من الكتلة الشعرية إلى بنية القصيدة- مقدمتي لكتاب(مختارات شعرية) -2-


مقدمتي لكتاب مختارات شعرية 2-الصادر عن مجموعة(مجانين قصيدة النثر)  صيف 2021 بالقاهرة.

من الكتلة الشعرية إلى بنية القصيدة

عن حداثة قصيدة النثر وتجلياتها النصية

 
-1
يجري الحديث في العادة عن البلبلة التي يثيرها مصطلح ( قصيدة النثر) لأسباب باتت معروفة مكررة، لكنني أجده محيطاً بها ومناسباً لشعريتها، لا آمتثالاً للرغبة بكسر قيد الشعر المنظوم ، ولا الإحتكام إلى الرخصة الإصطلاحية التي تقبل المصطلح الشائع المستقر إجرائياً وتداولياً  رغم التباسه ، بل لكون المصطلح  يحمل أفضل ما أراه امتيازاً لقصيدة النثر، وهو انتقالها  بالكتابة من (الشعر) – بحمولته المكرَّسة في التقاليد أو الأطر الفنية والبنى الجمالية الموروثة والمتكتلة بقوة،إلى (القصيدة) بما تقترح من مفاجآت إيقاعية وانزياحات وخروج عن الثوابت.فالقصيدة ابنة نافرة متمردة ، لراعٍ يريد تطويعها وتدجينها وهو الشعر ؛ يسوقها ضمن الجوقة -القطيع؛ لتنضم إلى كتلة النصوص التي صارت بتراكمها  ذخيرة فنية بآستخدام
الشعراء لآلياتها وتقاليدها ،وذخيرة جمالية بما يضمنه لها المتلقون من مكانة تحصّنها ضد(  الجسم الغريب)عنها، فهم مستودع ذلك التراكم النصي الذي يرسّخ الشعر من خلاله تقاليده، ويضمن استمرارها،ويعطيها قدسيتها لتغدو جزءاً من شخصيتهم وهويتهم، فيصبح كل خروج عنها (مروقاً) يُرفض بشدة . تلك التقاليد هي ثوابت جمالية عبر- تاريخية، أي تمتلك ثباتها من زمنيتها ،واحتلالها للذاكرة فتصبح بعناصرها الفنية تقليداً لابد من اتباعه للوثوق من انتمائها إلى الجنس الشعري. وهذا ما جعل التحديث في الشعرية العربية عملاً شاقاً وبطيئاً ومحفوفاً بالكمائن الأخلاقية التي تخرج من الوظيفة الشعرية إلى التعصب ،والخطاب الضيق  المغلق الحيز، والمتمحور حول الهوية.
ويمكن تعضيد رأينا هذا بالتذكير بأن الأنواع السابقة على قصيدة النثر حملت كلها وصف الشعر، كأنما لتبرير وجودها وانتمائها إلى كتلته ؛فهناك مسميات اصطلاحية في تاريخ الشعرية العربية تكرّس وصفَها بالشعر :
– الشعر التقليدي
– الشعر المنثور
– الشعر الحر
أما النوع التحديثي الذي تبلور عبر( قصيدة النثر) ،فقد مثّل التحديث الجذري الذي لايكتفي بالشكل أو اللغة،بل يجترح مزاياه عبر القصيدة التي تلتقي بما يناسب
آلياتها وهدفها. وهي تتنوع ولا تكف عن التجدد ضمن حداثة الكتابة؛ لأنها مشروع شخصي مفتوح لمقترحات تتسع لها القصيدة  بعدد أفراد النصوص المكتوبة بها.وذلك يعيد التذكير بالقناعة بوجود قصيدة نثر لكل شاعر.لايمكن إذن فهرسة النصوص في حقول نهائية تتناسل عددياً داخلها .بل هي ولادات مستمرة لأجيال من النصوص.
وأحسب أن قصيدة النثر ستكسب بالمصطلح هوية فارقة لا توفرها لها المقترحات الأخرى التي تلصق بنفسها وصف ( الشعر) أو تضيفها إليه. والتي لم يكتب لها الإندراج في عمليتي كتابة القصيدة أو قراءتها ، أتحدث هنا عن  مسميات مثل(كتابة الشعر نثراً) .
