- من الذاكرة: مقالة الراحل العزيز صديقي الشاعر أمجد ناصر بعد الحادث الإجرامي واختطاف ولدي عدي ..نشره في القدس العربي وأعادت نشره صحيفة إيلاف الإلكترونية.
- آخر تحديث :
افرجوا عن عدي ابن حاتم الصكر
-
– القدس العربي اللندنية
- أمجد ناصر
في اول عامين لي في لندن تعرضت الي كل ما يخشاه القادم الجديد الي لندن:
سُرِقَ بيتي في (ساوث هول) قلعة الهنود المنيعة في غرب لندن.
سُرِقتُ وتعرضت للضرب بسكين من قبل شابين يتحدران من اصول افريقية في احدي عربات (الاندرغراوند) الفارغة.
ضاع ابني الوحيد في سوق مزدحمة بالبشر والبضائع في ظهيرة كئيبة ماطرة.
في الحادثة الاولي كان اللصوص من اللطافة والرفق بحيث اخذوا كاميرا صديقي جميل حتمل الكاتب السوري الراحل ومراسل القدس العربي انذاك في باريس الذي كان ينزل عندي ووضعوا جواز سفره ومخطوطة مجموعته القصصية بعناية علي درج البيت الداخلي بعد ان استخدموا حقيبته لوضع مسروقاتهم (الثمينة): كاميرا جميل حتمل ماركة (كانون)، جهاز الفيديو الذي كنت ابتعته للتو، آلة تسجيل، حليا قليلة لزوجتي واغراضا اخري نسيتها الآن. اما الخنجر اليمني المعقوف الذي وجدوه تحت وسادتي كسلاح لم يتسن لي استخدامه فقد (طعجوه) ووضعوه فوق الوسادة علي شكل رسالة بالغة الدلالة.
اما الحادثة الثانية فقد حصلت مساء وكنت استقل (الاندرغراوند) مع زميلي اسعد ابو قاعود احد مخرجي الصحيفة، يومذاك، الذي اصر ان نركب احدي العربات الفارغة فصعد في المحطة الثانية شابان اسودان لم ننتبه اول الامر الي انهما يغطيان وجهيهما بمنديلين ملونين، فما ان تحرك القطار حتي توجه احدهما الينا ووضع سكينا علي عنقي طالبا ان نخرج محفظتينا، ووقف الثاني يراقب الباب الداخلي، اخرج اسعد محفظته وكانت فارغة، فغضب الشاب الذي راحت سكينه تتحرك بعصبية علي عنقي، لكنه هدأ عندما وجد في محفظتي، بمعجزة حقيقية، ثلاثين جنيها. وبما ان حصيلة غزوته لم تكن مثمرة فقد رأي سلسلة ذهبية في عنقي فانتزعها بيده الثانية. ثم تطلع الي اسعد ابو قاعود فرأي خاتم زواجه الذهبي فطلب منه ان يخلعه، حاول اسعد ان يخلع الخاتم ولكنه، بسبب توتره، لم يستطع، ولما حاولت ان احرك يدي لاشرح له اننا اخوة في السواد وسوء الحظ ولا ينبغي لأسود أن يسرق أسود مثله ضربني بسكينه ظانا انني اريد المقاومة، ولحسن الحظ كنا قد وصلنا الي المحطة التالية فغادرا القطار مسرعين واحتاجت يدي بضع قطب في المستشفى.
اسوأ الحوادث التي يخشاها المرء في لندن هي الثالثة. تلك هي التي تركت قشعريرة في روحي لم تبارحني حتي اليوم كلما تذكرتها. فكل شيء يهون سوي ان تفقد ابنك في لندن. ضياع طفل في سوق مزدحمة في لندن يعني انك لن تعثر عليه ابدا. هذا ما كنت اتصوره لفرط ما سمعت عن حوادث سرقة وقتل واغتصاب اطفال في لندن، بعضها تهويل يبادرك به المقيمون في هذه المدينة قبلك ما ان تطأ قدمك ارضها، وبعضها صحيح بكل تأكيد.
