ذاكرتان وخمس مدن..

 

هذه قراءءتي لكتاب (ذاكرتان وخمس مدن)-حوارات مع صلاح فائق أجراها اسكندر حبش. صدر الكتاب هذا العام عن دارخطوط وظلال.جزء كبير من هذا المقال ظهر في مجلة الشارقة الثقافية،العدد 61،نوفمبر-تشرين الثاني 2021
ذاكرتان وخمس مدن:
الحوار وسيلة لسرد السيرة
ينجز الشاعر اسكندر حبش حوارات متصلة مع الشاعر صلاح فائق عبر المراسلة في كتاب (ذاكرتان وخمس مدن) ، يكون عنوانه الجانبي (حوارات).ذلك يتيح الإستفاضة والإفصاح دون حرج الأسئلة المائة والخمسين وظرفيتها.لكن الأهم في قراءة الكتاب هو التنويع الجديد للكتابة السيرية عبروسيلة الحوار.
لا نستطيع حذف وصف السيرة من هذا السيل من التذكرات الحياتية والشعرية والتنقل في المدن . رغم أن صلاح فائق ومحاوره اسكندر حبش يؤكدان أن مادة الحوار ليست سيرة ، محترِزيْن بأن ثمة ( الكثير من صلاح هنا والخفايا التي لا نعرفها عنه.والأشياء العديدة التي تنتمي إلى سيرته الذاتية، التي تستدعيها الذاكرة.. لكنها ليست سيرة كاملة).هذا ما يتيحه التحاور من حدود سيرية ومساحة الذاكرة المحدودة. وكونه شكلاً غضاً من الكتابة السيرية وجمالياتها السردية.. يخلص الكتاب إلى أن ما نقرأ مجرد بعض (المفاتيح) التي سيعود إليها صلاح لتركيب سيرة مكتملة أو كاملة. لكنها تكييف جديد وتوسيع للشكل السيري عبر المحاورة.
يصف المحاوِرعمله بأنه (نافـذة نظـر منهـا إألى تجربـة جيـل بأسره، بحاجـة إلى الكثـير مـن الدراسـات ،لأنها واحـدة مـن النقـاط المضيئـة في الشـعرية العربيـة الجديـدة).وهو يشير بذلك إلى كون صلاح فائق من شعراء جماعة كركوك التي كان لها موقعها المركزي في حداثة القصيدة في العراق وقصيدة النثر خاصة .كما أنه يواصل مشروعه الشعري بحيوية وتجدد وحرية ، تجعل قصيدته حاضرة ومؤثرة.
يمكن لنا تصنيف مادة الحوار بأنها سيرة ثقافية، مفرداتها: النشأة، والمكوِّنات والـمؤثرات، الإنتماءات وما تلاها من انتكاسات وتغيّرات فكرية، والقراءات والإهتمامات ،والجماعات الشعرية ومصائرها، والمكان وانعكاساته في الشعر والثقافة..فضلاً عن تتبع خطوات الشاعر وإقاماته وهجراته بين مدن وأمكنة اختار منها المتحاوران خمساً هي كركوك ودمشق ولندن وبيروت و الفليبين. مع الإقامة والعمل ببغداد..
للحوار إذن وسائل تستحث الشاعر على البوح والإستطراد. يثير ذلك اسكندر حبش بمعرفة بالشاعر وشعره وسياقات تجربته .
يبدأ الحوار كما في الكتابات السيرية من الطفولة. وإذا كانت الطفولة أسّاً بنائياً مهما ً في الشخصية والثقافة والإختيار ، فإن معاناة صلاح نموذجية: بين ثلاث لغات العربية والكردية والتركمانية ،وضغط أبويٍّ ،واغتراب جغرافي مبكراضطره للعيش صغيراً خارج بيت الأسرة ، والعمل الحزبي مبكراً ، والسجن،والخدمة العسكرية الإلزامية،ثم البحث بعد الإنتهاء منها(عن خلاصه الشحصي) كما يقول. ولا خيار سوى الهرب من العراق،ومواجهة العمل في أشغال قاسية متنوعة، وأخيراً الهجرة والتنقل من مدينة لأخرى ذهاباً وعودة في الأقاصي الآسيوية -الفليبين لعشرين عاماً- ، والأوربية- لندن مطولاً- وسواها ،وقبلها العربية بيروت- دمشق، ويؤطر ذلك كله حنين خاص لا يقع في السيولة العاطفية وكمائن الحنين المفرط.ولا يتسلل مجّانياً أو مباشراً إلى نصوصه وقبلها لوعيه.
