فوزي كريم ..استباق المراثي

 

مساهمتي في الملف الخاص بالشاعر الراحل فوزي كريم لمناسبة ذكراه الثانية  في مجلة  (الأفلام) العراقية عدد تموز يوليو 2021.قراءتي الإستعادية كانت لقصيدته (حسين مردان) التي اكتسبت انتشارا واسعا، رغم أنها من مراحل كتاباته الشعرية الاولى. الدراسة طويلة وفيها نص القصيدة وهوامش وتعليقات ستسعدني قراءتها من المهتمين ،وبانتظار ملاحظاتهم على ما رصدت من ظواهر في شعرية فوزي كريم عامة.
فوزي كريم: استباق المراثي؟

قراءة نصيّة لقصيدة (حسين مردان)

1- بعيداً عن البيان الشعري
رغم أن الشاعر الراحل فوزي كريم بنتاجه الشعري يجيَّل نقدياً ضمن شعراء الستينيات لم يرث من الستينيين الحداثيين أبرز ما وُسمت به تجربتهم من تحرر إيقاعات قصائدهم، وتخليهم عن ضوابط الوزنية التقليدية والموسيقى الخارجية ممثلةً بجرس القافية بوجه خاص ، وظل وزنياً وسطياً بين تقليدية صارمة للتفعيلة ومحاولة الظهور بقصيدة متحررة ،أو متخففة- في الأدق- من القيود والتقاليد الشعرية لما عُرف بالشعر الحر.ويؤيد ذلك عدم ذهابه إلى أقصى التجريب بكتابة قصيدة النثر ، بل اتخذ منها موقفاً معاكساً صريحا،رغم أنه نشر لاحقاً بضع قصائد من الصعب تلمس شعرية قصيدة النثر فيها ،وإن رغب بآندماجها في ذلك النوع، بل هو يوجه لشعرائها اتهاماً صريحاً بالقول(إن ضعف الاذن موسيقياً ، او ضعف الفص الأيمن ،يشكل أحدالعوامل التي دفعت عدداً من الشعراء إلى كتابة قصيدة النثر)(1) وبتعميم نلاحظه في أغلب كتاباته العاتبة دوماً على المثقفين وقصورهم في المعرفة الموسيقية والثقافة النغمية ، بسبب تعويله على العنصر الموسيقي والغنائية في الكتابة الشعرية ،وهي مادافع عنه كثيراً في كتبه ومقالاته. يقول مثلاً(لاتقتصر النظرة الموسيقية المتأملة إلى النص الشعري على طبيعة الإيقاع المتواتر بل تتجاوزه إلى إدراك اللحن فيه ، تماما ، شأن نظرتنا المتأملة للعمل الموسيقي)(2)
يذكر الدكتور خالد علي مصطفى في كتابه ( شعراء البيان الشعري)(3) أن شعر فوزي كريم يمضي في وتيرة واحدة،وتعيق خياله وانثيال صوره رقابة عقلية في نصوصه.وأرى أن ذلك تشخيص صائب في الجزء الأول منه لشعرية فوزي كريم الذي لم تتلون قصيدته بتعدد أطيافها وتشكلاتها البنائية ، لكنه ليس حكماً دقيقاً بصدد الرقابة العقلية التي لا تصدق إلا على المضامين ، لأن ثمة غنائية واضحة في شعره لا يتنصل عنها ،بل يدافع عنها في مقابلاته وحواراته.