إن الإختراقات النوعية في الشعرية العربية تشجع على القول بأن مقترحات التجديد التي تلت ما عرف بالنهضة تميزت بالهفو للتجديد كمهمة شعرية في المقام الأول . ووقف بعضها على عتبات التحديث، ولم يكتب له التوسع والتمدد والإنتشار.أشير هنا إلى ظاهرة غريبة حفظها لنا تاريخ الشعرية العربية، وأشرت لها من قبل في دراسات وأبحاث منشورة .وأعني ظهورالشعر المنثور في الكتابة الشعرية بعد التقليد الوزني الموروث، وقبل التعرف على(الشعر الحر) و قصيدة النثر.كان المرجع  الشعري الإنجلو سكسوني يهب المجددين من شعراء المهجر خاصة ،حرية اختيار النثر الشعري  لكسر الصرامة الشعرية الموروثة ، ثم الإنتقال إلى الشعر المنثور الذي لم يكتب له الذيوع ،وظلت كتابته مشوبة بالهواجس والخواطر والخطابيات المتواضعة التي لا يخفيها البريق البلاغي الذي يغلف العبارة.ولكنها في جوهرها كانت وجهاً للهفو صوب التحديث .خارج النسق الشعري المهيمن إيقاعياً وبنائياًعلى الكتابة الشعرية.وكانت بذلك تمهد لظهور قصيدة النثر تؤازرها الترجمة كأحد وجوه التثاقف الشعري.
2-
لقد تواطأت قصيدة النثر مع نفسها على القبول بوصف (النثر) في بنيتها ،وارتضت أن تكون(قصيدة دلالية)، استبدالاً للمعنى الضيق بإزاء سعة الدلالة وكليتها .فالمعنى مرتبط بوحدة البيت، أومنبثق من الشطروالسطر في (الشعر الحر)،فيما تبحث قصيدة النثر عن الجملة الشعرية، بالحدود المفتوحة لا المقيدة بالتركيب أو بالحيز،و ارتضت أن تقترض من السرد كثيراً من أعرافه وعناصره ،ولكن بإخضاع ذلك كله لمصهر صوري وإيقاعي وتركيبي يدير مركزه ويخضعه لأعرافها.وهي تتنبه للعتبات والمداخل والموجهات الفاعلة في القراءة ،والتي تمثل نصوصاً صغرى داخل بنيتها. ويمكن الإشارة إلى استثمار فضاء النص لخلق إيقاع موازٍ يدخل العامل البصري في الكتابة والتلقي ،ويكون الفضاء وسطح المكتوب فرصة لاستكمال بعض الرؤى والتصورات التي اتسع لها النص بانفتاحه وتعدد موارده. واستثمر شعراء قصيدة النثر الإشارة  التي تعمل بقوة  صورية ورمزية عالية ،والهيئة الخطّية للنص والنتشاره المكاني  المكتوب لتعضيد الرؤية المركزية للقصيدة وخلق دلالتها.أما التخفف من العنونة  والإستغناء عنها فهو بذاته تكتيك فني يستوجب التأمل، وله دلالته على كلية النص الطويل، والمقاطع التي تغدو بالتخلي عن العنونة سلسلةً جملية ً تؤدي مهمة دلالية مترابطة.كما  أنه يوجد فراغاً قصدياً يغري القارئ بتخيل ما يملؤه، فهو جزء من فراغات النص وفجواته المسكوت عنها والتي تتكفل القراءة  بملئها.وربما كان التخلي عن العنونة جزءاً من المشغّل الفكري للنص، وإطلاقه حراً وعدم تقييده في لافتة عنوانية.
وتشتبك قصيدة النثر العربية مع الإيقاعات والتناصات الممكنة لاسيما في طورها الثالث ، وذلك إذا  ما اعتبرنا البدايات التبشيرية والمنافحة عن شرعيتها طوراً أولاً، والأصوات التالية التي هذبت من تقليديتها الأولى وانصياعها لاشتراطات وأوهام التبست بسبب الحرية التي تتيحها كتابتها، طوراً ثانياً، ثم اتساع حريتها وانفتاحها السردي كتتويج لصفة النثر الملازمة لشعريتها ،وتبدل مراجع مدوناتها وتعدد كيفياتها طوراًثالثاً.وهذا ما سترينا إياه  قراءة نماذج الكتاب الشعري الماثل، فثمة قصائد طويلة ، وأخرى قصيرة،وثالثة بشكل شذرات وجمل قصيرة ، وواضح أنها داخلياً توفرت على تقنيات متنوعة دليلاً على الإجتهاد والكد في كتابتها.
