الآخر الشعري – شربل داغر بصحبة ويتمان وبودلير ورامبو ونيتشه

 
الآخر الشعري: نصٌّ على نصِّه!
 
ليس للقصيدة ساعي بريد.هي تجتاز حواجز اللغة والثقافة والجغرافية لتحط في الذاكرة وتتسلل إلى نصوصنا من بعد.حتى قبل درس التناص وتقعيد مفرداته وكيفياته الممكنة نظرياً وعملياً، شعر الشعراء بذلك فصرح أحدهم من عصر ماقبل الإسلام بأننا لانقول إلا معاداً من الكلام ومكرراً.
اليوم تتقدم شهادة شاعرعربي حداثي ليبسط رؤيته في قراءة شعراء الحداثة :  ويتمان وبودلير ورامبو، ويختمها بتعالق شعري فكري مع نيتشه .
الشاعر الناقد شربل داغر قدَّم شكلاً جديداً من التأليف -أو التوليف بعبارة أدق بين رؤيته وقراءته وأشعاره- في كتابه ( أنا هو آخر بصحبة ويتمان، بودلير، رامبو ونيتشه) ،معيداً إلى الذاكرة كتاب  (أنا هو الآخر) للفرنسي باحث السيرة الذاتية المعروف فيليب لوجون المعنون بعنوان مقارب تماماً .فكـان شربل يخرث في حقل قريب هو السيرة الشعرية وإعلان المؤثرات.
في الكتاب المختلط – سيرةً ثقافية وتعرّفاً واستذكارات وأشعاراً وأقولاً من الأربعة  ومن شربل- على المتلقي أن ينسلَّ إلى المقدمة التي جاءت في آخر الكتاب، وعنونَها ب(مقدمة متأخرة). وهذا ليس مطلباً شعرياً أو فذلكة عنوانية لأنها  تتعلق بدور العتبات النصيَّة ووظائفها ، فلماذا المقدمة تتأخرإذاً عن مكانها ؟ يرى شربل داغر أن المقدمات في العادة مضللة، فهي آخر ما يكتبه الكاتب ،لكنها ترد في أول الكتاب. واستبدالاً لهذا المكر التأليفي يضع شربل مقدمته آخر الكتاب .وفي الحيثيات يقارن ذلك بما يفعل في كتبه الشعرية.ولا يجد القارئ مبرراً مقنعاً لهذا التلاعب بتراتب العتبات وموقع المقدمة كإحدى موجهات القراءة ، لكن شربل في مزاج شعري يكتب شعراً في نقد ونقداً في شعر كما يقول.ويتناسى المواجد والمناجيات والأخيلة المتأرجحة بينهما.كالرسائل التي يوجهها للمصحوبين في الكتاب، والإستذكارات السيرية من رحلة التعرف على المصحوبين الأربعة.
وكيف اختارهم للصحبة؟ يقول شربل إن بينهم وشائج يلخصها بأنهم يشتركون في التمشي: هم راحلون واقعياً أو رمزياً، ولأنهم شدّدوا على الحداثة في كتبهم التي يقرؤها هنا،وأن الذات المتكلمة لدى كل منهم تنشق، وتخرج القصيدة إلى الشارع بعد خروجها إلى النثر.وتبقى صحبة الشعر للفلسفة مقصورة على كتاب نيتشه المقروء في الصحبة(هكذا تكلم زرادشت). لكن الصحبة المفصلة في لقاء شربل بكتبهم عبر فصل لكل منهم أو كتاب كما يحب أن يسميه ،لا تعني توفر تلك المشتركات تماماً.ها هو يستدرك ويبدي تحفظاته . نيتشه نجده  موصوفاً بالخبث والقسوة.ربما لفكره المعالَج  شعريا ًفي معمل تأويلي خاص بشربل؛ ليغدو رفيق الصحبة مع الثلاثة المكرسين شعراء حداثة مبتدِعين.
لايريد شربل أن تكون خطاه بعد الأربعة أو تبعاً لهم.يختار من الكلمات البارعة في التلميح مايؤكد قوله( كتبتُ شعراً من دون أن أتبعهم أو أن أتشابه أو اتماهى مع ما صنعوه).و لتفنيد ذلك لن يحتاج القارئ لدليل نصيّ مثلاً، كالإنطلاق من أقوال أو أشعار لهم وإشارات وإحالات نصية، ستكون التعقيبات في الكتاب دليلاً على الإقتراب من الأربعة حدّ التفاعل الروحي و شراكة الذاكرة ، وذاك من لوازم المثاقفة كما نراها، وكما يعلمنا درس التناص الذي لم يرد بآسمه في الكتاب. لكن ثمة ما يشي بذلك. مثل قول شربل(هذا الكتاب علامة معلنة من أن الكتب تتناسل من بعضها البعض، في حوار أو نزاع معها ، في تماسٍّ أو تصادم بها).