كما أن إيقاعات قصائده وعناصرها متميزة بانكشاف المعاني وخضوعها للّوازم الموسيقية الواضحة .وهو بذلك يثير تساؤلاً نقدياً دائما ، ولم توجد بصدده إجابة واضحة وهو :ما الذي ربط فوزي كريم بالبيان الشعري 1969 الذي كتبه الشاعر فاضل العزاوي ووقعه الشعراء سامي مهدي وخالد علي مصطفى وفوزي كريم نفسه؟وما علاقة المرتكزات النظرية ومقترحات الكتابة الشعرية السوريالية متنوعة المصادر بنصوص فوزي كريم خلال- وبعد- توقيعه على البيان ؟
2- قصيدة (حسين مردان): نموذج نصّي
في ذكرى رحيله الثانية لا أجد افضل من نصه مستبقاً موت حسين مردان ( 4)كما أصبح يعرف به في النقد الشعري والقراءة. ولكننا سنؤول الملفوظ الشعري لنرى إمكان عدّها مرثية استباقية من عدمه.فقد توافق نشر القصيدة بصدفة عجيبة مع موت حسين مردان بعدها بقليل. لذا تمت قراءة الإحالات المجازية والأخيلة فيها إلى كونها عناصر رثاء، لم ينفه فوزي كريم عن قصيدته ، لكي يعطيها هذا الإمتياز العاطفي والنفسي، وليضيف لها قيمة أخلاقية تكسب من التعاضد مع حسين مردان وموته رصيداً من القراءة والتوثيق.
لقد كان شيوع تعليق حسين مردان عليها بأنها رثاء له، ربما بمجازفة بلاغية سرعان ما عدت وثيقة أو حقيقة نقدية ، فجرت قراءة القصيدة بكونها رثاء مستبَقاً لحسين مردان.
إن الشاعر الراحل فوزي كريم يحس بالمأزق المعرفي في استثمار ملامح حسين مردان لإيجاد مقاربة شعرية عنه تمزج بين حضوره وافتقاده واستحضار مزاياه التي توجِب افتراضاً أساسياً ،كونه قريباً من الشاعر.هنا يقع فوزي كريم في ثتائية إضافية أخرى ، هي ثنائية حضور حسين مردان الواقعي،وغيابه الإفتراضي المستبَق،إذ تموضعَ خارج حدود العالم الإعتيادي، وكان خروجه منه بإرادته ووعيه، فهو يدين هذا العالم ،ويعلن غربته عنه كثيراً في مدوناته الشعرية وفي مقالاته وتأملاته. وهي تعكس نزعة التشرد والتمرد معاً، ومواجهة المجتمع وأعرافه ،مما تميز به حسين مردان مثقفاً وشاعراً وكاتباً .وكان يوفق بين ذلك وانتمائه لليسار فكرياً .وهو ما استثمره ببراعة الشاعر فوزي كريم ،وسجَّله في الجزء السيري أو البورتريت الشعري الذي ضمته قصيدته عن حسين مردان ،كانتصاره للفقراء والوقوف في صفهم، ومناوءة الظلم والحيف في المجتمع وسلطاته المتنفذه، فضلاً عن تعرية التقاليد البالية التي تسببت في ركود حيوية المجتمع وتعيق متقدمه.
لكن ميزة أخرى لمردان هي غربته ورفضه تسير في خط متواز على امتداد النص تظهر قليلاً، ثم تتخفى في صور شتى وهيجانات لغوية، يمثّلها بدء المقاطع كلها باستثناء واحد فقط بالمخاطبة أو المناجاة .
وهي مما يعد في التأويل انفعالاً عاطفياً بالواقعة التي يرصدها النص.وهي تتصل بالطبائع العامة أو السلوك الذي عرف به حسين مردان، وهي تشرده ووحدته وغربته.وهي لسيت بالضرورة بادية في أحداث حياتية عابرة وتشرد حقيقي ،بل في تمركز الفكرة داخله بحدة ،وتمثيلها شعريا، فكأنه عاش حياتين ،وهوما انشغل يتصويره فوزي كريم في قصيدته عنه.وقد كان مردان يحاكي في بدء حياته الأدبية شاعره المفضل بودلير، كما استولى عليه فكر سارتر الشائع ، بقراءة عامة تعده وجودياً بمعنى التمرد والرفض، وبإغفال الجانب الفلسفي الظاهراتي في فكره.وقد ذكر الشاعر رشدي العامل بعض تلك الوقائع في حديث له عنه في ملف الأقلام الخاص بمردان في الثمانينيات.
