(ليل الأرمل )لعبدالرزاق الربيعي هل تكفي خيمةٌ سماءً لوطن؟

 
 
 
 
رجل أرمل من كل شيء: من الأمل ، والوطن ،والأحبة.
ذلك الفقد كافٍ ليحصل الشاعر عبدالرزاق الربيعي على ماتمناه في ديوانه الأخير(ليل الأرمل )منشورات مجلة نزوى بمسقط..أمنية بسيطة ، أن يكون ذلك الأرمل الذي اختاره القدر ليتركه وحيداً بعد الرحيل المؤثر لزوجته التي رثاها في أكثر من عمل ، أبرزها(قليل من كَثير عَزَّة)2016.لكن قرّاءه لاحظوا دون شك أن وصف( الأرمل) في عنوان ديوانه الأخير إزاحة قوية من المرأة فاقدة الزوج إلى الرجل الذي سنرى خساراته كلها عبر الإهداء والإقتباسات التي تتصدر الديوان كموجّهات قراءة وعتبات نصية ذات مدلول ،يعضّد ذلك الألم الممض الذي تزدحم به القصائد السبع والعشرون المكتوبة بالوزن الحر وقصيدة النثر.والتي تتضح فيها النزعة الدرامية في شعر الربيعي الذي جرّب الكتابة للمسرح.كما أن مناسبة الديوان الثلاثية: رثاء أخيه المسرحي والسينمائي  الراحل محمد الربيعي، وصديقه السينمائي
العماني سالم بهوان ،واستعادة رحيل زوجته بعد مرض طويل،جعلت الدراما ألصق بالديوان ، متخفية في أغلب النصوص ، وواضحة كتقنية حوارية في نصه المميز(المشهد الأخير) بدءاً من عنوانه الذي يستعير مصطلحاً درامياً ، وإهدائه المعبّر( إلى أخي محمد في مشهده الأخير) وأخيراً وهو الأكثر أهمية :تقنية القصيدة التي تنمو عبر مفردات السينما ومصطلحاتها :
الملاك جاهز
و(كادر) السماء
جاهز
العرش والضياء
 
(لقطة رأسية)
تنزل من أعلى تسابيح العصافير
إلى النجم
الذي ارتقى
من هذر التراب
 
لم يكن الربيعي بحاجة لهذه الكمية الهائلة من العذاب ليمجد الموت والموتى.فقد طبع الحزن بميسمه جلَّ أشعاره.تاريخه الشعري يبدأ عام  1987بديوانه(إلحاقاً بالموت السابق) ويمتد مع الموت في ديوانه(حداداً على ما تبقى) ثم (جنائز معلّقة)..لقد أكلت أعمار جيل الثمانينيات التي ينتمي إليها الشاعر تلك الحروب المدمرة التي عصفت بالعراق ،وكان شباب الشعراء  خاصة بعض وقودها المحترق مع ما احترق من الوطن.هكذا كانت المراثي ومفرداتها وموضوعاتها هي مادة أغلب الشعر الثمانيني.
سيجد عبدالرزاق نفسه  في ليل كثيف السواد  ،اختاره مبتدأ لعنوان ديوانه مضافاً إلى الأرمل الذي وصف به نفسه.وسيجد القارئ نفسه كذلك  متخبطاً في ذلك السواد الليلي الأرمل. وتأتي بعد الإهداء الموجه لأخيه وصديقه الراحلين مقتطات عن الفقد والفراق من مراحل متفاوتة، وثقافات متباينة يوحد بينها الأسى.يستشهد الربيعي بأبن خفاجة المتكلم بلسان الجبل ،مودّعاً أصدقاء ونزلاء لا يعودون بعد أن استظلوا به، وبقول من ملحمة جلجامش ،وأبيات من شعر السياب، والكُميت ، حشد متنوع يقول الكلمة بعبارات متعددة، لكنها تهيئ القارئ لتسلم نصوص الفقد التي تضيء ليل الأرمل وتخفف تباريحه.
شركاء الأرمل كثر.وهذا واحد منهم.الرسام العراقي المغترب بهولندا موفق أحمد الذي وصل  إلى المنفى ناجياً من البحر الذي ابتلع الأجساد والأرواح.ومريضاً سكن شقة تقابل السكن الذي مات فيه  الشاعر كمال سبتي في المدينة ذاتها.
يرسم الربيعي بورتريتاً شعرياً لموفق أحمد  مستقبلاً صباحاً موحشاً، لا يقل ظلاما عن ليل الأرمل.من هنا كان عنوان القصيدة مناسِباً لأجواء الديوان: ماتبقى من ظلام:
صباح كل يوم
اعتاد أن يزيح الثلج
عن نافذة وحدته
من على الطابق العاشر يلقي نظرة
على ما تبقى من ظلام
يقول لشوارع (ماسترخت)
صباح الخير
لأطراف الأشجار
صباح الخير
لعيون ميدوزا التي تلمع في تخطيطاته
الزوجة الراحلة حاضرة أيضاً في (طائران في خلوة).الآن لم يبق سوى التذكار، وهاهو يستنجد بذاكرته ليستحضر صورتها:
حين يداهمني الغياب
بغتة
أتوسد حضورك الكثيف
في قلب الذاكرة
…أتوسد ليلك الطويل
وهو يضع رأسه
على دكة الأمس الذي عبرناه
هناك
الموت كواقعة حياتية تحول في قصائد الربيعي لغة وصوراً وإيقاعات توائم ما في داخله .وتترجم ذلك الأسى لتحمله القصائد في ليل الأرمل…ذلك الماراثون المتواصل من العناء والأسى..وليشرك الآخرين في ظلمة ليله ذاك.ضحايا سبايكر  الشبان الذين ذبحهم سفاحو داعش، المدنيون الذي اكتظ بهم الجسر هرباً من الموت في غرب نهر الفرات….حيث صاروا لاجئين في وطنهم..وتحت خيام النزوح يصورهم الربيعي متسائلاً:
هل تكفي خيمة
لتكون سماء لائقة لوطن؟
وفي قصيدة الديوان الرئيسة(ليل الأرمل) ثلاثة مقاطع بعناوين فرعية.سنقف عند المقطع الأخير(تطيُّر) حيث يوظف الشاعر ما تختزنه الذاكرة الشعبية عن الغراب كعلامة للفراق والحزن، وتتطير من ظهوره في فضاء البشر.ولكن ماذا ظل ليأخذه الغراب؟يتساءل الربيعي:
ماذا ستأخذ يا غراب؟
..ماذا ستأخذ بعد مني
والتي قيدتها
بمحبتي
قد أصبحت قيد الغياب
أسلوبية الربيعي ذاتها في الديوان : بساطة مؤثرة تنسل لقلب قارئها وتورطه في هذا الطوفان من الحزن النبيل الذي لم يعد مبالغاً فيه، وهو يملأ نفوسنا وقلوبنا وذاكراتنا المستلبة.. وحرة في اختيار الشكل الحر أو قصيدة النثر التي يمنحه استرسالها  فسحة لتصوير ألمه وتفاصيله الممكنة.
رسائل الأرمل لقارئه تصل ممزوجة بالألم والشجن ،وتعلي واقعة الموت لتصبح ظاهرة شعرية لا يخفي النظم قسوتها وعنفها.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*