ترك انس، وهذا اسم ابني، الذي لم يكن يتجاوز الرابعة من عمره يد امه في السوق، ثم، بلمح البصر،اختفي عن ناظريها. فتشتْ عنه في كل الاتجاهات، سألتْ بانكليزية ركيكة ومذعورة المارة، اصحاب الدكاكين، راحتْ تهرول بين اول السوق واخرها كالسعي بين الصفا والمروي ولم تجده. فاتصلتْ بي، من احد الهواتف العمومية، منهارة واخذتْ تعول، كمن يعدّدُ في مأتم: ضاع انس، ضاع انس! حاولت ان افهم منها شيئا اكثر من ذلك فلم استطع. كل ما انتزعته علي الهاتف هو المكان الذي ضاع فيه وقلت لها انتظريني هناك. غادرتُ الصحيفة كالمجنون. استقليتُ باصا، ثم قطارا، ثم ركضت. ذهبتُ الي السوق ولم اجدها، ثم الي بيتنا القريب من السوق ولم تكن هناك، ثم عدت الي السوق مرة اخري فرأيتها مقبلة تمسك بيد انس كمن يمسك طائرا يخشي ان يفر منه.
في تلك الساعة، او اكثر، التي ضاع فيها انس راحت صوره، كلماته، ضحكته، شيطنته، ثيابه، العابه، تتدفق في ذهني كذكري من الماضي البعيد. اسوأ من ذلك تلك الفكرة المرعبة التي راحت تلح علي ذهني واحاول طردها من رأسي بكل السبل من دون جدوي: صورته المفضلة معلقة في صدر البيت. صورة الابن الوحيد الذي ضاع الي الابد!
حتي اليوم، وقد اصبح شابا جامعيا ملء السمع والبصر، ما تزال تعاودني، بين حين واخر، ذكري ضياعه لساعة او اكثر في احد اسواق لندن.
ما حصل هو ان احد اصحاب الدكاكين الهنود رآه يبكي وحيدا في الشارع ويتلفت في كل اتجاه بحثا عن امه، فاستبقاه في الدكان الي ان رأته امه هناك جالسا يتفرس في وجوه المارة.
ـــ ـــ ـــ
لهذا الحديث عن المصادفات السيئة، ومن ثم عن النهاية السعيدة بعودة الابن الضائع مناسبة اليمة: انها خطف ابن الصديق العزيز والناقد العراقي الكبير الدكتور حاتم الصكر علي الطريق بين بغداد وعمان.
صعقني الخبر عندما سمعت به، فاتصلت بحاتم، الاستاذ بجامعة صنعاء، عله يكذبه، عله يكون شائعة، فقال لي، بنبرة متماسكة، انه، للأسف، صحيح.
وصل العراق، كما تعلمون، حالا من التفكك والفوضي والخطف والقتل علي الهوية حدا لم يعد يشكل فيه خطف شاب ذاهب للقاء بعض افراد اسرته في عمان خبرا او يثير انتباها.
لم اعرف يوما، ولم يكن يهمني ان اعرف، ما هي الطائفة التي يتحدر منها صديقي القديم حاتم الصكر ولا عشرات الاصدقاء والزملاء العراقيين الذين عرفتهم ايام بيروت في اواخر السبعينات مرورا بقبرص وانتهاء بلندن. فلم يكن ذلك مهما لأحد منا، فقضيتنا، علي اختلاف بلداننا، كانت في مكان آخر تماما: قضية حرية وتقدم وعدالة اجتماعية واخوة انسانية تعم الكوكب كله.
طوباويون، صحيح.
حالمون، صحيح.
واهمون، صحيح، ايضا،
ولكن، ابدا، غير اقليميين وطائفيين.
خطف ابن حاتم الصكر، احد ابرز النقاد الادبيين العرب والرجل الوطني الذي صمد نظيفا وشريفا وصديقا للجميع اثناء سطوة النظام السابق، وفي ظل اسوأ سنوات الحصار، والذي وقف، بلا تردد، ضد الحرب علي بلاده ورفض الانخراط في التجريدة الامريكية البريطانية عليها، فضيحة حقيقية للذين خطفوه.