لكن فوزي كريم أفلح في الحقيقة في رسم البورتريت المتخيَّل لمردان بفهمه لتلك الطبائع ودواخل نفس مردان، فاحتواها ببراعة تسجَّل له .وربما كان في أسلوب المخاطبة الإنفعالي قد خضع لتناص نفسي أو تشرب روحي مع خطاب مردان الأدبي نفسه.حيث يكثر عنده هذا الأسلوب الذي اعتمده كثيراً في شعره المنثور أو المركّز كما يسميه .وترافق ذلك لغة فوزي الشعرية في النص التي تعصف انفعالاً، لتلبي الحاجة المضمونية لتجسيد العنف الذي يميز مردان وهو يطلب التحرر والتمرد ويجسّد الرفض.
3- المدخل العنواني والهيئة الخطّية للنص
بالإقتراب من النص سنتوقف أولاً عند العنونة حيث وضع فوزي بذكاء ورهافة عنواناً دالاً، وغريباً عن السائد في عناوين معاصريه ومجايليه، فكان اسم حسين مردان هو العنوان المعتلي النص والموجّه للقارئ دون صفات أو ألقاب أو شرح . وبذا أفلح في لفت نظر القارئ إلى أنه يقدم (صورة ) لرجل هو حسين مردان علَماً له في الذاكرة صورة أيضاً ، فتتصارع هنا آفاق القراءة : أفق النص= عنوانه، وتلقي القارئ لذلك.يريد فوزي أن يقول: هذا هو حسين مردان في صورةٍ شخصية شعرية. وربما استلف تلك التقنية من البورتريت في التشكيل، حيث يقدم الرسام رسماً شخصياً دون تعليق أو وصف، ليتلقاه المشاهد بكلِّيته، مضيفاً ما اختزن عنه في ذاكرته ليذهب إلى مقارنة الأصل والصورة .
وهكذا صار محصول النص كله مفرداتٍ وتراكيبَ ودلالةً وإيقاعاً ينتمي إلى حسين مردان بعائدية العنونة .ويكون فوزي كريم هو مَن يقدمه للقارئ، فكأنه تراجعَ خطوة ليفسح لمردان بسجاياه المعروفة لدى معاصريه.
لكن تقنية النص تؤشر بعيداً عما افترضناه في المقدمة من أن فوزي كريم هنا يقوم بدور رسام البورتريت.فقد انقضت تلك العلاقة مع النص أي مع حسين مردان ، وتقدمت تقنية أخرى لتهيمن على الرؤية الشعرية والملفوظ النصي هي المشهد المسرحي – وربما الدرامي لوجه الدقة- ؛لأنه يتعدى ذلك لتقنية اللقطة والتبئير السردي عليها.لكن المشهد المسرحي مهيمن يجبر قراءتنا أن تتنبه إلى علامات نصية تؤكد ذلك.
وأولها التقسيم الخطي للنص أو هيأته.فثمة مدخل أشبه بالبرولوج في المسرح. والمعروف خاصة في الأعمال التراجيدية، كما نص أرسطو في ( فن الشعر) حين عرض أجزاء التراجيديا وسمّاه المقدمة، وفسَّرها شراحه بأنه يقصد بها ما يهيء أذهان المشاهدين للموضوع المعالَج ،ويقدم بعض الخطوط الضرورية في تصوير الأحداث..( 5)
والتراجيديا تليق وصفاً لعمل فوزي كريم هذا.فهو يُبرز وعي مردان الممكن وصفه بالشقي.لأنه يولّد في داخله هذا الإنفجار العاطفي والشعوري، ما يختلط بالفوضى في الخطاب وافتقاد الإنسجام، والروح التمردية التي جعلته مناوئاً لواقعه وللحياة من بعد،بل في ا لجرأة على أسلافه .وهنا يكمن لبُّ معاناته التي أراد أن يجسّمها فوزي كريم.فجاءت فجائعية ً، وانسحبت القراءات التالية لها بعد نشرها إلى مغطسها ، فاعتبرتها(مرثية ) للرجل. و يُروى أن حسين مردان نفسه قرأها على هذا الإعتبار.وسيميز البرولوج الشعري المطوَّل غير المرقَّم كباقي الأجزاء الثلاثة القصيرة التالية المرقمة، ماكان لمردان من ملامح أو سمات نفسية وطبائع ، هي جزء من صورة نمطية عنه ، حتى وهو ينتقل إلى حياة أكثر استقراراً خلال عمله في الإعلام الرسمي.ويذكر الشاعر فاضل العزاوي أن مردان اصطحبه إلى ((بيته الجميل المنعزل الذي كان بعض أصدقائه الأغنياء وبينهم معماريون معروفون قد بنوه على حسابهم الخاص))(6).
