الصكر وعي المثقف وخلق العالم-الشاعر باسم فرات

الصورة الخارجية: مع الشاعر باسم فرات-القاهرة
حاتم الصكَر..  وعي المثقف وخُلق العالم
باسم فـرات
في الثاني والعشرين من كانون الثاني 2018، تواصلت مع أستاذي الدكتور الناقد والشاعر حاتم الصكَر، عبر موقع التواصل الاجتماعي (كتاب الوجه- الفيسبوك) وكتب لي: “مرحبًا بك سندبادنا الجميل…أشواقي ومودتي.هل ستكون بمعرض الكتاب بالقاهرة لنراك؟ أهلكنا الثلج والبرد أسبوعًا فدبرت تذكرتي للقاهرة وسأقوم بزيارة شخصية حرة هذه المرة بلا رسميات”.
في البدء وددت لو أنه أخبرني قبل ذلك بمدة، ولكني حزمت أمري لزيارة القاهرة، وهذه المرة عبر الطريق البري، فكان الوقت الذي استغرقته الرحلة في الحافلة خمسًا وثلاثين ساعة، وبعد وضع حقيبتي في الفندق والاستحمام، خرجت لتفعيل شريحة الهاتف المصرية، وكتبت له على الخاص، مع وضع رقم هاتفي، وتلقيت منه مكالمة هاتفية، اتفقنا على إثرها أن نلتقي في معرض الكتاب، وكعادة الكبار حقًّا ومنجزًا، عَبّر عن شوقه لملاقاتي. الرجل السبعينيالمفعم حيوية وشبابًا وحكمة سبعة عقود ونيف.
كانت زيارتي الثانية عشرة للقاهرة والأولى عبر الطريق البري، هي أيضًا الأولى التي التقيته فيها في القاهرة، ذات طابع مميز، قضينا أسبوعًا نتواصل بشكل جيد، ساعات طويلة قضيناها معًا، أتعلم منه كيف يجب أن يكون المثقف، تواضع جمّ وأريحية، فهو المبدع الذي نحتَ سبعينه حبًّا وعلمًا ووعيًا، ترك الإرهاب؛ الذي عصف بالعراق؛ جرحًا عميقًا في قلبه، قلبه الذي أحب الجميع وكتب بمحبة عالية عن المبدعين، كان يئن من فقد ابنه الذي غيبه الإرهاب، ونحن معه على أمل نرجو أن يتحقق.
 
لقاء دبي
في عام 2013 وصلت إلى دبي لاستلام جائزتي، وإذا به يبدأ بالسلام بحميمية مفرطة، كانت مفاجأة بالنسبة لي، جعلتني أرتبك وأبدي مشاعر باردة؛ وهذه حالة حدثت لي مع آخرين وأضطر إلى الاعتذار لهم لاحقًا؛ لنقضي وقتًا معًا، وسألني أن نلتقي غدًا صباحًا لنتناول الفطور معًا، وكانت أغلب ساعات زيارتي إلى دبي معه، ولم أستغرب وأنا أرى حفاوة الجميع به، وكان الشاعر أدونيس يبدي حفاوة واضحة أيضًا، جعلتني أتذكر ما قاله الروائي والصحفي شاكر نوري من أن أدونيس أخبره بأن حاتم الصكَر الأهم عربيًّا في نقد الشعر.
سعدتُ حين أخبرني الدكتور الناقد والشاعر صالح هويدي بأن حاتم الصكَر أحد أهم ناقدين في العراق، فصالح هويدي تكلم بوصفه شاعرًا وناقدًا وأكاديميًّا يملك بصيرة مميزة وعلمية رصينة، وكفاءة عالية، وله ثقله الواضح في النقدية العراقية والعربية على السواء، ومعروف عنه أنه لا يجامل، يكتب بموضوعية ودون محاباة، ورأيه عندي يكتسب مصداقية تامة، وشهادة يستحقها حاتم الصكَر.
