في بيت الفنان روبنز

 
يوم صائف..ظلال باردة

في بيت الفنان روبنز

تمثال روبنز في أنتويرب قريبا من بيته-المتحف

واجهة في بيت روبنز

أربع صور شخصية -بورتريهات -لروبنز مع شرح حولها-في بيته
 
واجهة داخلية في البيت

مع لوحة آدم وحواء
 
ملاحظة: الزيارة الصيفية ليست الأولى، كما تلتها زيارة هذا الشتاء.وكانت لنا  بعض الصور الشتائيةّ بجانب انطباعات صيف فائت..
عطايا الصيف الأوربي كثيرة لقادم من الجنوب الأمريكي الرطب والحار.نثيث مطر في شهر آب الذي يردف العراقيون اسمه دوما بوصف: اللهّاب.ولكن هاهي بلجيكا وهذا شمالها.أنتويربن أو أنتويرب هي المدينة الأشهر بكاتدرائيتها ونهرها وطبيعتها.لكن بيت روبنز يعطيها امتيازاً آخر.ها نحن في أفياء بيته الذي تحول إلى متحف في قلب منطقة مير مركز أنتويرب السياحي والترفيهي.لامركبات ولا زحام.مقاه ومراكز تسوق ومشارب ومطاعم ومعالم قديمة تزينها المنحوتات والتماثيل . وفي أزقتها وعند عتبات معالمها يقف أو يجلس العازفون والممثلون والمهرجون ليقدم لهم المارة بعد انتهاء عروضهم ما ينفقون لحياتهم. .الريليفات الكثيرة تزين أعلى المباني في هذا المكان  حتى الرسمية منها، فضلاً عن الفنادق والحانات ..يوم صائف نلوذ بظلال بيت بيتر باول روبنز.الفلمنكي العائد إلى المدينة بعد أن هدأ الصراع الديني بين الفرق المسيحية.عاد ليسكن في مير ويعمل في الدبلوماسية .وليعيش سنوات ثمانية في إيطاليا تركت أثرها الفني وسماً في أعماله.ما إن ترى لوحة سانت سباستيان حتى تتذكر تمثاله المنحوت على طريقة عصر النهضة الإيطالية التي كان فنها أحد عاملين أثّرا في روبنز.الآخر كان الفن الكلاسيكي الروماني.أعمال مايكل إنجلو ودافنشي ورافاييل ستكون قدوة روبنز  المفتون بالظلال والأضواءوالكثافة الجسدية .الباروكي الذي يحشد التفاصيل في لوحته لحد أن ديلاكروا سيقول متفكها إن لوحات روبنز تشبه تصوير اجتماع .ذلك ما تحسه وأنت في متاهات غرف البيت الذي آثر اختيار الزمن ساكناً فيه فصار متحفاً. المتاهة تظهر حين تسلمك الغرف لبعضها في سرد مكاني طويل يفضي بعد  حين لمنعرج هو الآخر يسلمك لضلع مربع من البيت ،بينما تمنحك النوافذ فرصة ضئيلة لترى باحة البيت وقد سادها الفراغ كنفَس عميق بعد جري طويل.تلك هي ازدحامات رسوم روبنز نفسه واحتشادها بالتفاصيل. وهي سمة المدرسة الباروكية التي يعد روبنز أحد أعلامها. وهي ميزة فنية للأعمال الفلمنكية عامة.ألم تشهد عيناك لوحة رامبرانت حراس الليل حيث رسم برقم قياسي عدداً كبيراً من الحراس في صف عريض في عمل واحد؟ وهي سمة ستراها في أعمال مواطن روبنز.أعني بروغل ومثله فان دايك وسواهما من رسامي الديار الفلمنكية.
عليك أن تأخذ تذكرتك من مبنى يقابل البيت.ستجتاز للوصول إليه طاولات الحانات الصيفية ،حيث الشراب الذي لا يفارق كؤوس البلجيك نهارا وليلاً. شيئان مقترنان   بالبلجيك : الحلوى غريبة الأشكال والهيئات، وجعتهم المميزة التي تقترن باسم الشيطان ، كأنما تعطي لشاربيها وعداً بفعل يناسب مذاقها الثقيل.
في المبنى المقابل ، وحتى يأتي دورك لقطع تذكرة الدخول لبيت روبنز- ضيافته أوربية بمقابل! لاكرم حاتمي هنا ولا ضيافة! – سترى كتباً وأبحاثاً وصوراً للوحاته
وتذكارات…أما الألم العميق فسيبدومعلقاً في فضاء البيت.الفنان الذي فقد زوجته الأولى إيزابيل  و فقد ابنته  الشابة سيكون كئيباً بما يكفي لقليل من النور في اللوحات، كما في غرف البيت وممراته.احتشاد لأشياء لايترك فسحة:أعماله، أعمال أصدقاء أو رسامين معروفين .كان يقتني كثيراً ويجمع أعمالاً عديدة.مقتنياته اصطفت  مع أعماله.أثاث وديكورات صممها بنفسه.نعم.ألم يكن مهندساً ومصمماً ومعمارياً.؟ وكان دبلوماسياً يفض نزاعات الدول،ومواطناَ عالمياً.السنوات الثمانية في إيطاليا تركت وسمها في فنه.لكن سنواته في لندن أبهرت العائلة الملكية فوهبته لقباً رفيعاً، وكذلك عيشه في أسبانيا.لكنه هنا في أنتويرب رسام يهفو لتخليد ذاكرتين: وطنية ودينية.الثانية ستكون أقوى .وها هي لوحته( البشارة)  عن جبرائيل وهو يزور مريم بالبشارة تشي بعمق كاثوليكيته. أما  لوحته مذبحة الأبرياء فهي استعادة ثرية وبليغة للذاكرة المسيحية.هاهم جنود القائد الروماني هيرود يجزون رؤوس