ويصر العزاوي على إلصاق صفات مثل البوهيمي والمتشبه بالأرستقراطين وادعاء الوجودية ومحدودية الثقافة ..لكنه يحفظ له مزايا كثيرة ،كالصدق والشجاعة والتواضع والبراءة وحب الحياة والمثالية في الفكر ..(7) تلك المزايا التي ترد مرمَّزة وصريحة في قصيدة فوزي كريم عنه.
ويتوجب التوقف عند هيكلية النص ومقطعيته.فهو كما أسلفنا من ثلاثة أقسام قصيرة نسبياً مرقمة من 1 إلى 3
يسبقها مدخل افتتاحي بلا رقم هو الذي استخدمنا له مصطلح بالبرولوج، وهو أطول أجزاء النص ، حتى ليبدو نصاً منفصلاً عن متن القصيدة ،مكتفياً بذاته . يعود في ختامه إلى هوية مردان وانتمائه للأزقة والمقاهي اعتزال اناس حزناً وفرادةً.
هل تريد اسمه؟
اسمه في الهوية حسين مردان
واسمه في الأزقة حسين مردان
واسمه في المقاهي ….الإله..
واسمه حين يعتزل الناس ..
آه
ولا أرغب الوقوع في أحكام قيمية تفصيلية ، لكنني ألفت القارئ إلى تواضع النص فنياً ، و هذا دون شك لا يعكس حرفة فوزي كريم اللاحقة وتطور خطابه ونصوصه. لكنها تشي بما عوَّض به عن المهارة المفتقدة، بصور الحزن التي بثها كرسائل لتستولي على القراءة وتوجهها.
ويزيد من شعورنا هذا اضطراب الخطاب ومواقع الساردين في النص: فمرة يكون السارد خارجياً ،يحكي ( عن) مردان، ثم فجأة وفي المقطع نفسه يكون السارد داخلياً هو مردان نفسه.
وهذا ما سنشير إليه في فقرة لاحقة.
4- التراجيدية في الحياة والنص
إن التراجيدية التي يتوخاها العنوان ويؤكدها القسم الإفتتاحي الأول يليق بمرثية حقاً.فهو أشبه بنداء يندب المنادى الحي وتقعياٍ ولكن بتشفير كسر حياته وترميزها لتغدو ذات وجود شعري فجائعي، و لأجل ذلك يستعين فوزي كريم بإحالات مكانية وزمانية إليه.بذا يتميز النص بسبب تلك الفجائعية وأسلوب الخطاب والندب بمسحة حزن مضاعفة ،تؤدي إلى افتراض أن النص مرثية استباقية لحسين مردان، لكن قراءتنا تريد تخفيف محمول هذا التأويل الذي لاتؤيده كثيراً الإستشهادات من جمله الشعرية.
وربما كان البيت السابع في النص الذي يرد فيه الفعل (يموت) يطابق ما يحس به فوزي، وهو يرسم أو يجسد حسين مردان من جهة، ويشجع عل تصور النص بكونه مرثية لحيّ.
لكنه حين يستودع الله فيها يموت
إضافة لتكرار مفردة الموت وتصريفاتها في مواضع عدة من القصيدة.
