حول الهوية الثقافية

 
                  الهوية الثقافية بين المحو والعزلة 

مقالتي في  الشارقة الثقافية- عدد شهر تشرين الأول -أكتوبر2021

لاشك في أن أية  مقاربة لموضوع الهوية ، والهوية الثقافية بوجه خاص ، تنطوي على تفصيلات وتنويعات تستدعي التأمل في ما تحمل من  وجهات نظر مختلفة، وتباينات في مفهومها المستمد من إيديولوجيات وأفكار تعمل على تشغيلها.لكن ما يمكن الإتفاق عليه منطلقاً لهذه المقاربة هو التأكيد على الجانب الثقافي، ودوره في ترسيخ الهوية وتجددها معاً ،على وفق معطيات العصر وتياراته الفاعلة في الحياة.
لقد كانت الهوية في أصلها الإصطلاحي مثالاً على ترحيل المصطلحات واقتراضها ، فهي في الأصل من مصطلحات الفكر الإجتماعي، لكن إجراءها في الثقافة يؤكد أهمية العامل الثقافي في الوجود الهوياتي للشعوب.فالثقافة والحضارة كمنجزين روحيين يضيفان للتقارب الإنساني مبررات تجعل ذلك التقارب عنصر قوة وانفتاح
وتحرر وغنى .كان باختين يقول بصدد التثاقف الأوربي مع ثقافات الشعوب خارج القارة: إن النظر إلينا بعين الآخر يزيدنا قوةً وانفتاحاً.
من جهتنا كان يجب النظر إلى الهوية  بكونها غير ثابتة العناصر.لا بمعنى مسخ ما حملت من مؤشرات على الغنى الروحي للشعب وحضارته، بل بمعنى أنها تتجدد وتتسع لاستضافة عناصر أخرى ذات أهمية في تعميق الهوية، وزيادة الحاجة للإحساس بها وتمثُّلها في الثقافة .  فهي  تتغير بتغير المعطيات، وتتنوع لتكون ملهمة للذات وسط تحديات الواقع ، ومستجدات الحياة من حول الفرد. .يرى أدوارد سعيد أن الثقافة والهوية نفسها في حالة سيرورة،  تتغيرمكوناتها ، وتتجدد مفاهيمها.ويكون للغة دور كبير في ذلك ؛ وذلك أكيد لأنها تصف وتعرّف وتقارب الأشياء؛ ليكون الخطاب مجلى للهوية، ومعرضاً لمفرداتها التي تكونها.
والملاحظ أن المنفيين والغرباء في مجتمعات الآخر أكثر إحساساً بالمكون الثقافي -واللغوي خاصة – للهوية.و في تفحص موضعهم الهوياتي في تلك المجتمعات التي يفترض أن يندمجو فيها ، ليس بمعنى المحو والإستلاب المتمثل في احتلال البلدان مصادرة حريات الشعوب، بل التفاعل الإيجابي وضمان سيرورة  الحياة بكرامة وحرية .لكن ذلك لا يتم إلا بخسائر يمكن تفاديها بتقوية الهوية ،عبر استذكار منجزها الإنساني في الحضارة والموروث الثقافي ،وإمداد الذات بعناصر من المعاصرة التي تجعل وجودها فاعلاً ومتفاعلاً أيضاً مع العناصر الثقافية واللغوية للآخر. ويكون المكان هذه المرة عاملاً إضافياً في اختبار قدرة الذات على موازنة إشكالية الهوية في الوجود الآخري الذي يهيمن عبر اللغة على إجراءات المثاقفة معه. وهذه معايشة مباشرة امتُحن من خلالها مثقفون كثر . يبسط تودوروف في كتابه ( نحن والآخرون) طرفاً منها.كما يتأملها بعمق أدوارد سعيد ويغور عميقاً في دلالاتها الوجودية وإمكانات التوازن التعايشي الممكن في حالته وسواه ممن يؤرقهم سؤال الهوية.
وتكون الترجمة كمعطى تثاقفي مع الآخر جديرة أن ترد في سؤال الهوية كفعل ثقافي يسهم في التقارب الإنساني.  وهو يقارب ثقافة الآخر عبر مدوناته لا وجوده المكثف اجتماعياً كما في حال المنفيين والمهاجرين.وتكون اللغة في الفعل الترجمي مظهراً للإختلاف عن الآخر.ولنا في ترجمة العرب مبكراً لكتاب أرسطو عن الشعرية المترجم ب(فن الشعر)  مثالاً دالّأً.فقد نقلوا مصطلحات كالكوميديا والتراجيديا بأنهما رديف لغوي ومفهومي للهجاء والمديح  اللذين عُرفا في الكتابة الشعرية العربية والفنون النثرية المتداولة ..كما أهملوا الفصل الخاص بالشعر الدرامي، والملاحم  الحربية والتاريخية التي رأوا أنها تتحدث عن (تخاريف)  لا يجدر بنا مطالعتها، ذلك أن عنصر الإختلاف في جوهر الهوية غاب عن العقل الترجمي ،لأن محرِّكه الفكري والمتمثل في الخطاب اللغوي يعدُّ ما في المسرحيات والملاحم اليونانية شيئا غريباً عن ثقافتنا ، لما فيها من وقائع وأحداث متخيلة يشترك فيها البشر والآلهة ،وتقوم على تحولات تختلط فيها الحقيقة والخيال، ولذا يصبح إقصاؤه ضرورة  (خوفاً) على هويتنا.لكنها في الواقع أفقدتنا رؤية ما تم التنظير له من مزايا، كان يمكن أن تنقل ذلك التقليد الأدبي عبر الأنواع الشعرية  إلى ثقافتنا  مبكراً،لتزيد هويتنا في تلك الفترة  من التعرف على الآخر تنوعاً وغنى.