ولكن لماذا ثمة ذاكرتان كما في العنوان؟ هما ذاكرتان يمتلكهما صلاح فائق .الأولى من العراق يتعذب في استرجاعها وبسببها.والثانية خارج العراق يصفها بأنها مريحة، جعلته يقتنع بأنه كموجود ليس ماضيَه ،بل حاضرُه ومستقبله.
هذا الإستغناء عن الماضي رغم ماسرده عنه في إجاباته، وما أظهر من روح كفاحية في السياسة والعمل والثقافة الذاتية والكتابة، يبرز للقارئ مقدار العناء الذي واجهه في الوطن استبداداً ،وقمعاً أسرياً ،وتشويشاً اجتماعياً وارتبكات حياتية وثقافية بسبب ذلك كله.
عدة إشارات ترسلها الإجابات التي تنقض ذلك التخلي،ربما لأن الكتابة الحوارية تتم بالمراسلة ،ويسقط في فراغها الزمني الكثير من التذكرات والأقوال.فها هو يقول مثلاً (وطني أم. ولابد للمرء من أم .رغم ما يمر به الوطن.).
ليس العمل استطرادات سيرية أو إجابات آنية.فالقارئ يحصل على شهادة ذات قيمة حول الأوضاع الثقافية في العراق والبلدان العربية ،ومنابر النشر ،وجدل الأشكال والتيارات الأدبية – في الكتابة الشعرية خاصة- وحول ما عرف نقدياً ب(جماعة كركوك ) التي ازدهرت عبر نشاط أفرادها في الخمسينيات والستينيات ، يرى صلاح أنها مرت بمرحلتين أسسهما جيلان :الأول استلم التحولات الثقافية واستوعبها وعبّر بما يحيط بوجهة نظره ورؤيته، فيما انتقل الجيل الثاني الأصغر عمراً بتلك التجربة ليدخلها في التجديد والتحديث بقوة، ورحل بها إلى العاصمة وصحافتها ومقاهيها الأدبية، ثم إلى فضاء الكتابة العربية.ويسمي من الجيلين شعراء وقاصين وفنانين مثل( مؤيــد الــراوي، أنــور الغســاني، فاضــل العــزاوي ،جليــل القيسي ويوسف الحيدري، صلاح فائق وجـان دمو، وسركون بولص وفــاروق مصطفــى والأب يوسف سعيد ومحي الدين زنكنة..).وبمودة شاعر يتابع حيواتهم ومصائرهم. مَن ظل منهم في العراق ومن هاجر .
يتمتع صلاح فائق بخيال جامح منذ الطفولة. يتصور عراكا في الزقاق لا ترى أمه شيئا منه. وكذلك تلهب الأفلام السينمائية خياله ويحسب وقائعها حقيقية .ويتساءل عن مغزاها. خيال.يسميه اسكندر حبش(المخيال الرهيب الذي يولد صوراً غيرمطروقة ). و هذه إحالة إلى (غرائبية) الصورة والحدث المسرود لدى صلاح. يصف اسكندر قصيدة صلاح كلها بالغرائبية.يذكر صلاح محاولاته لاستحضار الموتى في الأحلام، ورؤية أحداث في الحلم تحصل بعد يقظته. وفي نصوصه يقابل حيتاناً وحيواناتٍ وأنهاراً تتجول في حلمه، أو تسد باب غرفته، أو تستلقي في سريره. ذلك يحيلنا إلى ما لدى السورياليين من صور شعرية غرائبية،وكذلك في لوحاتهم واعمالهم الفنية.
تقود أسئلة اسكندر حبش وكمائنها إلى تشخيص الخيال الذي تتميز به قصائد صلاح فائق.خيال مفرط يقترب من الرؤية السوريالية لوصفة الخيال المطلوبة في الفن والكتابة. سينفي صلاح ذلك عن نفسه.إنه ضد التبويب واندراج الشاعر في عيّنة واحدة.ونحن لدينا فضلاً عن ستراتيجية الخيال في نصوصه ،شواهد باح بها هو نفسه :التجمعات السوريالية التي اختلط بها وأسهم في انشطتها في لندن،،والقراءات التي تحدث عنها والترجمات. لديه في الواقع اعتراضاته عليها.كقوة استعاراتها .لكن وجود الخيال المفرط فيها وفي شعره ، يقول خلاف ذلك.مع تقييمه الجيد للمدرسة السوريالية المصرية وتأثراتها من خلال أعلامها ، مثل جورج حنين وجويس منصور التي قال لها أندريه بروتون أنتِ الشعر السوريالي ، وهو ما اعتبره صلاح مبالغة وشطحة رجالية .
