين موقفاً مؤكداً.لكننا ضمنياً نفهم رهان محمد خضير على الكتاب .(( إنها لأعجوبة أن تنبت الكتب كما تنبت الكمأة،بعد أن يتفطر وجه الأرض؛ببروق السماء..))  وهي صلة تتدرج من الكتابة إلى القراءة ،يسميها ((لذة المخطوط بالمطبوع)). والكتاب المادي الورقي سيبقى بحسب استشهاد محمدخضير بأمبرتو إيكو، ولن نستغني عنه بوجود الحاسوب.وهنا اتذكر مثالاً لإيكو حول بقاء الكتاب الورقي هو اختراع السيارة الذي لم يلغ الدراجة من الوجود.لكنني استطرد بالقول إن ذلك  الإختراع رمى الدراجة إلى الهامش: هامش الطريق المخص للسيارات ،وهامش الألعاب والسباقات، وهامش الإستخدام لأغراض صحية وكمالية، إلا في مدن محددة صارت ثقافاتها متكيفة معها.
–  و ثمة  أمر تنقصه المقاربة الواضحة  وهو تعريف القصة  كما جاء في الكتاب كمحاولة للبوح ولكن بمدرسية لا تتوفر على – أو لاتحدّ- الأطراف الباذخة المترامية والشاسعة لسرد محمد خضير المتفرد..والعصي على التوصيف بتعريف أو إحاطة إجمالية أو حدود..
ختاماً :
ليست هذه مراجعة للكتاب بقدرما هي دعوة للتعرف إلى بوح الكاتب عن أسرار مشغله السردي،  وأطروحته ذات الأهمية والجدَّة في اقتراح المقالة السردية.والتنويه إلى السيرة السردية التي دشنها في كتابه هذا منظِّراً نصيّأً، وإن بدا البوح السير- سردي هنا سيرةً سرديةً للقصص،  وليس للسارد.لقد ظل الشخص وراء جدران المشغل فيما أطلق طيور قصصه بعد أن نمت لها أجنحة، رسالتها هي كشف خلفياتها ومؤثرات نشأتها ، وإرسالها محلقة في فضاء القراءة .
 
*هوامش
(1)  صدركتاب ( السرد والكتاب) في مايو 2010ضمن سلسلة كتاب دبي الثقافية-الإصدار36 .
(2) الإقتباسات من (السرد والكتاب)  كثيرة، لذا اكتفيت في الدراسة  بعلامات التنصيص دون إحالة إلى أرقام الصفحات .
(3) إشارة إلى قصة محمد خضير (ساعات كالخيول) من مجموعته (في درجة 45 مئوي).
(4) في كتابي ( مرايا نرسيس-الانماط النوعيةوالتشكيلات البنائية لقصيدة السرد الحديثة) حصرت بعض التوسيعات في درس التناص وسميت منها: التناص النوعي، والموضوعي، واللغوي، والفني- الأسلوبي، والجمالي-التقبلي. ص8-9 من الطبعة الثانية للكتاب، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة  2010