لماذا يتم خطف شاب كان مجندا عندما سقط النظام ولم يلتحق، بعد انفراط عقد الجيش العراقي بقرار من بول بريمر، بأي تنظيم او ميليشيا او مؤسسة حكومية في منطقة تسمي (المثلث السني)؟
هل لأنه سئل، كما يقول حاتم، عما اذا كان يردد اسم علي عندما يكبر للصلاة ام لا؟
هل لأن مكان ولادة والده يشير الي منطقة ذات كثافة شيعية؟
يا للفضيحة.
يا لفضيحة كل الخاطفين والقاتلين علي الهوية.
المشكلة ان معظم الذي يُخطفون او يُقتلون من هذه الطائفة او تلك ليسوا اعضاء في (فرق الموت) او (القاعدة) او (المقاومة). انهم اناس عاديون يسعون لمواصلة حياة مفخخة برعب (الهويات القاتلة) في بلد تقطعت اوصاله الي جزر تحكمها الفوضي والعصابات والاسلحة المنفلتة من كل عقال تحت سمع وبصر ربع مليون جندي اجنبي.
يا للفضيحة ان يخطف (عدي) ابن حاتم الصكر بوصفه (شيعيا) وهو الذي، كما اخبرني والده، لا يعرف حتي كيف يصلي!
ـــ ـــ ـــ
قال لي حاتم اثناء حديثنا الهاتفي قبل يومين: هل تذكر الشاعر الفرنسي سيرج بيه الذي شاركت معه في افتتاح (بيت رامبو) في عدن؟
فقلت له: طبعا اذكره.
قال حاتم: تتذكر اذن قصيدته عن الفلسطينيين الذين كانوا يقتلون علي حواجز الكتائب لأنهم يلفظون كلمة (بندورة) بتسكين النون لا بفتحها كما ينطقها اللبنانيون؟
فقلت لحاتم: تلك واحدة من الشائعات الفلكلورية التي رافقت الحرب الاهلية في لبنان، وقيل ايضا ان بعض الشبان كان يُخطف لانه يدخن السجائر الفرنسية (جيتان) باعتبارها ماركة مفضلة للشيوعيين.
هناك من خطِف وقتِل علي الهوية في لبنان اثناء الحرب، ولكن من قتِلوا وخطِفوا طوال خمسة عشر عاما من الحرب التي تبدلت وجوه المنخرطين فيها مئة مرة، لا يبلغ ما يشهده العراق في شهر. فضلا عن ان الانقسام الطائفي لم يحدث ابدا كما حدث في العراق. ففي بيروت الغربية (معقل الوطنيين والفلسطينيين) كان هناك مسيحيون وشيوعيون وقوميون وعرب واكراد وارمن وفلسطينيون وسوريون وعراقيون ومصريون ومغاربة وشيعة وسنة ودروز وبضعة يهود في (وادي ابو جميل).
لم تكن الحرب الاهلية في لبنان (في طورها الاول علي الاقل) طائفية ولا دينية، بل كانت صراعا سياسيا ايديولوجيا بين القوي المتصارعة علي خلفية الاستقطاب العالمي والحرب الباردة.
حتي القوي (الانعزالية) التي كانت مسيحية الطابع لم تتحدث في خطاباتها عن انقسام اسلامي مسيحي، بل عن مؤامرة شيوعية دولية وعن مخططات لتوطين الفلسطينيين وتغيير (الطابع الحضاري) للبنان.
فكيف يمكن لها ان تحدث عن انقسام كهذا وقائد الحركة الوطنية اللبنانية درزي والرجل الثاني فيها مسيحي وهناك اثنان من الامناء العامين للفصائل الفلسطينية يتحدران من عائلات مسيحية؟
ـــ ـــ ـــ
ما يحصل في العراق كارثة بكل معني الكلمة.
وما اختطاف (عدي) ابن حاتم الصكر الا دليلا علي ان العمي الطائفي قد بلغ الزبي.
لمن يقرأ هذه الكلمات في العراق، لمن يعرف شيئا عن مصير عدي حاتم الصكر، لمن له دالة علي خاطفيه اقول: ارجوكم افعلوا شيئا. ساعدوا علي عودة ابن رجل خارج كل تصنيفات هذا الزمن الرديء.
اعيدوه الي امه الصابرة، المنتظرة في عمان.
