حياة وعرة وجنوب بعيد…عن عيسى الياسري

مجلة الشارقة لثقافية- عدد شهر أبريل-نيسان-2021

حياة وعِرة وجنوب بعيد

عن ثمانين الياسري وشعره

أريد أن أستريح

لقد أتعبني تسلقكِ يا نجودَ حياتي الوعرة

عيسى الياسري(بتلات)

1-

يتزامن الإحتفاء بثمانين الشاعر العراقي عيسى حسن الياسري، مع صدور المجلد الثالث الأخير من أعماله الشعرية قبل أيام . وهو  مكرس لقصيدة النثرالتي يكتبها الياسري ، بعد …دواوين من شعر التفعيلة ،وبغنائيته  وبساطته المعمقة المعروفة استمداداً من شاعرية الريف ومفرداته التي عرف يها منذ ديوانه (شتاء المراعي) الذي يقول النقاد في العراق إنه أول شاعر قروي خص  شعره بالقرية والمرعى والطبيعة وأشياء البيت الريفي اليومية الممتزجة بمحمول عاطفي.فالتنور مثلاً أو الخبز لا يعنيان فحسب الرغيف والمكان الذي ينضج فيه على أيدي الأمهات في البيت القروي..هما مزيج من صلة تلك ألأيدي التي تصنعه بافئدة آكليهِ، وانتظاراتهم التي يقضونها  في إطار أسري سيفتقده الجميع بعد أن يكبروا ، وتشت بهم الطرق منافيَ أو هجراتٍ أو ابتعاداً عن المكان.

يضيف الشعر دلالات أعمق لرمزية الخبز والتور والمرعى والماء والسماء والنخل والطبيعة ، فتكون لها هيئة جديدة في القصيدة تعضدها المخيلة والتصوير الفني والإيقاعات الشعرية .

وهذا ما يمكن تفحصه في شعر الياسري عموماً ، وديوانه الأخير خاصة. حتى وهو ينتمي زمنياً إلى فترات متأخرة من عمره ، ومكانياً إلى أرض أخرى هاجر إليها وسكنها غريباً بعهداً منذ عقود.

في قصيدة (مدن) يبوح بتلك الثنائية التي عاشها في مهجره:

جميلة هذه المدن كنساء بلادي الجميلات

ما تحاتاج إليه حتى تستكمل زينتها

الحياة التي تستضيفها أكواخك القصبية أيها الجنوب

ها هو ذا في أقصي أمريكا الشمالية  حيث الثلج والبرد والوحدة  ،يريد أن تتحور المدن؛ لتغدو كتلتك التي عرفها في  صباه وشبابه في الجنوب العراقي .ولكن وصفه لمدن المنفى بالجمال لا ينسينا ما قاله في استهلال القصيدة ذاتها:

مدن تلهث من التعب

مدن تنبعث من أفواهها رائحة النعاس

تنبعث رائحة خمور في غاية الرداءة….

مدن تفرش دروبي بالرياح ،وتطرز وسائدي بالسهر

يمنحنا استبدال الحواس برهافة في قوله(رائحة النعاس) دلالة ذات أهمية في قراءة الياسري.تلك هي اندماجه في المشهد المكاني ، وتمثله بكل الحواس الممكنة حتى لو اختلطت، فصار للنعاس رائحة أرادها أن تكون دليلاً على هواء أو طقس مهمين على فضاء الغربة . الغربة التي تتحول إلى فضاء لتأمل الحياة والموت والوطن والوحدة والشعر…

2-

تيقنت أن الياسري في رحلة حياته وصولاً إلى المغترَب  لم يحمل في حقيبته سوى روائح القرية، ولون سمواتها وصفو مياهها ، وهكذا  بدأ الرحلة الشعرية التي هي جزء من رحلة الحياة ، كما يسميها في المجلد الجديد.

فماذا يريد عيسى ؟

لمحاولة استخراج الدلالة سنعاين  ضمن المجلد الثالث نصوص ديوانه ( بتلات) المخصص للقصائد القصيرة،كما يؤكد وصفه لها في العنوان الجانبي، وهي تثير إلإهتمام  لأنها تجسد ميزة  الكثافة في كتابة قصيدة النثر، وأن تغدو مقاطع وشذرات مترابطة في خطاب شعري، بدل ترهل الملفوظ الشعري وتفاصيله المكررة .

نقرأ  هنا بتلة من بيتين بعنوان ( أريد):

أريد أن أستريح

لقد أتعبني تسلقكِ يا نجود حياتي الوعرة.

هذا تلخيص  لوصف عيسى لحياته في الشعر، والشعر في حياته،بأنها رحلة .

لقد نثر يوميات حياتيه ومرائيها ومشاهدها الخاضعة لثتاية البعيد المرهف، والقريب القاسي في هذه البتلات التي اختارها اسماً ذا دلالة كما سنرى، ولم يختر لها مثلاً وصف ( شذرات) ، وذلك ليؤكد مرجعيتها الريفية وانتماءها إلى الطبيعة،

لأن البتلة  في اللغة: هي الفسيلة التي انفصلت عن أمها النخلة واستقلت.