ويأتي هذا البيت بعد قوله (كان يكره بغدادَ) موضخاً تلك الثنائيىة الضدية التي تحكمت في فكر حسين مردان وشعره.إنه يناوئ المدينة مكاناً وطقساً ربما لأنها عنده تمثل السلطة والحكم والمجتمع ، أو لوقوعه نحت تأثير صورة الغريب الذي يأتي المدينة فيشعر فيها بالضياع ، ثم يقوده ذلك لعدائها.(😎.وفي جيل مردان ومن تلاه مواقف مشابهة لرفض المدينة بعنف وتشنج ورد فعل لا يخلو من محمول مزدوج: سياسي ، باعتبار المدينة هي الحكم والسلطة، واجتماعي لشعور الريفي خاصة بالغربة فيها، وافتقاد الألفة التي اعتادها ، وثقافته التي فطر عليها.. كقول السياب( بغداد مبغى كبير)(9)
إن تمثيل هذه البلبلة المزدوجة فكرياً يتلقفها فوزي كريم بحكم تجربته الشخصية أيضاً.لكنه يخفف منها بالبيت السابع فيغدو مردان (ميتاً) في استيداع الله فيها، وربما طلبه الرحمة لها.
وسوف تشتد الممارسة الدرامية في المشهد المسرحي بعيداً عن (تشكيل ) صورة مردان، حين يجعل فوزي كريم أصواتاً متعددة في نصّه تتناوب السرد كما سنرى.
4- ستراتيجة السرد في النص وتقنياته
يلجأ فوزي كريم إلى تقنيات سردية عامة وشائعة في النص.لكنه يجعلها متفاوتة على مستوى الرواة ومواقعهم وضمائرهم النحوية.
ففي المقطع الأول ثمة سارد يقدم حسين مردان، لكن المروي له متباين بين غائب وحاضر مخاطب:
ياقطار الشمال
ياقطار الجنوب
ياقطاراً صدئت َ بلون المحطات
نمتَ ، استرحت أمام البيوت.
ثم يكون الروي عن غائب:
كان يكره بغداد…..
علّمَه الفقراء المباحون والمستريحون في النفي
حزناً قديماً
وحزناً جديداً
ثم يكون الراوي داخلياً هو مردان نفسه
وشربت ُ العشية خمرتَها
وتبولتُ بين الرصافة والبيت
علمني النرجس الغض أن الحياة توابع
والأصل في الميت
وفي المقطع الثاني: المخاطَب هو الفرات ضريحاً يرثيه السارد الداخلي (=الشاعر) وكأنه يريد تركيز مزايا الموت مرة أخرى :
يا ضريح الفرات الجميل
وطني غادر
فمتى ازددت حباً يكن أجملا…..
وفي المقطع الثالث السارد خارجي- و المخاطَب هو حسين مردان:
ياحسين مردان
كيف تركتَ الباب مفتوحا
والليل لم يبدأ ،وكان السر مفضوحا
5- مستوى الإيقاع
فوزي كريم هنا يعكس مزاجاً ستينيٌّاً مبكراً، يحتفي بالتفعيلة والقافية خاصة أو القرار الإيقاعي الخارجي عامة ، ولم يتبلور وعيه بموسيقى الشعر بعد،كما في دواوينه وأعماله الشعرية اللاحقة .
المدخل الإستهلالي : مضطرب فاعلن- فعلن فعلان ( وشربتُ..)
المقطع الأول : متقارب فعولن ..
المقطع الثالث: متدارك : فاعلن
– المقطع الثالث: رجز منذ البيت الثالث : والليل لم يبدأ وكان السر مفضوحا
لكن الإستهلال مختل عروضياً ما أدى إلى إيقاعية مضطربة:
ياحسين مردان
كيف تركت الباب مفتوحا
ولا تزجُّه في إيقاع الرجز أية قراءة ، كلفظ النداء كما في العراقية الدارجة: يحْسين مردان، أو بحركة النون في حسينَ أو تسكينها:حسينْ..وذلك ينسحب على البيت الثاني من الإستهلال(كيف…).
وهذا الإضطراب نجده في مقاطع أخرى، سأمثل لها، وأدع للقراءة الإيقاعية المنسجمة مع التفعيلة المتعمدة في القصيدة أن تحللها وتبينها، كقوله في المقطع الثاني::
غادَرَتْ بابَ بيتي،
من رأى في الضفافِ الوسيعةِ أوجُهَها
في الضفافِ الوسيعَة،
لم يمتْ مثل موتي
حيث اختلطت ( فاعلن) ب(فاعلاتن) واضطرب الإيقاع لطول التفعيلة الثانية.
