كتاب يكشف رائداً في نقد الشعر عن روفائيل بطي: عبدالرحمن الربيعي

 
 
كتاب يكشف رائداً في نقد الشعر العربي الحديث
                                            عبد الرحمن الربيعي
جريدة (الصحافة)- تونس- 30-11-1995م
-1-
هناك كتب اسميها كتب احياء الذاكرة لأنها توثق لجهود قد تظل ضائعة مبعثرة بين صفحات الجرائد والمجلات القديمة حتى ينتبه لها باحث حريص فينتشلها ويعيد إليها الحياة ويوظفها ضمن المسار الإبداعي.
ومن هذه الكتب التي يحيي الذاكرة وترد الاعتبار لأحد رواد نقد الشعر في العراق هو المرحوم رفائيل بطي الذي كان صحفياً معروفا ونائبا، ولكن كان له في الشعر هوى ومن قائليه مودة وصداقة.
عنوان الكتاب هذا (رفائيل بطي وريادة النقد الشعري في العراق) للناقد المعروف حاتم الصكر الذي انضم أخيرا إلى أسرة التدريس في كلية الآداب بصنعاء العاصمة اليمنية.
-2-
عاش رفائيل بطي بين عامي 1901 و 1956م ورغم قصر حياته إلا أنه من الأسماء التي تذكر وتظل ماثلة، فقد أنجز المؤلف الاستاذ الصكر قبل سنوات دراسة عن دوره المبكر في ريادة ما أصبح مصطلحاً على تسميتها (قصيدة النثر).
ولولم تكن لهذا الرجل هذه المكانة الموثوق بها لما طمح شاعر شاب هو المرحوم بدر شاكر السياب وكان ذلك عام 1947م لأن يكتب رفائيل بطي مقدمة لديوانه البكر( أزهار ذابلة) وهذا ما كان له رغم ان المقدمة جاءت قصيرة جدا (من صفحتين فقط).
يقول بطي في تلك المقدمة: (حمل إلي ثلاثة من الطلاب العراقيين الذين يتلقون العلم في الجامعة المصرية مجموعة هي مادة ديوان لشاعر عراقي شاب يطبع في إحدى مطابع القاهرة وطلبوا مني تقديما لها).
هو يروي في البداية كيف وصل إليه الديوان، ولكن المهم هو انتباهه لما يحمل هذا الديوان من وعد بشاعر ذي تجربة مختلفة عن السائد الشعري. يقول بطي:
( بل نجد الشاعر الطليق يحاول جديداً في إحدى قصائده- هل كان حبا؟- فيأتي بالوزن المختلف وينوع القافية محاكياً الشعر الإفرنجي، فعسى أن يمعن في جرأته في هذا المسلك المجدد، لعله يوفق إلى أثر في شعر اليوم، فالشكوى صارخة على أن الشعر العربي قد اختفظ بجموده في الطريقة مدة أطول مما كان ينتظر من النهضة الحديثة).
لنتأمل ما سقناه على قصره لنرى أنه يثير فيه ثلاثة أمور مهمة هي:

  1. أنه يرجع حركة الشعر وهذه القصيدة من قصيدة الكوليرا للملائكة بواكيرها أو تباشيرها إلى محاكاة الشعر الإفرنجي.
  2. الدعوة المستقبلية الجريئة التي وردت في حثه للسياب لأن (يمعن في جرأته).
  3. تأشيره إلى الشعر العربي وقتذاك (1947) كان في أزمة، وأن هناك (شكوى صارخة) من جمود هذا الشعر.