وإذا كان الإيطاليون قد أشاعوا مقولة إن الترجمة خيانة، مستدركين بأنها مع ذلك ضرورة.فإن هذا يعكس أولاً الريبة اللغوية من الآخر ،والتشكيك في قدرة لغة الجماعة على استيعاب أو تمثُّل ثقافة الآخر عبر لغته..ولدى العرب قول شائع أيضاً بأن مَن تعلّم لغة قوم أمنَ غدرهم. وقد عدّوه حديثا نبويا لتقوية دلالته، رغم أن المختصين  في علم الحديث متفقون على نفي  كونه نبوياً، بل هو مما شاع ثقافياً واتخذ شكل قاعدة في التعامل الحضاري. ويمثل صورة لتنميط الآخر بكونه عدواً ماكراً أو شريراً .وكذلك لا تتطابق بحسب المثل الإيطالي مقولات الآخر ومتونه مع ما يُنقل عنه إلى لغة أخرى.كل هذا لقطع طريق التقارب الإنساني الذي لا شك في أن حضور الآخر مستعمِراً أو محتلاً أو معادياً في هيئته الرسمية، قد ساهم في تكريس إقصائه من الوعي الثقافي ،ومن تشكلات عناصر الهوية. هنا تصبح اللغة فاعلاً سالباً في الهوية.وتحرم الذات من فرصة الإغتناء أو القوة بمنجز سواها.
إن الهوية بمعنى من المعاني ليست اختلافا (مع )الآخر،بل عنه،فهي ليست (خلافاً )  يجب حسمه بنبذه  أو محو ذاتنا من أجله. بل التبصر في مكونات ثقافته وتلبية خطابها اللغوي لتلك الخصوصية المتاحة للمعاينة، والإستزادة المعرفية مما في الخبرات والنصوص التي تتيحها تلك المعاينة. فهي إذن مناسبَة للتثاقف معه ، وتقوية الذات بما تجد في ذلك الآخر من جديد حريٍّ بالإهتمام ، يضيف للهوية ملامح ساندةً ومؤثرة.
إن الجذر اللغوي للهوية ينطوي على إشارة واضحة لل(هو) بكونه خارج ذاتنا. ولكن بحضوره في تشكل الهوية الخاصة بنا.  و(نحن ) كضمير للجماعة المتكلمة عن ذاتها ستحمل معها سمات الإختلاف عن الآخر بعد معرفته، ثم بالضرورة ابتكار نقاط اللقاء به. وذلك هو جوهر عملية المثاقفة .
إن سؤال الهوية يواجه اختبارات كثيرة حول أسسه ومبادئه وقناعاته.ومن أبرزها العولمة القائمة على تقنيات الحداثة والقوة الإضافية لإزالة الفروق والحدود  عبر التكنولوجيا التي تعدت أسوار المصانع والمختبرات والإختراعات ، لتصل إلى يوميات الفرد وثقافته.وظهر أثرها حتى على الأشكال الأدبية والأساليب .وهذا يفسر ميل النصوص اليوم إلى الإختزال والقِصر ،والنشر الرقمي والتطويع الإلكتروني للكتابة والتعليم والصحافة والقراءة . ولكن الرد على هذه الهجمة التقنية لا يتم بدعوات العزلة والإنكفاء إلى الذات والتقوقع في ثوابتها التي لا تجعل التكيف ممكناً للذات التي تريد أن تظل فاعلة في الوجود الإنساني لا على هامشه أو  في حواشيه. وفي حديث تودوروف عن تجربته مهاجراً بلغارياً ومواطنا فرنسيا ، تحذير من أن فقدان الثقافة كارثة  تزيد المهاجر شراسة .وهذا تصويت ضد محاولة الثقافة الأخرى محو هوية المهاجر تماماً ،بدل الإفادة منها في إغناء الذات والتفاعل معها إيجابياً. بالمقابل فالإنعزالية لا تعي مفهوم الهوية والحفاظ عليها إلا بالذب عنها وتسويرها بالثوابت، وذلك تَراجع حضاري يعيد الإنسان إلى الإنتماءات الضيقة ، ويزيد من نقابية الذات وانحيازها لنفسها ،برعب من الآخر تحت أي مسمى كان ، وليس بهيئة معتدياً أومحتلاً. وللحروب دور خطير في تكريس الإنعزال البشري، ما يزيد الخوف من التقوقع وتوهم المبررات للذعر من الصلة الحضارية بالآخر وثقافته التي لا بد أن تتوفر على منجز يجعل التثاقف معها ذا جدوى وفاعلية.