لكن استقصاءنا لبعض تفوهات شربل في ثنايا الصحبة ترينا ماهو أبعد من موقف النزاع والحوار.وأقرب من التماهي والتشابه والتتبع.مثلاً عن نيتشه يقول شربل(أقتربُ مما فعلَه في شذراته ، ..هكذا تكلمتُ في كلماته وعِبرها، كسارقٍ علني) اعتراف يقرّبنا من التناص التام، وبعد أن صرّح، يستدرك  بأن السارق لا يطلب شيئاً، ولكن يريد (مؤونة مزيدة في  دروب التجوال).لذا كان نيتشه عكس ويتمان يستفزني كما يقول،لأن له قدرات كامنة على تحريضي!تلك إحدى وجوه المثاقفة في اللاوعي حيث تكمن المقدرة على التحريض والإستفزاز.ليكتب المصاحبُ ما قاله الصاحبُ بلغته !
مخاطِباً ويتمان يقول شربل(ما استطعتُ الوقوع على ما يدلّني إلى ما شعرتُ به في قراءة شعرِك) . إن المثاقفة هنا لا تسعف ويعود شربل عربياً لا باحثاً عن ىخره .فيقول عن ويتمان إنه يقيمني في شعر (أجنبي) لا في شعر أتفاعل معه.
وسنعدّث إذاً من التناسل النزاعي ما يقوله في ويتمان بأنه مغنٍّ واعظ  يتكلم بصوت عالٍ كما لو يخطب،  لذا لم يجد فيه ما يستفزه أو يحرّضه كما يقول.إنه يؤطره بالخيال منذ العنوان، لكنه يتلمس الإيديولوجي في فكره الشعري.ويشدد على تمجيده لأمريكا أو (ما بات اسماً جديداً لعالم قديم)، ويستطرد منه في هجاء هذا العالم المتوحش.ووددت هنا لو قايس شربل  ويتمان بأمين الريحاني، وما كتبه في نيويورك التي رآها عام 1910 نهراً من الكهرباء على ضفتيه جبال من الرخام وغابات من الحديد،هو كل جمالها.وكان ويتمان يرى أمريكا  جسداً عظيما ً مكتملاً ولكن بروح هزيلة..ثمة فراغ في القلب لم يعمَّ من قبل..
يشكل شربل داغر الأصحاب الأربعة كما يحب. هذا من حقه وحرية قراءته، ولكن بوعد ألا يتبعهم خلاف قناعاته . حصل ذلك في موقفه من الإيقاع مثلاً، فإذا كان نيتشه قد رفض الوزن والإيقاع فليس لناقد  وشاعر حداثي أن يتابعه في ذلك ويساوي بينهما. لنقرأ مثلاً( له -أي لنيتشه – موقف جذري من الوزن والإيقاع،إذ يعتبره مما  أُقحم داخل الخطاب) كلمة أقحم تدل على واحد، فيما يتحدث نيتشه عن الوزن والإيقاع معاً. ولايريد شربل أن يركّز على ذلك .بل سيتبعه بالقول مثلاً إن الإيقاع الداخلي في قصيدة النثر وهم!وكذا مع  قصيدة بودلير حيث ( لم يعد للوزن والقافية ولا الإيقاع حتى أية أهمية على الإطلاق).يقول شربل.وهكذا يسقط الإيقاع عن قصيدة النثر أوالقصيدة بالنثر كما يسميها.ولكن دون أن يسوق لذلك ما يكفي من المبررات أو الأسانيد النصية .ربما بالقول فقط (إن أي كلام عن إيقاع داخلي مضلل ، ودفاعي الطابع)
نظرياً يستخدم شربل داغر مصطلح (القصيدة بالنثر) وإذا كان يريد إنقاذ قصيدة النثر من مشكلة المصطلح الجامع بين نقيضين تنبه له روادها ومنظّروها ودارسوها، فإنه لم يغير كثيراً بمقترحه ،فقدّم  القصيدة مكتوبة بالنثر.وما من فرق ملموس.
وما فعله رامبو عنده هو أنه ( إذ خرج من القصيدة وصل  إلى اللغة، فيما قادته هذه إلى الشعر).بينما ق جرى العكس تماماً .فالقصيدة هي التي استقلت عن الشعر. (الشعر)  كتلة تتراكم  بالحمولة المعجمية والوزنية، وخطابه الخارجي الممتثل للقوانين القارّة.فكانت الثورة على أعرافه تقود إلى ( القصيدة) التي تصنع قوانينها، ولا تحتكم أوتركن إلى ميراث .
في المحصّلة لن يظل إلا صاحب واحد هو رامبو المتسيد منذ العنوان ، فهو القائل (أنا هو آخر) .وشربل يستعير ذلك ليكون الآخر في تلك الصحبة الرباعية . وكان متماهياً معه.فقال(اختلط كلامي بكلامه،سيرته بسيرته، كتابي بكتبه..) ويخاطبه قائلاً( مثلك  يارامبو سأنتقل إلى فرنسا، إلى مدينتك لكي أستعيدك، لكي أتبعك إلى قبرص وعدن، إلى القاهرة وهرار، سأعلم انني مثلك متشرد أبداً).
كان ذلك مشوِّقاً حقاً.كتاب بأربعة فصول كفصول السنة، فيه مواجد وشطحات وشعر ونقد.هو ضرب مبتدَع من المثاقفة الشعرية.هنا  آخرٌ بنصوص على نصه وحياة تلاحق حياته في الشعر والحياة ذاتها.
اما قصائد شربل في الكتاب فلها حديث آخر يطول، لكنها تراءت في نوعين: ماهو أشبه بنص فوق نصوصهم، أو بطيران  في فضائها غير بعيد..