والي والده الرجل الطيب صديق الجميع، صاحب النظرات العميقة في الدرس النقدي العربي الذي تخرج علي يديه مئات الطلبة في صنعاء.
افرجوا عن عدي ابن حاتم الصكر
سُرِقَ بيتي في (ساوث هول) قلعة الهنود المنيعة في غرب لندن.
سُرِقتُ وتعرضت للضرب بسكين من قبل شابين يتحدران من اصول افريقية في احدي عربات (الاندرغراوند) الفارغة.
ضاع ابني الوحيد في سوق مزدحمة بالبشر والبضائع في ظهيرة كئيبة ماطرة.
في الحادثة الاولي كان اللصوص من اللطافة والرفق بحيث اخذوا كاميرا صديقي جميل حتمل الكاتب السوري الراحل ومراسل القدس العربي انذاك في باريس الذي كان ينزل عندي ووضعوا جواز سفره ومخطوطة مجموعته القصصية بعناية علي درج البيت الداخلي بعد ان استخدموا حقيبته لوضع مسروقاتهم (الثمينة): كاميرا جميل حتمل ماركة (كانون)، جهاز الفيديو الذي كنت ابتعته للتو، آلة تسجيل، حليا قليلة لزوجتي واغراضا اخري نسيتها الآن. اما الخنجر اليمني المعقوف الذي وجدوه تحت وسادتي كسلاح لم يتسن لي استخدامه فقد (طعجوه) ووضعوه فوق الوسادة علي شكل رسالة بالغة الدلالة.
اما الحادثة الثانية فقد حصلت مساء وكنت استقل (الاندرغراوند) مع زميلي اسعد ابو قاعود احد مخرجي الصحيفة، يومذاك، الذي اصر ان نركب احدي العربات الفارغة فصعد في المحطة الثانية شابان اسودان لم ننتبه اول الامر الي انهما يغطيان وجهيهما بمنديلين ملونين، فما ان تحرك القطار حتي توجه احدهما الينا ووضع سكينا علي عنقي طالبا ان نخرج محفظتينا، ووقف الثاني يراقب الباب الداخلي، اخرج اسعد محفظته وكانت فارغة، فغضب الشاب الذي راحت سكينه تتحرك بعصبية علي عنقي، لكنه هدأ عندما وجد في محفظتي، بمعجزة حقيقية، ثلاثين جنيها. وبما ان حصيلة غزوته لم تكن مثمرة فقد رأي سلسلة ذهبية في عنقي فانتزعها بيده الثانية. ثم تطلع الي اسعد ابو قاعود فرأي خاتم زواجه الذهبي فطلب منه ان يخلعه، حاول اسعد ان يخلع الخاتم ولكنه، بسبب توتره، لم يستطع، ولما حاولت ان احرك يدي لاشرح له اننا اخوة في السواد وسوء الحظ ولا ينبغي لأسود أن يسرق أسود مثله ضربني بسكينه ظانا انني اريد المقاومة، ولحسن الحظ كنا قد وصلنا الي المحطة التالية فغادرا القطار مسرعين واحتاجت يدي بضع قطب في المستشفى.
اسوأ الحوادث التي يخشاها المرء في لندن هي الثالثة. تلك هي التي تركت قشعريرة في روحي لم تبارحني حتي اليوم كلما تذكرتها. فكل شيء يهون سوي ان تفقد ابنك في لندن. ضياع طفل في سوق مزدحمة في لندن يعني انك لن تعثر عليه ابدا. هذا ما كنت اتصوره لفرط ما سمعت عن حوادث سرقة وقتل واغتصاب اطفال في لندن، بعضها تهويل يبادرك به المقيمون في هذه المدينة قبلك ما ان تطأ قدمك ارضها، وبعضها صحيح بكل تأكيد.