الأطفال دون تمييز، لعلهم يجدون بينهم المسيح الذي علموا أنه سيظهر ويهزم امبرطوريتهم. العنف الذي يوتّر مشاهد اللوحة سيمتد أثره لبيكاسو ،فينقل عن لوحة روبنز تفصيلاً صرح به نقاد الفن وهي الأم التي تحتضن طفلة في لوحة الجورنيكا.
الكرسي المميز الذي عرف بالكرسي الأسباني بناء على أسلوب صناعته في القرن السادس عشر بالطريقة الأسبانية ،  بمقابل الجدارفي هيبة يسمح لك برؤية اسم روبنز الثلاثي بحروف ذهبية .
محامل الشمع والأواني والكؤوس  والمرايا وسواها من بيتيات الحياة اليومية تشي بلمسة تتماهى مع فضاء الفن في المكان.وتكمل الرؤية البصرية لمأوى الفنان.
لم يرسم روبنز صوراً شخصية  كثيرة له.يتحدث دليل البيت المطبوع عن أربع ، بقيت منها واحدة هي أشهرها في المكان ،فيما توزعت الباقي في المدن الأوربية : فلورنسا وفينا ووندسور.البورتريت يبرز منه وجه روبنز فتياً لحد كبير لا يناسب عمره حينذاك ، مضيئاً بألوان  شاربه ولحيته ،وبريق حزين يخرج من عينيه كشعاع في مضائق البيت يخترق الجدار وإطار العمل .كان له قرابة ثلاثة وخمسين عاماً حين رسم نفسه. في العام الذي اقترن بزوجته الثانية هيلينا ،ولم يكن الحزن قد فارقه لفقد إيزابيل وابنته.
اللوحات الدينية تتميز بالضخامة والتفاصيل الكثيرة والألوان.إنه يتابع مجريات زمنه ويدخل في الخطاب الفني الديني كسواه.أعماله توزعتها كاتدرائيات أنتويرب وكنائسها . لكن البيت يحتفظ بتخطيطات لأعمال سقفية صنعها بطريقة إنجلو لتزيين كنيسة الجزويت التي تحولت من بعد.
الخطيئة الأولى عبر قصة آدم وحواء سيخلدها روبنز شأن الرسامين المتدينين عبر تاريخ الفن بلوحة آدم وحواء التي رسمها ممجداً الفضيلة، ولكن بجمال وتلوين لايسمح بالكراهية للخاطئيْن، بل بمحبة غامرة للحياة التي ستلي نزولهما إلى الأرض.وهكذا تسيد الأزرق والأخضر سطح اللوحة ،واندفع الشخوص في عناء جميل أورثانا إياه حتى الأبد.
وفي لوحته البشارة  تبدو مريم في غرفة جالسة تعمل بينما يأتي الملاك جبريل ليبشرها بأنها ستكون أماً للمسيح.
يقتني روبنز الكثير من التحف الفنية. تصطف جنبً إلى جنب مع أعماله في غرف البيت وردهاته وممراته .يعود من إيطاليا ومعه تمثال نصفي للفيلسوف سينيكا. سيظهر التمثال في عمل لروبنز هو الفلاسفة الأربعة حيث ظهر متأملاً ثلاثة من  الفلاسفة القدامى وكأنه أحدهم.
حديقة البيت تمتد خارج فنائه وكأنها استراحة هاربة من اكتظاظ الداخل.حين أخذتنا مسارب البيت وممراته إلى الخارج، بدت الحديقة كمكافأة لصبرنا.زادها المطر رقة وجمالاً.العطايا تتتابع.مطر ينث خفيفاً وغيم كأنما لتكتمل دورة اليوم في ضيافة روبنز وذاكرة فنه المضيء باللون والحركة والإنفعال. استراحة وفسحة لرؤية البيت من خارجه.كم من الآلام اختزنت جدرانه وممراته وغرفه؟
التجول في الساحة الخضراء بعد الخروج من بيت روبنز تلاحقنا أطياف البيت وظلاله وألوان روبنز وتفاصيل أعماله.هذه أنتويرب التي درس الفن فيها ونشأ.هكذا سيحج من بعده بسنين رسام فلمنكي آخر هو الهولندي فان كوخ الذي لم يصبر طويلاً على برامج الدراسة والرسم التقليدية إلا أياماً فعاد لوطنه.
لكنك سوف تتنفس عبق الذكرى، فهاهي كاتدرائيات أنتويرب ومبانيها التقليدية تستدعيك لفسحة في هوائها الطلق.وهاهو روبنز مرة أخرى في مركز الساحة الخضراء وحشود المتنزهين والسياح  ينتصب تمثاله بملابس القرن السادس عشر
مسترخياً، ينظر في خلاء الساحة وصوب النهر القريب وحركة المارة ووجوه النسوة والرسامين الهواة والموسيقيين والسكارى الصباحيين  والعشاق والمتأملين في واجهات المقاهي..
متعة تبلل قيظ آب ليكون لهّاباً بالفن والطبيعة والجمال..ونداءات الرسم والنحت والشخوص الطالعة بحضور عجيب من عمق  الأزمنة والأمكنة والأعمال…