في الموقف من التراث يصرح بأنه لا ينبغــي رفــض تــراث العربيــة ؛لأنه نتــاج إنساني أولاً، وفيــه الكثيـر مـن الجوانـب التوثيقـة في الشـؤون الحيـاة الإجتماعيـة والثقافيــة.
ويتمدد مفهوم التراث إلى التراث الرافديني، و ملحمة جلجامش خاصة..ولديه تفسيره الخاص لمغزى رحلة جلجامش بحثاً عن الخلود، يطابق مفهومه للغربة وحرقة السؤال عن الموت والوجود. فليس العثور على العشبة مهماً .الرحلة كما يقول هي الأهم في الملحمة،لأن جلجامش منفي وغريب.
ولاعتقاده ان القراءة وحدها لا تخلق شاعراً ، يؤكد أن غنى الحياة وتجاربها يتكفلان بذلك ،رغم ذِكره لقراءاته المبكرة . وكذلك كان الكد الشخصي والمقدرة الفكرية والأسلوبية ومعرفة اللغات ،تعويضاً عن الدراسة المنتظمة التي حرم منها وأصدقاؤه.
بدأ وكذلك شعراء جيله من كتاب قصيدة النثر مبكراً ،وحتى بعد اطلاع قليل نسبيا على نماذجها لأنهم لا يعتمدون على القراءة.إنهم يستمدون موضوعاتهم من حيواتهم المتسمة بالكفاح والكدِّ.هجرة مبكرة وانقطاع عن التعليم بسبب مطاردات بوليسية بسبب مواقفهم السياسية ،أو اغترابات مكانية متنوعة من بغداد حتى دمشق وبيروت ثم أرجاء العالم المختلفة ،متناثرين تحتها كنجوم تائهة في فضاء غربة ملبدة بالهموم والمشكلات، ومعاناة الإغتراب والحنين.
تجربته في كتابة قصيدة النثر تستند إلى مؤثرات دون شك،لكنه يسهب في بيان المؤثر الأمريكي فيها.فهو يعتقد – وله أسبابه – بأن أمريكا بلد الشعراء،
حيث مئات الآلاف منهم في أرجائها .إنهم فسيفساء مكتملة لوضع الشعر . وهم مقسمون في تيارات عرفت بحسب تجمعاتهم مثل جماعة سان فرانسيسكو بكاليفورنيا، وجماعة نيويورك ،وهو يبوح لإسكندر حبش بالفاعلين في تجربته الشعرية ، مثل ويتمان و غينزبرغ وترجمة سركون لقصيده الأشهر(عواء) ، وفرلنغيتي وشعراء البيت، حيث يبرز المؤثر في شعره وزميل تجربته ومدينته وجيله سركون بولص.وهو يشيد بهم لأنهم ناصروا القضايا الإنسانية العادلة . متشبثا بالشعر كخلاص أو ملاذ نهائي، بعد أن خرج من تجارب متنوعة في السياسة والحياة ، وأعاد تقييمها بشجاعة وجرأة مع نفسه، ليخلص إلى هذا الإختيار الأكيد: القصيدة.والتي لا ينكر أنه يواظب يومياً على كتابتها بشتى أشكالها معتمداً مايسميه المفارقة ، رغم عدم ارتياحه لمصطلح قصيدة النثر. وهو يرفض- ويسخر من- مقولة موت الشعر. فهو يراه مطلباً أو حاجة إنسانية يتحقق بها وجوده وإنسانيته.هنا سيكون قد اكتمل عقد قراءة المسرّبات السيرية في الحوارات ، وعلم القارئ أنه إزاء شاعر حياته هي شعره، وشعره هو حياته، ولا حياة له سواه…
قد تكون صورة لـ ‏‏‏٣‏ أشخاص‏ و‏نص‏‏
د.حاتم الجوهري، Hamid Oqabi و١٢١ شخصًا آخر
١٦ تعليقًا
مشاركة واحدة
أعجبني
 

تعليق
مشاركة