النقد البيئي-القراءة الخضراء للنصوص

من صفحة الصديق العزيز أستاذ نجاح الجبيلي مترجم كتاب النقد البيئي.يعيد نشر عرضي للكتاب في صفحته، بعد نشرها في مجلة الشارقة الثقافية-عدد شهر فبراير-شباط 2023

3 ي 
شكراً للناقد المبدع الدكتور حاتم الصكر وهو يكتب في مجلة الشارقة الإماراتية عن كتاب النقد البيئي الذي ترجمته وصدر عن دار شهريار
القراءة الخضراء: النص بين الإنسان والطبيعة
د.حاتم الصكَر
لا تكف المناهج النقدية الأدبية عن التجدد، واقتراح مداخل مبتكرة وزوايا نظر للنصوص التي هي بدورها تتجدد على مستوى أبنيتها وموضوعاتها ، وما تحمله من دلالات .
فما دامت مهمة النقد الأدبي العناية بجماليات النصوص وأشكالها، وقراءتها بكيفيات متنوعة ، فإنه النقد يستمد حيويته من تلك الفتوحات النصية ،ويلاحق متونها، ليشتق رؤى وأساليب ومناظير مناسِبة لتلقيها وقراءتها وتأويلها.
ومن المناهج التي يجري التركيز عليها هذه الآونة النقد البيئي الذي يُعنى بدراسة العلاقات بين الإنسان والطبيعة ، ويتعقبها في النصوص الأدبية والبصرية معاً.
ومؤخراً أتيح للمكتبة النقدية العربية الحصول على مصدر دراسي مهم، هو ( النقد البيئي: مقدمات- مقاربات-تطبيقات) الذي أعدّه وحرر مقالاته وترجمها الكاتب العراقي نجاح الجبيلي. و ينطوي الكتاب بمقالاته ودراساته المتنوعة على جوانب نظرية وتاريخية تعرّف بالمنهج ومصطلحاته ومراميه، وكذلك زمنية ظهوره وموجاته اللاحقة ،علماً بأنه لايعود لعهد بعيد . وثمة جوانب تطبيقية تناولت نصوصاً مختلفة في أنواعها وأجناسها ،وقامت بقراءتها بيئياً، لبيان مدى انعكاسات البيئة والمحيط والطبيعة في متونها. والوعي بما يتهددها من أخطار صارت موضوعاً عاماً يعني البشر على هذا الكوكب ، فضلاً عن استجلاء كوامن جمالياتها التي ينالها التهديد ، بعد أن كانت مصدر إلهام ، أو مجالاً نصياً في حُقب فائتة من عمر الأدب والفن.
ولربما تساءل القراء والمهتمون عن جدوى الفحص البيئي للنصوص بمقترب يكاد أن يكون متداخلاً مع اهتمامات علماء الإيكولوجيا( علم البيئة)، ودراساتهم وأبحاثهم المتنوعة حول الموضوع البيئوي الذي ازدادت العناية به في العقود الأخيرة، مع ازددياد الأخطار المحدقة بحياة الإنسان ،من خلال ما تتعرض له بيئته من تدمير بفعل العوامل المعروفة ،من صناعية وحربية وكوارث وأزمات .لذا لم تعد البيئة اختصاصاً إيكولوجياً يعكف عليه المشتغلون بعلم البيئة فحسب.فثمة حماة للبيئة ومناصرون لبقائها دون أن تنالها شرور البشر، وما تُحدثه المدنية من تدمير لكائناتها، وزحف على معاقلها ودحرلجمالياتها.
ربما لم يكن متوقعاً أن تبرز البيئة مادة منهجية في النقد الأدبي، تستقصي ما في النصوص من تضمين لعلاقة الإنسان بمحيطه، أو بكلمة أدق ببيئته التي هي أوسع معنى وأشمل.
تمددت إذن دراسة علاقة البيئة والإنسان ،من معامل المختصين ونظرياتهم العلمية وإحصاءاتهم وتوقعاتهم ، لتحط في أقرب ما إليها شعورياً: نصوص الشعر والسرد، والفنون كالسينما والرسم والمسرح وسواها.
يعرّف سكوت سيلييتش النقد البيئي بأنه((دراسة النصوص البيئية الصريحة بوساطة مقاربة بحثية، واستكشاف التعقيدات البيئية، والعلاقات بين الإنسان والطبيعة في أي نص أدبي)).ودون شك فقد جرت توسيعات لهذا المفهوم اعتماداً على ما يعنيه خطاب النقد البيئي، وما يدعو إليه من قراءة خضراء أو تأويل أخضر،يقوم به قارئ النصوص المتنوعة من أجناس مختلفة لا الأدبية فحسب.وجرى التوسيع من زاوية أخرى، حيث قام بعض نقاد البيئة الأدبيين بالبحث عن علاقة الإنسان بسواه من الكائنات في الطبيعة والمحيط كالنباتات والحيوانات.ولم يحصروا قراءاتهم وتأويلاتهم على الوصف بالخضرة ، وبما يعني المحيط الإيكولوجي فحسب، كالفضاء ونقائه ، والموارد البشرية والطبيعية كالأنهار والبحيرات والحدائق .