ونستنتج من هذا كله أن ولادة حركة الشعر الحر لم تكن (قيصرية) بل كانت وليدة حاجة.
ولذا نصل إلى القول أن كتّابا ونقادا من أمثال هذا الرجل كانوا وراء استمرار التجديد في كل الحركة الأدبية في وقت كان غيرهم يرفض هذا ويراه تخريباً وإساءة، وبعضهم من ازدوجت معاييره ما بين الدعوة إلى التقدم في مجالات والمحافظة التقليدية في مجالات أخرى مثل المرحوم العقاد الذي كان يرى شعر صلاح عبد الصبور الحر نثراً ويحيله إلى لجنة النثر في المجلس الأعلى للآداب والفنون.
-3-
إن معرفة رفائيل بطي الوثيقة بمصر وعلاقاته مع أعلامها في الصحافة والثقافة جعلته يخصص أكثر من موضوع عن هذا البلد العربي، على سبيل المثال مقاله (القديم والجديد في الآدب وأنصارهما في مصر) وفيه يناقش ما يطرح من أراء أواخر الأربعينيات ولا يخفي انحيازه للتيار المدافع عن الجديد.
وعن أدب وأدباء المهجر يكتب أيضاً وما هي أصداء أعمالهم في بلدانهم ونراه يسخر من ظواهر تعتيم الألقاب الباذخة بلا حساب لهؤلاء الأدباء عندما يقومون بزيارة إلى أوطانهم من مهاجرهم.
ويرى بطي -أن أدب المهجر على ضعفه من ناحية الفصاحة- فهو قد برز الأدب السوري بما ناله من مديح- ومصطلح الأدب السوري كما هو شائع وقتذاك يقصد به أدب سوريا ولبنان وفلسطين- وهذا المقال نشر عام 1925م.
ثم نراه يدافع عن الفصحى في وجه دعوة للعامية أطلقها من بيروت رجل دين مسيحي هو الخوري غصن، ونرى بطي يسمي هذه المسألة بـ (البدعة).
يقول بطي- وكان ذلك عام 1925م- (أما ترك اللغة الفصحى والركون إلى اللغة العامية ففكرة مأفونة ورأي فائل لا نخال أن هناك عربياً يوافق عليه بل يشجبه ويقاومه ما استطاع إلى ذلك سبيلا لأنه يقضي على اللغة العربية الفصحى ويؤثر تأثيراً كبيراً في كيان الأمة العربية ويحل أواصر القومية).
والغريب أن الدعوة إلى (اللهجة) العامية وليس (اللغة) كما استعملها خطأ المرحوم بطي قد ظلت حية حتى اليوم؟، تختفي في فترات نهوض الأمة وتظهر في فترات انتكاستها لا بل أن البعض بالغ في هذا حيث دعا إلى كتابتها بالحروف اللاتينية مثل الشاعر سعيد عقل وبعض مريديه.
-4-
وعلى الرغم من أن عنوان الكتاب الذي اختاره مؤلفه حاتم الصكر يحدد ريادة النقد الشعري عند رفائيل بطي بوطنه (العراق) فقط إلا أن مقالات الكتاب لا تتقيد بهذا التحديد ونراها مهتمة على قدر المساواة بالأدب العربي في سوريا والمهجر ومصر والعراق، لا بل أنه وفي مقدمة مقاله( قبس على ضفاف الرافدين) يذكر حادثة تؤكد هذا إذ يشير إلى ما يلي:( كتب إلي أحد قرائي النبهاء كتاب عتب لطيف ينكر علي فيه انصرافي إلى تمثيل الحركة الفكرية في وادي النيل ووادي بردي وإهمالي الحركة القائمة على ضفاف الرافدين).
فإذا كان الأمر هكذا مع مقالات هذا الكتاب فإن ما تمنيناه من صديقنا حاتم الصكر أن يختار له عنواناً أكثر ملاءمة لمادته.
وبعد مقالته هذه التي يثبت فيها عتب قارئه نراه يتواصل مع الأدب العربي في مصر بمقال عنوانه (أثر شوقي في أدب الجيل) وتعود هذه المقالة إلى عام 1927 وهي مجتزأة من خطبة ألقاها في حفل تأبين شوقي في مبنى سينما الوطني ببغداد، وكان بطي نفسه من اقترح إقامة هذا الحفل متزامنا مع مثيله في القاهرة.
ثم يخرج بطي من الشعر إلى القصة فيكتب مقالة عن القاص الرائد محمود تيمور تحت عنوان (محمود تيمور والبلاغة القصصية الحديثة) وقد نشرت عام 1925م.
وفيها هامش لافت للنظر جاء فيه:( استعضنا بكلمة بلاغة عن كلمة أدب وهي أعم وأكثر شمولا ومن وضع الدكتور أحمد ضيف مدرس الأدب العربي في الجامعة المصرية سابقاً). وهذا الهامش يدل على أن الرجل لا يأخذ بالمسلمات بل يتوقف عندها باحثاً عن البدائل.
ونجد أن بطي يؤاخذ تيمور على استعمال اللهجة العامية في حوار قصصه وهو ما سيتخلى عنه بعد أن أصبح عضواً في مجمع اللغة العربية بمصر حيث أعاد كتابة حوار أقاصيصه ورواياته بالفصحى.
وقد قسا بطي على تيمور في هذا الجانب ورأى أنه (ينزل إلى حضيض التعابير الركيكة والألفاظ المغولطة أحيانا وأداء أسلوب الدهماء القبيح في بعض المواقع).
ويجد له الحل في هذا الاشكال عندما يقول: (أما نحن فلا ندعو له بالنجاح فيها- أي الحوارات بالعامية- بل نرى أن يصرف جهده إلى اللغة الفصحى، وبوسعه أن يفرغ أقواله أحيانا في قالب من السهولة والبساطة مما يجعلها قريبة من العامية، ولكنها ليست العامية، وبذلك تتم خدمته للأدب واللغة).
ونجد أن رأي بطي هذا هو الرأي السديد في حل هذه المسألة وهناك روائيون وقصاصون عرب قد أخذوا به أو بما هو قريب منه من وحي تجربتهم وعلاقتهم مع اللغة، وبينهم استاذنا نجيب محفوظ الذي لا تعرف العامية طريقها إلى نصوصه.
-5-
حاتم الصكر لم يكن جامعا لمادة الكتاب فقط بل نراه يكتب له مقدمة مهمة مطولة جاءت تحت عنوان ( من مضيق التقليد إلى فضاء الإطلاق- في ريادة النقد الشعري العراقي)، وهي مقدمة يستقرئ فيها كل أفكار هذا الرائد الناقد الفذ الذي كنت شخصياً لا أرى فيه إلا صحفياً معروفاً أسس واحدة من أكبر الصحف الوطنية العراقية وهي جريدة (البلاد).
لكن بعد قراءتي لكتاب الصكر عنه صار الرجل يعني قيمة فكرية عربية مهمة، لم يتقلص في مضيق قطري بل تنفس على مساحة الأرض العربية وبشر بالمضيء من أدبها وإبداعها.
 (*) رفائيل بطي وريادة النقد الشعري في العراق- تأليف حاتم الصكر- منشورات الجمل- كولن (ألمانيا) 1995م ويقع الكتاب في 102 صفحة من الحجم المتوسط.