وأفلح في اختيار تفعيلة (فاعلن) وتنويعاتها لتصور حركة القطار وعدم استقراره في مكان واحد. كما يناسب الإستهلال دلالة تشرد حسين مردان
ويعكس عدم استقراره ..
كما كان للتقفية المتفاوتة ، والوقفات الإضطرارية على كلمات لا تسمح بذلك، أثرٌ في ظهور الإيقاع مضطرباً.. كقوله: وكان على الجسر واقف. وتتجسم المفارقة الإيقاعية بسبب الوقف او انقطاع الحركة ذاتها، حين تأتي بعد أبيات مدوّرة، كما في المقطع الأول:
وكانت شوارع بغداد تمتدُّ.شمس تذوبُ
على حافة السورِ، والسور يمتدُّ.
والنخلُ ماكان نخلاً ، وصار
يحركه عاشق في الرصافة ، والنخل يمتدُّ.
وخطوك ماحلَّ في الجسرِ
ولا أحسب في الختام أن وعي فوزي كريم اللاحق يرضى بمثل هذه الهفوات الإيقاعية،لاسيما مع نمو عنايته بالموسيقى والتأليف حولها، وتكرار انتقاده لغياب الحس الموسيقي لدى أغلب الشعراء،كما تكرر في دراسته عن الشعر والموسيقى.
لقد كان فوزي كريم مخلصاً لقضية الشعر وجمالياته ، لذا لم يكن يتسامح مع هفوات في الكتابة الشعرية ،ويرجو أن تكون كما يليق بالحداثة الشعرية والإحساس الموسيقي ، إضافة إلى تمسكه بالتقفية والوزن كمكونات إيقاعية أعلن في كتبه الأخيرة عن أهميتها وضرورتها في القصيدة. من هنا جاءت قراءتنا على وفق ما اختار من إيقاعات لقصيدته ، وشعره عامة، وفهمه للشعر ونظامه أيضاً.
إحالات وهوامش
(1) فوزي كريم: الموسيقى والشعر- الكتاب الأول من الفضائل الموسيقية،دارنون، الإمارات2015، ص74
ويرى في الكتاب نفسه : أن قصيدة النثر( نوع جديد من إبداع اللغة الخيالي لاتنتسب إلى الشعر، كما أنها لاتنسب إلى النثر) ص79
(2) نفسه، ص26
( 3) د.خالد علي مصطفى: شعراء البيان الشعري، دار موزوبوتيميا، بغداد 2015
(4) فوزي كريم: جنون من حجر، وزارة الثقافة ، بغداد1977
الإستشهادات والنص من موقع الشاعر فوزي كريم على النت
(5) أرسطو- فن الشعر.وشرح المترجم دكتور إبراهيم حمادة.مركز الشارقة للإبداع الفكري ودائرة الثقافة والإعلام، الشارقة د.ت، ص155
(6) فاضل العزاوي: الروح الحيّة – جيل الستينات في العراق،داراالمدى،دمشق 1997، ص102
(7): نفسه، 105
(😎 من شعر حسين مردان الذي يؤكد اتجاهه الفكري وهو ما ارتكز عليه فوزي كريم في رسم بورتريته الشعري نحيل إلى :
– قوله مثلاً في ديوانه (هلاهل انحو الشمس) ،شركة التجارة والطباعة، بغداد، تموز1959 تموز،ص11 :
ملايين الناس تكدح باستمرار
ليجلس رجل في الملهى
ويحرق مائة دينار ليشعل
رأس سيكارة لعاهرة!