ترك انس، وهذا اسم ابني، الذي لم يكن يتجاوز الرابعة من عمره يد امه في السوق، ثم، بلمح البصر،اختفي عن ناظريها. فتشتْ عنه في كل الاتجاهات، سألتْ بانكليزية ركيكة ومذعورة المارة، اصحاب الدكاكين، راحتْ تهرول بين اول السوق واخرها كالسعي بين الصفا والمروي ولم تجده. فاتصلتْ بي، من احد الهواتف العمومية، منهارة واخذتْ تعول، كمن يعدّدُ في مأتم: ضاع انس، ضاع انس! حاولت ان افهم منها شيئا اكثر من ذلك فلم استطع. كل ما انتزعته علي الهاتف هو المكان الذي ضاع فيه وقلت لها انتظريني هناك. غادرتُ الصحيفة كالمجنون. استقليتُ باصا، ثم قطارا، ثم ركضت. ذهبتُ الي السوق ولم اجدها، ثم الي بيتنا القريب من السوق ولم تكن هناك، ثم عدت الي السوق مرة اخري فرأيتها مقبلة تمسك بيد انس كمن يمسك طائرا يخشي ان يفر منه.
في تلك الساعة، او اكثر، التي ضاع فيها انس راحت صوره، كلماته، ضحكته، شيطنته، ثيابه، العابه، تتدفق في ذهني كذكري من الماضي البعيد. اسوأ من ذلك تلك الفكرة المرعبة التي راحت تلح علي ذهني واحاول طردها من رأسي بكل السبل من دون جدوي: صورته المفضلة معلقة في صدر البيت. صورة الابن الوحيد الذي ضاع الي الابد!
حتي اليوم، وقد اصبح شابا جامعيا ملء السمع والبصر، ما تزال تعاودني، بين حين واخر، ذكري ضياعه لساعة او اكثر في احد اسواق لندن.
ما حصل هو ان احد اصحاب الدكاكين الهنود رآه يبكي وحيدا في الشارع ويتلفت في كل اتجاه بحثا عن امه، فاستبقاه في الدكان الي ان رأته امه هناك جالسا يتفرس في وجوه المارة.
ـــ ـــ ـــ
لهذا الحديث عن المصادفات السيئة، ومن ثم عن النهاية السعيدة بعودة الابن الضائع مناسبة اليمة: انها خطف ابن الصديق العزيز والناقد العراقي الكبير الدكتور حاتم الصكر علي الطريق بين بغداد وعمان.
صعقني الخبر عندما سمعت به، فاتصلت بحاتم، الاستاذ بجامعة صنعاء، عله يكذبه، عله يكون شائعة، فقال لي، بنبرة متماسكة، انه، للأسف، صحيح.
وصل العراق، كما تعلمون، حالا من التفكك والفوضي والخطف والقتل علي الهوية حدا لم يعد يشكل فيه خطف شاب ذاهب للقاء بعض افراد اسرته في عمان خبرا او يثير انتباها.
لم اعرف يوما، ولم يكن يهمني ان اعرف، ما هي الطائفة التي يتحدر منها صديقي القديم حاتم الصكر ولا عشرات الاصدقاء والزملاء العراقيين الذين عرفتهم ايام بيروت في اواخر السبعينات مرورا بقبرص وانتهاء بلندن. فلم يكن ذلك مهما لأحد منا، فقضيتنا، علي اختلاف بلداننا، كانت في مكان آخر تماما: قضية حرية وتقدم وعدالة اجتماعية واخوة انسانية تعم الكوكب كله.
طوباويون، صحيح.
حالمون، صحيح.
واهمون، صحيح، ايضا،
ولكن، ابدا، غير اقليميين وطائفيين.
خطف ابن حاتم الصكر، احد ابرز النقاد الادبيين العرب والرجل الوطني الذي صمد نظيفا وشريفا وصديقا للجميع اثناء سطوة النظام السابق، وفي ظل اسوأ سنوات الحصار، والذي وقف، بلا تردد، ضد الحرب علي بلاده ورفض الانخراط في التجريدة الامريكية البريطانية عليها، فضيحة حقيقية للذين خطفوه.
لماذا يتم خطف شاب كان مجندا عندما سقط النظام ولم يلتحق، بعد انفراط عقد الجيش العراقي بقرار من بول بريمر، بأي تنظيم او ميليشيا او مؤسسة حكومية في منطقة تسمي (المثلث السني)؟
هل لأنه سئل، كما يقول حاتم، عما اذا كان يردد اسم علي عندما يكبر للصلاة ام لا؟
هل لأن مكان ولادة والده يشير الي منطقة ذات كثافة شيعية؟
يا للفضيحة.