في دبي نفسها، قال لي كلامًا أنقله نصًّا لما يمثله لي من حنوّ الأستاذ والشيخ على تلميذه ومحبة الصديق الأكبر سنًّا وتجربة لصديقه الذي يتوسم فيه الإخلاص لمشروعه الشعري، وفي الوقت نفسه شهادة أعتز بها كثيرًا؛ إذ قال لي: يا باسم أنت من الأسماء الشعرية العراقية التي أتابعها بمحبة وأهتم بمشروعها الشعري، احذر الانزلاق نحو المهاترات، ومهما حاربوك وشتموك وطعنوا بك فلا تجعل قلمك يسيل ردودًا عليهم بل اتخذ الصمت وانكب على مشروعك الشعري، إن أدونيس لم يرد إلا على صلاح عبد الصبور، وهو- أي أدونيس- نادم على ما فعل، أنا بمثابة أبيك فلا تنزعج من كلامي”.
 
صورة من تواضعه
في معرض القاهرة- وحين قدمته لبعض الأصدقاء جاعلاً لقب”الدكتور” قبل اسمه- رفضها وقال: “نحن لسنا في الجامعة، دكتور في الجامعة فقط”. وعلى امتداد الساعات الطويلة التي قضيتها معه في دبي وفي القاهرة، لم ألمس أناه تطغى على أحاديثه، بل حتى حين يتحدث عن الذين كتب عنهم والذين لم يكتب فغضبوا منه، كان حديثه متسمًا بالتواضع والهدوء وطغيان نكران الذات؛ وهو ما كان يجبرني أن أستحضر أعدادًا من الشعراء والأدباء والفنانين والكُتّاب، وكيف تزدحم أحاديثهم بطغيان الأنا العالية المتضخمة، ومن المفارقات أكتشفتُ في أحاديث كثير منهم الكذب والتزوير والمباهاة الفارغة، بل وتزويق الكلام العادي ليبدوا وكأنهم مهمون للغاية، وقد أثبتت لي الأيام بأن ما زعموه ليس سوى أوهام، وفي أحسن الأحوال فإن آراء النقاد والشعراء فيهم قد قاموا بتحريرها بما يتمنونه ويتوهمونه وليس حقيقة.
كم من شاعر زعم أمامي انبهار شعراء ونقّاد لهم بصمتهم في المشهد الثقافي بشعره، لأكتشف أن هؤلاء لم ينتبهوا له، أو أن مجموعته الشعرية حرمت الشاعر “الكبير” المكرس من النوم لعمقها وفنيتها العالية وجرأتها، وحين التقيت بالشاعر “الكبير” المكرّس، وسألته؛ اكتشفتُ أنه لم يسمع باسمه وليس بمجموعته الشعرية فقط؛ هنا نجد الفرق بين هؤلاء وبين الذي نمت وترعرعت في روحه المحبة والموهبة والعلم والتواضع ونكران الذات وأعني به حاتم الصكَر.
عقدة  اسمها حاتم الصكَر
العلمية التي تتميز بها نقود حاتم الصكَر؛ والمشبعة بروح الشاعر الذي يسكنه؛ جعلت دراساته تمسك بطرفي النقيض والذي يفتقده معظم النقاد، فحاتم الصكَر شاعر وناقد في الآن نفسه، رجل لم يفشل في الشعر ولكنه حقق حضورًا كبيرًا في المدونة النقدية العربية حدّ الإبهار، خلق عقدة أطلق عليها “عقدة حاتم الصكَر” وتتمثّل هذه العقدة بأن مَن يكتب عنه حاتم الصكَر يعطي جواز مرور إلى الشعرية العربية، وفي ظل حالة القلق التي يعيشها المجتمع العربي بعامة وطبقة المثقفين بخاصة، فقد أدّى هذا ليسفلم يؤدِّ هذاإلىأن يصبح حلم كل شاعر أن يقتنع به حاتم الصكَر فيكتب عنه؛ بل أصبح الذين لم يكتب عنهم يتعرضون له غمزًا أو يتعرضون لمن يكتب عنه جهارًا.