وعندما كنا نشعر بالشوق
إلى الحرية
نحسد نزلاء السجون
– وفي غربته ووحدته يقول في (العالم تنور) ،مطبعة الرابطة ، بغداد د.ت.ص8
وأنا الغريب
أنا وحدي أعوم في الثلج
وعندمايضرب الليل عيني
سأذهب إلى بيتي الصغير
لأسهر مع الكتب
الكتب: السرطان الذي يأكل رأسي
– وفي بيان تقاطعاته مع (العالم) ، يقول في (العالم تنور) ص16
التراب وحده الذي يفهمني
وسادتي صخر
وفراشي جلد قنفذ
..كيف لا أضيق بهذا العالم؟
إنه لعالم مخيف
(9) وفي هجاء المدينة والنفور منها(ولأسباب متباينة ) اشتهرت قصائد عدة وأعمال شعرية فترة الخمسينيات وما تلاها ، تلتقي بشكل ما بموقف مردان من المدينة ، منها : (مدينة بلا قلب) لأحمد عبدالمعطي حجازي، و ما كتب أدونيس في (تحولات الصقر)عن دمشق:
يا امرأةً منذورة لكل من يجيء
للحظ، للعابر الجريء
ترقد في حمى وفي ارتخاء
يا امرأة للوحل والخطيئة
والسياب في قصيدته (جيكور والمدينة):
..وتلتف حولي دروب المدينة
حبالاً من الطين يمضغن قلبي
ويعطين عن جمرة فيه طينه
..ويحرقن جيكور في أعماق روحي
حبالاً من الطين يمضغن قلبي
ملحق1-
قصيدة فوزي كريم بعد موت حسين مردان -غير مؤرخة، لكنها مدرجة في ديوانه الذي ضم قصيدته موضوع الدراسة(حسين مردان) ،ويأتي ترتيبها بعدها مباشرة.
أدرجها هنا لمن يشاء المقارنة بين القصيدتين في حسين مردان، وكذلك للوقوف على الخلل الإيقاعي فيها.
* توفي حسين مردان في 4/10/1972
** فوزي كريم يؤرخ قصيدته( حسين مردان) في بيروت ،حزيران 1972
***نشرها في مجلة الآداب عام 1973
موت حسين مردان
فوزي كريم
جليدٌ علي الأرض
في الأفقِ طيرٌ،
يضيء جناحيهِ بردُ الجليدِ
يحّلقُ لكنّ رعشتَه تستبيه،
فينحلُّ جُزءاً فجزءاً
لمرثيةٍ عوّدتْه علي دفئها
في خريف جديدْ،
ولم يستفقْ بعدها…
طيرٌ كانَ في الأفق
ملحق2
حسين مردان
شعر فوزي كريم
يا قطارَ الشَمال
يا قطارَ الجَنوب
يا قطاراً صدئتَ بلونِ المحطةِ،
نمتَ، استرحت أمام البيوت،
هل تُريدُ اسمه
كان يكره بغدادَ،
لكنّه حينَ يستودِعُ الله فيها يموتْ.
علّمته الشوارعُ كيفَ يباغتُ ضوءاً،
ويأسِرهُ،
… علّمه الفقراءُ المباحونَ والمستريحونَ في النفي
حزناً قديماً،
وحزناً جديداً،
وحزناً تجاوَزَه بين مقهى الرصافةِ والبيتِ.
ـ هل أطرقَ اليومَ؟
ـ كان يَطرُقُ أبوابنا كلَّ يوم!
وشربتُ العشيَّةَ خمرتها،
وتبّولتُ بينَ الرصافةِ والبيتِ،
علّمني النرجسُ العذبُ أن الحياةَ توابعُ،
والأصلَ في الميْتِ.
لكنه حين يلجأُ للماءِ نرجسةٌ من رمادٍ
يُلاشيه وجهٌ غريبٌ
ووجهٌ يوزَّعُ دائرةً، دائرة…
أيها النرجسُ العذبُ،
عاشرتُ بوّابةَ الفقراءِ المباحينَ، ما جاورتني !
تكالبتُ، حتى استُبِحتُ،
وما جاورتني.
خَبرَتُ الذي بينَ ملحِ الرصافةِ والأرصفة
والذي بينَ وجهيَ والأرغفة
… فما جاورتني !
يا سيدَ الفقراءِ،
ويا سيدّ الحزنِ أنتَ،
اتكئ،
لم تحاربْ،
وكانَ غبارُ الطواحينِ في شفتيكَ،
ولم تختبرْ عاقراً تستميلُك عند الظهيرةِ.
قلتُ: اتكئْ.