يا لفضيحة كل الخاطفين والقاتلين علي الهوية.
المشكلة ان معظم الذي يُخطفون او يُقتلون من هذه الطائفة او تلك ليسوا اعضاء في (فرق الموت) او (القاعدة) او (المقاومة). انهم اناس عاديون يسعون لمواصلة حياة مفخخة برعب (الهويات القاتلة) في بلد تقطعت اوصاله الي جزر تحكمها الفوضي والعصابات والاسلحة المنفلتة من كل عقال تحت سمع وبصر ربع مليون جندي اجنبي.
يا للفضيحة ان يخطف (عدي) ابن حاتم الصكر بوصفه (شيعيا) وهو الذي، كما اخبرني والده، لا يعرف حتي كيف يصلي!
ـــ ـــ ـــ
قال لي حاتم اثناء حديثنا الهاتفي قبل يومين: هل تذكر الشاعر الفرنسي سيرج بيه الذي شاركت معه في افتتاح (بيت رامبو) في عدن؟
فقلت له: طبعا اذكره.
قال حاتم: تتذكر اذن قصيدته عن الفلسطينيين الذين كانوا يقتلون علي حواجز الكتائب لأنهم يلفظون كلمة (بندورة) بتسكين النون لا بفتحها كما ينطقها اللبنانيون؟
فقلت لحاتم: تلك واحدة من الشائعات الفلكلورية التي رافقت الحرب الاهلية في لبنان، وقيل ايضا ان بعض الشبان كان يُخطف لانه يدخن السجائر الفرنسية (جيتان) باعتبارها ماركة مفضلة للشيوعيين.
هناك من خطِف وقتِل علي الهوية في لبنان اثناء الحرب، ولكن من قتِلوا وخطِفوا طوال خمسة عشر عاما من الحرب التي تبدلت وجوه المنخرطين فيها مئة مرة، لا يبلغ ما يشهده العراق في شهر. فضلا عن ان الانقسام الطائفي لم يحدث ابدا كما حدث في العراق. ففي بيروت الغربية (معقل الوطنيين والفلسطينيين) كان هناك مسيحيون وشيوعيون وقوميون وعرب واكراد وارمن وفلسطينيون وسوريون وعراقيون ومصريون ومغاربة وشيعة وسنة ودروز وبضعة يهود في (وادي ابو جميل).
لم تكن الحرب الاهلية في لبنان (في طورها الاول علي الاقل) طائفية ولا دينية، بل كانت صراعا سياسيا ايديولوجيا بين القوي المتصارعة علي خلفية الاستقطاب العالمي والحرب الباردة.
حتي القوي (الانعزالية) التي كانت مسيحية الطابع لم تتحدث في خطاباتها عن انقسام اسلامي مسيحي، بل عن مؤامرة شيوعية دولية وعن مخططات لتوطين الفلسطينيين وتغيير (الطابع الحضاري) للبنان.
فكيف يمكن لها ان تحدث عن انقسام كهذا وقائد الحركة الوطنية اللبنانية درزي والرجل الثاني فيها مسيحي وهناك اثنان من الامناء العامين للفصائل الفلسطينية يتحدران من عائلات مسيحية؟
ـــ ـــ ـــ
ما يحصل في العراق كارثة بكل معني الكلمة.
وما اختطاف (عدي) ابن حاتم الصكر الا دليلا علي ان العمي الطائفي قد بلغ الزبي.
لمن يقرأ هذه الكلمات في العراق، لمن يعرف شيئا عن مصير عدي حاتم الصكر، لمن له دالة علي خاطفيه اقول: ارجوكم افعلوا شيئا. ساعدوا علي عودة ابن رجل خارج كل تصنيفات هذا الزمن الرديء.
اعيدوه الي امه الصابرة، المنتظرة في عمان.
والي والده الرجل الطيب صديق الجميع، صاحب النظرات العميقة في الدرس النقدي العربي الذي تخرج علي يديه مئات الطلبة في صنعاء.
افرجوا عن عدي ابن حاتم الصكر