الحداثة ليست ذكرى-عن كتابي (في غيبوبة الذكرى…)- باسم سليمان

 
الحداثة ليست ذكرى بل حياة
كتب
الأربعاء 30-12-2009
باسم سليمان
يأتي كتاب الدكتور حاتم الصكر النقدي « في غيبوبة الذكرى دراسات في قصيدة الحداثة» كوقفة تأمل طويلة ابتدأها من اللحظة الحداثية الثانية,
إن جاز القول, والتي ظهرت إرهاصاتها الأولى في الأربعينيات من القرن الفائت على يد كل من بدر ونازك ومجلة شعر والمهجرية الجديدة مع إنجاز تقاطعات لهذه الرؤية مع كبار رائديها كالسياب ومحمود درويش وأدونيس وغيرهم, مقدما مساءلة لكل تاريخية الحداثة العربية على صعيد الشعر الحداثي مع التأكيد أن الحداثة هي مشروع فني جمالي ميتا زمكاني غير مرتبطة بزمان ومكان إلا من ناحية الدرس النقدي , فيصبح التكلم عن حداثات مرت بها القصيدة العربية متوافقا مع رؤية أدونيس في ما قدمه من مختارات من الشعر العربي .‏
وهذا الكتاب يعيد طرح الأسئلة التي جابهت الحداثة الشعرية ليس من باب عدم يقينية ما قدمته من أجوبة بل في البحث عن الأسباب الكامنة التي لم تجعل هذه الحداثة متصلة حقا بواقعها , بحيث أصابها انقطاعين : الأول ما عابه عليها خصومها برفض التراث وانقطاعها عنه والثاني ما ساءلت نفسها به من انقطاع عن المحيط الذي نمت به بحيث مازالت الشعرية الحداثية تبحث لنفسها عن نافذة في جدار المتلقي الذي يركن لأصنام قناعاته الفكرية والتي لم تنفع معها مطارق الحداثة التي هدمت وأعادت البناء؛ لكنه ظل نهبا لرفض نجده في التساؤل ونحن على أبواب الألفية الثالثة : عن مشروعية قصيدة النثر والذي يقود بدوره إلى السؤال التالي :هل من نهضة عربية حقا أم إن الأمر كان مجرد هلوسات لم تبارح حبرها؟.‏
فالذكرى والذاكرة المعاد إليها في هذه الدراسات تجد روحها في مقولة الدكتور حاتم الصكر:‏
« لأن النصوص المعروضة في الكتاب وقعت في حيز الانقضاء زمنيا, وهذا ما ظل منها تتشبث به القراءة لتمنحه الكينونة وتقاضي حداثته , وتؤوله على أساسها بالاقتراب الحميم منه.‏
في درسه النقدي المعنون ب» قصيدة الحدث بين الموضوع والفن» تتجلى إلى الآن قدرة الموضوع على التهام الفن وهذا بدوره يسبب عطبا في التعاطي مع الشعرية , ألم يصرخ يوما محمود درويش» أنقذونا من هذا الحب القاسي» وهذا الحب القاسي نراه في الأطروحات السياسية والنقدية وطبعا على صعيد التلقي , فالشاعر يظل شاعر القبيلة بتجلياتها , فإلى الآن مازال التعاطي مع القصيدة الحداثية يبحث عن الموضوع فيها ولم يفهم خروج السياب من حزبيته ومحمود من قضيته والتنظيرات الرؤيوية لأدونيس والتكلم بالتفكيكة الجديدة إلا ارتهان إلى بدعة جديدة في حين كان الهدف منها وضع الفن في نصابه الحقيقي كروح لحركة التطور لدى الشعوب أي الانتقال من وحدانية المعنى إلى تعددية الدلالة.‏
وإذ يقدم د. حاتم الصكر قصائد معينة سواء لمحمود وأدونيس في تعاطيها مع احتلال العراق والانتفاضة الفلسطينية ويوضح كيف استطاع الشاعر أن يروض الموضوع عبر الفنية الشعرية التي قدم بها قصيدته ويسبر بنفس الوقت كيف أن المتلقي لم يخرج بعد من سطوة الحدث على القصيدة, فيعاملها كأنها مرآة تعكسه وهذا بدوره يؤدي إلى أن يجرد القصيدة من أهم عوامل كشفها عبر إغراقها بالآني وردود الفعل, لتصبح بنت لحظة زمنية لا غير في حين هي ممتدة في الزمن بل تكاد تضبط إيقاع الزمن عبر ميتازمنيتها وإنسانيتها الشاملة وبين الحدث والفن.‏
ولكي تمسك العصا من وسطها يقول: «ولتقريب وجهة نظرنا سنغير الأمثولة مفترضين أن (الحدث) هو الوحش الذي يريد التهام النص لكن النص يخاتله ويؤطره داخل سياقه وضروراته, فيحتويه وينفي قوته, ويروضه لتغدو وقائعه الخارجية , وقائع فنية لها وجود آخر داخل النص الذي لا يضحي بحداثته واشتراطاتها في هذه الحالة.».‏
في دراسة أخرى تكمل مقاربتنا للكتاب نختار دراسة « قصيدة النثر وحجاب التلقي» يحدد الكاتب أبرز إشكالات قصيدة النثر من دورها في تلخيص سؤال الحداثة ومصيرها وخاصة أن القصيدة لم تتوقف عند المهمة التطويرية أي تحريك الأغراض والمعاني والشكل الخارجي للقصيدة بل امتدت لجوهر الكتابة الشعرية من حيث هي معرفة وصلة بالعالم عبر وعي خاص مختلف , وبرؤية تحديثية تنسف تماما كل ما استقر في جعبة القراءة ذاتها من تصورات عن مفاهيم الشعر وتشكلاته وقد نبه جبرا إلى هذا الحجاب الذي سيتكون بين المتلقي والقصيدة وان على قصيدة النثر لا تقصر عملها على الوعي الجديد بالشعر فحسب بل على ضرورة وجود وعي شامل داخل ذات المتلقي وجهازه القرائي.‏
ولفهم طبيعة هذا الحجاب المتكون يدرس الكاتب الجمالي في قصيدة النثر وكيف مازال محكوما بقناعات التلقي القائمة على ما قرّ من ذائقة وأيضا ما أوجده التعارض في مصطلح قصيدة النثر من بلبلة, وخيبة أمل المتلقي الذي ارتهن لسياقات سابقة, ومع ماقدمه النقد ذاته من بحوث في هذا الموضوع وإن كانت صحية بذاتها لكنها زادت الطين بلة .‏
أمام هذا الواقع تأتي مساءلة الدكتور حاتم الصكر جدية جدا لتلك النصوص وخطاباتها وما أوجدته من إشكالات تستدعي العودة الجدية الواعية لتلك النصوص كونها كانت المرجل الذي تشتعل به الحداثة الشعرية وهذه العودة لا تأتي من أي جهة إلا من جهة الحداثة كونها المعنية الأولى بمساءلة ذاتها.‏