يستمد هذا المنهج أصوله من دراسات البيئيين ، دون الارتهان بنظرياتهم العلمية الجافة.بل يسعى النقاد الأدبيون إلى تعقّب العلاقة المفترضة بين الإنسان والخارج ومخلوقاته، بآليات قراءة تشدد على المضامين ومحتويات النص ودلالاته.وربما كانت تلك أهم مؤاخذاتنا على هذا المنهج.فهو يظل ضمن التصنيفات الخارجية.وقليلاً ما يتيح التمعن بالأدوات الإجرائية في النصوص البصرية، أو بالتركيب والبنية الشعرية أو السردية في النصوص الأدبية.وهي التي تتصدر التشكل البيئي في النصوص ، وتترافق معها من حيث اللغة والإيقاع والأسلوب، والمتن الخطّي للنصوص أحياناً.
يهبنا تعريف بيبا مارلاند للمصطلح في الدراسة التي تتصدر الكتاب ،منظوراً آخر يربط النقد البيئي بما هو خارج النص.فيتقدم المصطلح بكونه ((تمثيلاً للعلاقة بين البشر وغير البشر.من منظور القلق حول التأثير المدمّرللبشرية على المحيط الأحيائي)). ويبدو الخوف والقلق هنا متعلقين بأحياء المحيط ذاته ، لا بحياة البشر الذين تعود الكوارث البيئية عليهم بشتى الويلات والخسائر.
وهذا ما تفعله نادين سنو وهي تقرأ روايتين عربيتين مترجمتين للإنجليزية.هما (بحيرة وراء الريح) ليحيى يخلف، و(كوابيس بيروت) لغادة السمّان. فتتعقب وجود الأحياء الأخرى في الروايتين ، وعلاقة الشخصيات بهما .
يعود البحث عن تاريخ ظهور النقد البيئي إلى الممهّدات الممكنة له.فيذهب تيمو موللر في دراسته عن باختين والنقد البيئي إلى التركيز على عنصر الحوار والانفتاح والعلاقة في أعمال باختين. والتنبيه على أن باختين بنقده للمجتمع الصناعي واغترابه عن الطبيعة، يسبق النقد البيئي وما ورثه في الموضوع عن مدرسة فرانكفورت. وكذلك تأكيدباختين المبكر على الترابط الزمكاني والتمثيل الأدبي للزمان والمكان بعد فهمهما واستيعاب دلالاتهما.
لكن اسم الأمريكي كينيث بيرك يبرز بكونه رائد النقد البيئي، بتعبير لورنس كوب في دراسته بالعنوان نفسه، وله جهد مبكر في كتابه(مواقف ضد التاريخ) 1937 يمكن إدخاله في باب التمهيدات الإستباقية، حيث استخدم مصطلحي (علم البيئة) و(التوازن البيئي)..ولاحقاً أشار إلى ما أسماه تضحية الناس بالطبيعة، ما يعني عنده ممارسةً أشبه بطقس درامي للتضحية بأنفسهم.
ويعدّ البيئيون الإنسانياتِ البيئيةَ بعض ما شجع على الممارسة النقدية لهم.وكذلك سيأتي السند من الدراسات الثقافية التي عنيت كثيراً بما حول النصوص من الأنساق التي تتداعى بالقراءة الثقافية، ويظهر تحكمها في التعامل الإنساني مع الطبيعة والمحيط ،وتمثيلهما في النصوص تصريحاً أو ترميزاً، أو كأنساق مضمرة أحياناً.
ويميل مؤرخو النقد البيئي والدراسات الخضراء ، كما توضح المواد المختارة في الكتاب، إلى تحقيب الإهتمام بالبيئة عنصراً أولياً في النقد الأدبي، من خلال الحديث عن موجات نقدية بيئية ،تلاحقت تطورياً، وتلازمت في توسيع المفاهيم والمجالات الممكنة للنصيّات البيئية في الفنون والآداب .فيتم الحديث عن كتابات مبكرة مثل كتاب (الخيال البيئي) للورنس بويل،وكتاب جوناثان بيت(الإيكولوجيا الرومانسية- ووردزوورث والتراث البيئي)، و(ربيع صامت )لراشيل كارسون، وما تضمنه كتاب (دليل القارئ للنقد البيئي) للكاتبة تشير غلوتفلتي من مساهمات.
سيرينا الكتاب في دراسات أخرى مترجمة ، منظور النقد البيئي في حقول النقد الثقافي والدراسات الثقافية، وفي النظرية النسوية ، ودراسات مابعد الكولونيالية.
لكن التطبيقات المترجمة تتناول بالتفصيل نصوصاً شعرية وسردية، وتضيء ما فيها من وعي بيئي أو جماليات يراد لها أن تزيد اهتمام الإنسان واحتفائه بالطبيعة.مع التأكيد على نقطتين يلح عليهما نقاد البيئة الأدبيون:- تخليص الصلة بالبيئة من النمط المعروف بشعر الطبيعة أو الشعر الرعوي، كأشكال أولية للتعامل مع البيئة.
– و تلمُّس أثر الوعي البيئي في لغة السرد والشعر..
– والنأي عن التصور الرومانسي العاطفي الساذج للموضوع .
لكنهم يعترفون بما يُقدم لهم من اعتراضات ، ومن نقد لنقدهم.وفي مقدمة ذلك التركيز على المواضيع والمضامين النصيّة ، وإهمال دراسة التشكل البنيوي والأسلوب وتحليلهما.
وكذلك الاهتمام بالعامل السياسي في الخطاب البيئي ، حيث يجري الحديث غالباً عن سياقات قائمة أو حادثة بيئياً، يتم تداولها سياسياً.
لكن الكتاب المترجم للعربية ،وبلغة خالية من اللبس والتعقيد، هو إسهام في البحث عن جديد المناهج والطرق المقترحة للقراءات الأدبية الممكنة للنصوص. يستحق من أجلها المترجم الأستاذ نجاح الجبيلي كل التقدير.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*