3-
تتنوع قصيدة النثر العربية شكلياً ،وتعضد ذلك بتنوع محتواها.فالموضوع المغيّب كعينة دم للنصوص ،تنضوي تحته كلافتة لم يعد يشغل الشعراء .فقصيدة النثر تتيح انتقال القلق الشخصي وعدم التمركز في معضلة أو إشكالية واحدة إلى قلق نوعي ونصّي ، فتتجاذب القصيدةَ أفكارٌ ورؤى وصورٌ لاينتظمها إلا ماينتطم شخصية كاتبها.وهذا لا يعني إغفال معضلاتها وإشكالاتها ،كالإستسهال المتأتي من هجر الوزنية وإيقاعاتها ما أدى إلى تراكم نصوص لا تستجيب لمواصفات القصيدة لغة
وإيقاعاً وتراكيب،ومثل سوء فهم وجود (السرد) عنصراً مهيمناً في القصيدة ؛ ما أحال بعض النصوص إلى قصص مصغرة أو قصيرة ، مركزها السردي يسلب شعريتها، وغياب ما أسميه (ثقافة النص) كالإستعانات الأسطورية أو التناص والإحالات المرجعيىة التي تثري المتن النصي، ولا تشعرنا بشحوب القصيدة أو فقرها وسقوطها في الغنائيات المائعة والمناجيات ،والبنى الصادمة فوقياً ؛أي دون أن تكون لها مبرراتها الرؤيوية أو الفنية.
أذكر هذه المحاذير رغم قناعتي بمنجزات قصيدة النثر،وإفادتها من الإنفتاح على أشكال كتابية ترسخت بالنتاج النصي؛ كقصيدة الومضة أو االمقاطع الشعرية ، والأشكال الحوارية، وتداخل الفنون  ،والإستعانة بالسيرة الذاتية والوقائع ،والشذرات المكثفة  التي لا أود حصرها في ما عُرف بالهايكو؛ لأنها غالباً لاتمتثل لأعرافه، لكنه أصبح أحد روافد التأثير في الكتابة، وكذلك تنوع أو تبدل المؤثرات الفاعلة في الوعي بالكتابة، وهنا لابد من ذكر الترجمة والإحاطة بالقصيدة الحديثة عالمياً. وكذلك التنظير الذي يجري لشعريتها وتلقيها..وسنجد في نماذج هذا الكتاب ما يتيح الإستدلال على التنوع الشكلي والمقولات التي تنهض بقصيدة النثر إلى تعيينات، تنفي عنها صفة التجريد اللغوي، أو التهويم والبعد عن مرمى القصيدة بتحميلها مبالغات شعرية تقوم على التوافقات والتناقضات التي كانت أسلوباً شائعاً في كتابات طورالتبشير الأول.
وسألفت إلى وجود حرية  مضمونية مناسبة للحرية المقصودة في خطاب  قصيدة النثر..حرية تتجلى في رصد تدرجات الوعي، ومساءلة الأعراف،ومصارحة الجسد، والتحقق من الثوابت .وهي وسواها مزايا تلي هيمنة الشاعر على خطابها ،أي وجوده   في قصيدته ذاتاً ساردة أو واصفة أو مستبطنة أو محاورة ، غير بعيد عنها بالتخفي القديم وراء الموضوع وتكرار تقاليده بحسب الأغراض التي ظل الشعر العربي قبل الحداثة يمتثل لها، ما شكّل عائقاً عن التميز والتفرد إلا في لحظات شعرية معينة اتاحت للشاعر أن يمزج بين الموضوعات التي تظل لها هيأتها ودلالاتها رغم المزج ،لكنها مثلت خروجاً على صنمية ما عرف ب(وحدة الموضوع)،  وقد منحته  القراءات الجديدة والإستعادات تلك الأهمية. .
إن الموضوع يناظر التجويق الذي تجسَّد بالتلقي عبر الجمهور.والعناية به كمفردة فنية تؤطر النصوص وتدرجها في تلك التراتبية النوعية التي لا تميز فيها لنص.وهذا ما تخلصت منه قصيدة النثر لاسيما في أطوارها اللاحقة للبدايات.وهو ماسنتبينه بقراءة نصوص هذا الكتاب.فهي لا تندرج في موضوع أو مناسبة كتابيةٍ ما.هي إظهار لما يحرك الكتابة بدافع عوامل تختلط فيها الذاكرة بالخيال الحر المنتج ، والصور التي تشيىء المجرد أو تجرد المحسوس ،بالعاطفة غير المتبنينة في موضوع  محدد أو (شخص)  يستهدفه الخطاب العاطفي. ويكون للغة في هذه الحال وفي قصيدة النثر عامة مهمة أخرى غير إنجاز الوظيفة الكلامية أو التواصلية المعتادة في اليوميات .إن اللغة في قصيدة النثر تحفل بالدوال التي يتعين على القارئ الإشتراك في العثور على مدلولاتها .وهو نشاط  أغنته قصيدةالنثر بإتاحة قراءتها بحرية تورط القارئ في تعقب المدلولات وتاويلها، لخلق هيكيلية نصية لا تهبها القصيدة كوصفة جاهزة.ولعل هذه أبرزمشكلات تلقي قصيدة النثر،ومسببات وصفها بالغموض أو الصعوبة والغرابة..وساهمت في تعميقها إشكالية بعض المصطلحات المستعارة من رواد التنظير لقصيدة النثر الفرنسية دون وعي بمفاهيمها. مثل القول بالمجانية والفوضى كشروط لكتابة قصيدة النثر.وغيرها من المصطلحات التي يساء فهمها.