إنه زمنٌ همُّه أن يُقلدك الشارةَ المستحيلة
ودماً ساخطاً،
عاثراً،
بين ظلِّ الإله عليكَ وظلِّ الرذيلة…
ــ هل تريدُ اسمَه؟
واسمُه صورةٌ في الهوّية
لم تُغادرْ حدوداً،
ويكذِبُ
لكنّه حين يكِذبُ لا يسترُ الكذبُ عُريه .
ساهراً
ماجناً
دون ليلٍ ومُجنٍ وكفّاه في الخاصرة
سيدانِ من التعبِ الملكي،
كان يعشقُ كلَّ النساء
ولكنه يستريحُ لعينينِ في الذاكرة.
يا قطارَ الشمال
يا قطارَ الجنوب
يا قطاراً تجاوزني والحقائبَ، في الليلةِ الماطرة.
يا قطارَ الغرابةِ ما استودعتْكَ المحطةُ رهناً
وما جاوزَ النخلُ وجهي.
يا قطارَ الطفولةِ…
قلت آتكئْ.
أنتَ بين الرهينةِ والفتكِ سعرٌ زهيدٌ،
وبين الطفولةِ والموتِ وجهٌ جديدٌ
يموتُ،
ويستبدلُ اللعبةَ الخاسِرة،
حين يبلو الصباحَ وحيداً،
حينَ يبلو الظهيرة،
حينَ يبلو المساءَ وحيداً،
بموتٍ جديد.
ـ هلْ تريدُ اسْمَه؟
اسمُه في الهوّيةِ… حسين مردان
واسمُه في الأزقَةِ حسين مردان
واسمُه في المقاهي… الإله…
واسمُه حينَ يعتزلُ الناسَ
… آه .
1
وكانت شوارعُ بغدادَ تمتدُّ. شمسٌ تذوبُ
على حافَةِ السورِ، والسورُ يمتدُّ.
والنخلُ ما كانَ نخلاً وصار
يحركُه عاشقٌ في الرصافةِ، والنخلُ يمتدُّ.
وخطوُكَ ما حلَّ في الجسرِ
ما جاوزَ الجسرَ،
كنتَ وحيداً
وكنتَ علي الجسرِ واقف.
وذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمالِ النساءُ
يُمتْنَ ويُحيينَ ظلَّك.
وخطوُك ما حلَّ في الجسرِ،
ما جاوزَ الجسرَ،
كنتَ وحيداً
وكنتَ على الجسرِ واقف.
وحدّقتَ في الماءِ
ظلُّك نَرْجِسةٌ من رمادٍ
يلاشيهِ وجهٌ غريٌبٌ
ووجهٌ يوزّعُ دائرةً
…دائرة.
2
يا ضريحَ الفراتِ الجميلْ،
وطني غادرٌ
فمتى أزْددتُ حباً يكنْ أجملا،
والذي ظلَّ بين جراحي وبينَ النخيلْ
وجهُهُ مهملا
صار مشنقتي،
يا ضريحَ الفراتِ الجميلْ.
من رأي المستحيلْ
في البلاد التي غدرتْ،
غادَرَتْ بابَ بيتي،
من رأى في الضفافِ الوسيعةِ أوجُهَها
في الضفافِ الوسيعَة،
لم يمتْ مثل موتي.
إنها وقعُ صوتي في الخطواتِ السريعة
… وهي الضائعون.
3
يا حسين مردان،
كيفَ تركتَ البابَ مفتوحاً
والليلُ لم يبدأْ، وكانَ السرُّ مفْضوحا.
وأنتَ قد تجهلُ أنّ الخمر في الندمانْ
ما زالَ يستحلفُ كلَّ ظلمةٍ
في ساحةِ الميدانْ
أن تستريحَ الآنْ،
وأن يظلَّ القلبُ مجْروحا.
بيروت ـ حزيران /1972
فوزي كريم.. استباق المراثي- د.حاتم الصكر
MEDIAFIRE.COM
فوزي كريم.. استباق المراثي- د.حاتم الصكر
MediaFire is a simple to use free service that lets you put all your photos, documents, music, and video in a single place so you can access them anywhere and share them everywhere.
 

مشاركة