فلم أستغرب وهو يخبرني أنه تلقّى رسالة أو أكثر تلومه وبشدة لأنه كتب عن فلان وعلان ولم يكتب عن صاحب الرسالة، ولم ينج كاتب السطور من أن يتسبب بوصول رسالة أو أكثر  لناقدنا المميز، تلومه على تناوله لتجربتي الشعرية، وهناك الكثير مما لم يبح به الصكَر، ولكني حدستُه عبر أحاديثنا، ووجدت المرارة واضحة في حديثه، حين قال لي ونحن في معرض الكتاب بالقاهرة: أكتب بمحبة ولا أفرق بين هذا وذاك، وأي عمل يعجبني أكتب عنه، حتى لو اختلفت مع محتواه الفكري ورسالته التي بثها مبدع العمل، وضرب لي مثلاً بمبدعين عراقيين، وأشار إلى خطورة الرسالة التي بثّوها في أعمالهم، لكن أعمالهم فنيًّا تستحق الكتابة عنها بحسب قوله.
عندما أتأمل ما نشر الصكَر من شعر، وما نشره سواه، وكيف حقق سواه حضورًا؛ بل وصلت ببعض هؤلاء أن تمت دراسة منجزهم الشعري ضمن رسائل ماجستير وأطروحات دكتوراه؛ بينما شعرية حاتم الصكَر ظلمتها قدراته النقدية التي أصبحت علامة فارقة في النقد العربي، حتى أصبح حاتم الصكَر الناقد هو المهيمن هيمنة مطلقة على حاتم الصكَر الشاعر؛ شاعر مجهول وناقد يمنح بطاقة دخول للشعرية العربية للذين يكتب عنهم، مفارقة، لا أظن الصكَر يهتم بها، لسبب بسيط أنه رجل هوايته الأولى وشغفه الأكبر القراءة، وأن يكتب عما يعجبه مما يقرأ من الإبداع أو ما يشاهده فيما يخص الفنون البصرية.
في كتابي “دموع الكتابة .. مقالات في السيرة والتجربة”أشرتُ إلى دور الصكَر في تكويني الثقافي، وبفضله تجنبتُ منزلقات وقع فيها شعراء يكبرونني سنًّا وتجربةً في حينها؛ وهذا نَصّ ما دوّنته بحقه:
“كنتُ أترَقَّب يوم الخميس بلهفة، لأن للناقد حاتم الصكر مقالاً أسبوعيًّا في جريدة الجمهورية، ومساء الخميس يكون مقاله مادة لنقاشنا حين نلتقي، والصكَر هو أحد أكثر النقّاد الذين أحببتهم، رغم إعجابي الكبير بعلي جواد الطاهر الذي مازلتُ أرى فيما قاله بخصوص الناقد الناجح هو الصواب بعينه، أي أن يكون موسوعيًّا ملمًّا بشكل جيد بجميع المعارف لكي يستطيع فكّ شفرة النص الإبداعي. ولا أنكر ما تعلمته من الآخرين وإعجابي بمنجزهم وهم كُثر، لكن يبقى لحاتم الصكَر مكانته في نفسي، وشعرت بفرح كبير مشوب بمسؤولية عالية حين علمتُ من عدة أشخاص أنه أثنى على شعري، وقد وَثّقَ هذا الثناء بتناولي أكثر من مرة. أؤكّد على إعجابي بجميع النقاد الذين تعلمت منهم فترة المراهقة، وهم ممن ولد في النصف الأول من القرن العشرين، ولكن ثمة خصوصية للناقد الدكتور حاتم الصكَر، أعزيها أحيانًا إلى ميلي لأسلوبه، ومرة إلى أنه أكثر ناقد قرأت له مبكرًا، وأضيف إلى ذلك لقائي به وما يتحلى به من خُلق العلماء كما في تراثنا العربي، حيث التواضع الجمّ والاحتفاء بكل تجربة مهما كان عمر صاحبها، مازال يتحسس لوعة الإبداع فيها ووهجه وبريقه حتى لو كان خافتًا تحت ركام ضعف الخبرة وبساطة التجربة، فهو القارئ المحترف بمهنية عالية وذائقة شاعر خسره الشعر وربحه النقد”. من (دموع الكتابة .. مقالات في السيرة) ص 25-26 .. إصدار 2014