4-
لاتزال كثير من معضلات كتابة قصيدة النثر وهويتها تتصل بالتلقي والإستجابة أو كيفية قراءتها.فالمتلقون المفترَضون لايتفاعلون معها كمتلقين أفرادٍ لكل منهم جهازه الجمالي في استقبال نصوص الحداثة التي تمثلها قصيدة النثر. وهم يستنفرون الطاقة الجمالية المتكونة عبر الذخيرة التي تمدهم بها النصوص التي تلقوها ضمن فهم الصلة بالقصيدة عبر (الجمهور)، المتكون كمفهوم من بقايا مرحلة المشافهة ،وما جلبت من مزايا غنائية و خطابية ومباشَرة. وكذلك انعكست على البنية الشعرية بتكريسها وحدة البيت والمعنى المفرد ،والوزنية المؤثرة في الأذن، والقافية التي تمثل جرساً للإشعار بالإنتقال إلى معنى آخر. وكان لابد أن يحل (المتلقي) المفرد بدل الجمهور المتكون كوجود خارجي يناظر صوت الشاعر وتوصيل المعاني بقوالب اعتاد عليها.
إن تكتل الجمهور المنفعل يناظر كتلة الشعر وانثياله،والمتلقي يمثل التفاعل والحوار مع النص واستنطافه.وهو ما تنشده  القصيدة العربية  في طور حداثتها الراهنة.
ولعلنا بهذا اقتربنا من تشخيص جذور التلقي المضاد من قصيدة النثر من لدن الجمهور، وتقبلها المتدرج والهام لدى المتلقي بمكوناته الموازية لحداثة القصيدة،  وضرورة تبديله لموقع التلقي وأفق القراءة .
ولا يعفينا لوم الجمهور وسوء القراءة من التصريح بأن النقد الشعري لم ينهض إلا بهبّات مناسباتية، ودراسات فردية تعوزها الحوارات والمداولات الفكرية بين نقاد الحداثة وقرائها، وبتحفظات لا تنفصل عن طبيعة التكوين الثقافي للناقد ،وتربيته الشعرية ؛ وكيفية التعامل مع النصوص  وقراءتها دون شك.
5-
إن النماذج التي يضمها هذا الكتاب حين تقدم تنويعات على الكتابة وتلوينات لها ، تؤكد أن أجيال القصيدة تتواصل،وكذلك كيفيات بنائها واحتواء عناصرها السردية والإيقاعية واللغوية والصورية.وهي تهبنا الإحساس باستقرارها، وزوال بعض إشكالات كتابتها ومعضلات تلقيها. كما أن تنوعها الشكلي يؤكد بحثها عن التفرد الصوتي بدلاً عن الإصطفاف في تماثلات تعبيرية  وتشابهات جمعية، كما يخشى المهتمون بشعرية قصيدة النثر أن يشوش عليها ما ينشر تحت مسماها  من نصوص تعاني من الضعف والسطحية والإفتعال ،.فيزيد مشكلة قراءتها وتلقيها تعقيداً.
إن قصيدة النثر العربية تميزت بالبسالة ،لا لأنها خرجت عن مألوف النظم الشعري، أو بدحرها تهم المعترضين وتمترسهم في وجهها ،بل جوهرياً بكونها تجاوزت قرونا ً من التقليد الشعري المستقر والمحكم في متطلبات الكتابة الشعرية واشتراطاتها. .والرهان عليها يأتي من استرجاع تلك الكفاحية والثبات في جدليتها الفنية والجمالية، وعراكها المتواصل مع الجمود والتراجع الفني والجمالي.
إنها تتسلم في لحظة الحداثة الراهنة مهمتها الإجتماعية والفنية، لترتفع بالقصيدة إلى مصاف عصرها ،والتفاعل مع ما يدور في متنه لا في حواشيه وهوامشه.
إنها تخرج من زمن  الإنزواء والعزلة ،إلى فضاء  الحرية المعوض عن فقدانها في  سياقات المجتمع، والأنساق المتحكمة في خطاباته السائدة. وهذه مسؤولية لا تنهض بها إلا النصوص الخلاقة والمعبرة عن الحداثة في اكثر أيامها  احتداماً وحرجاً ..
 
 
1-