– فهي تناسب  مزاجه و هواه الريفي المفتقَد؛ لأن الفسيلة جزء من مشهد النخل الذي اختفى تماماً من فضاء الغربة والمهجر البارد.

–  وهي تناسب هيئة القصائد القصيرة ، كون الفسيلة صغيرة ، ونائية عن أمها أو مستقلة في تربتها،بعد انفصالها عنها..

– ولأنها أنثى، في تسميتها  رمزية الأم والإرتباط بالقرية والطفولة .وكلها إناث..

وبذا حقق ثلاث فوائد من استخدامها  شعرياً. بجانب دلالتها على الخصب والنماء، وهما أمران يناسبان ما يستولي على مخيلة الياسري من أساطير الولادة والخلق القديمة .

وتكشف البتلات أيضاً عن فهم الشعر للكتابة الشعرية وللشعر كمفهوم، فهو يريده عفوياً بدائياً بسيطاً دوتن تعقيد، ويرفض النظم المتكلف الذي يذكّره بالأغذية الجاهزة أو المعلَّبة،

في  بتلة بعنوان ( صناعة)  يطلب بأن يهجَر ذلك الشعر  المعلّب ويقول:

إنهم يصنّعونك أيها الشعر

كما يصنّعون الأغذية المعلبة

وهذا في الواقع مزاج الفلاح الذي يضيق بالأغذية المعلبة ويمقتها ،بل يراها غذاء لا إنسانياً. وكذا يبدو له الشعر- وهو الذي يصف نفسه بالبدائي- غير قابل للتعليب في وصايا وإرشادات جاهزة..

تبدو (صناعة) تتمة لبيانه الشعري في قصيدته(الشعر) ، حيث الطبيعة ومفرداتها  ماثلة في ثنايا القصيدة:

يبدأ النص  بسطر شعري من كلمة واحدة  تتكرر مقطعياً هي: الشعر.

ثم يتخذ أسلوب الإلتفات وتغيير الخطاب ،فلا يقدم تعريفاً أو  أو يشرح فكرة عنه.بل يخرج ملتفتاً، ليقول  لمن يكتب الشعر ويقوم بقراءته.ما يفيد بعفوية الشعر وتلقائيته:

الشعر

لا ترموا أحجاركم في مجرى أنهاره النظيفة

اتركوه يختلط بمائها …..

الشعر

اتركوه  يمضي حراً

حتى يختلط بالعجين الذي تنضجه الأمهات أرغفة شهية…

اتركوه يتجوّل..

حافياً..

حراً..

بسيطاً

كبدائي لا يحمل ضغينة…..

كأن الياسري يرسم صورة لنفسه: البدائي المتجول حراً بسيطاً ، وكشعره هو ببساطته التي توصف نقدياً  بأنها ليست بساطة سطحية..

3-

ليست علاقة الياسري بالشعر والحياة مجردة أو تهويمية.إنه يعاين كلا منهما بواقعية لا تخالف حنينه الدائم لتللك الفضاءات السعيدة المفتقدة ..لذا لم يكن غريباً أن يتأمل المصير ومغزى ما تخبئ الحياة من نهايات ، هي في جوهرها يقين حتمي ،لكنه عسير التصديق أو الفهم ، أعني واقعة الغياب .وتحت شعور غامر بالحياة لم يمنعه من تأمل ما ينتظر الإنسان من نهاية ، جعلتها الشيخوخة فكرة قريبة من النفس لا خوف فيه..ا

فرصد  الياسري ذلك  في  قصيدة الوداع  المؤلمة .حيث يتحدث عن رحلة لابد أن تنهي في قصيدته(لكِ أسلم حياتي)  وهي رحلة منذ البداية.

لقد جعل الودا ع في آخر الديوان ..ونجد بجانب الحزن رغبة شديدة بالحياة..وهنا من منفاه حيث حمل القرية وأشياءها، نراه يضع الوداع في أقاصي الديوان الذي بمهارة شاعر عارف جعل افتتاحه بالقول:

أنا هو من عاش طفولة سعيدة

أنا هو من صافح أعياد الحصاد

وتعطرت ثيابه بطين السواقي

ثم ٍأنهى الديوان وكأنه يغلق قوس القصائد والرحلة معاً بقوله :

بالقليل من الحزن

والكثير الكثير من الفرح والبهجة

سأبدأ هذي الرحلة:

و: سأبدأ هذي الرحلة بقدمين مدماتين

بأثواب رثة

وبجسد ضامر

لكن لا تغرنكم البهجة .. حياة هذا الرجل – كما قال-  رحلة وعرة ومسالكها ضيقة.

وها هو ذا  في أواخر أبيات القصيدة والديوان والرحلة يقول:

أشعر..وكأني أنهيت مهمة جليلة كلفت بها..

هو حي في القصيدة والقصيدة حية فيه.هكذا  يريد أن  نراه كما نقرأ أشعاره.

لقد  تمسّك بالعشبة .. هي وعد جلجامش  الذي سأل عن عشبة الخلود فلم يجد ..

ورأى  أنه لاشيء يخلد الإنسان بايولوجياً، فعاد ليبني مدينته ويخلد عبر أعماله.

وهذا ما فعله عيسى في عامه الثمانين، فرضي بالشعر تراثاً له..