تأملات في ديوان ( الهبوط إلى برج القوس)- الناقد ناظم ناصر القريشي-جريدة أوروك-29-5-2023

من صفحة الصديق الناقد ناظم ناصر القريشي-مشكوراً هذه القراءة لديواني الهبوط إلى برج القوس الصادر عام2020 عن دار أروقة في القاهرة.
تطالعون على صفحات جريدة أوروك الجريدة المركزية لوزارة الثقافة والسياحة والآثار في عددها (82) الذي يصدر صباح يوم غدا الثلاثاء 29/5/2023 مقالي بعنوان الشعر هو الآن شجرة الحياة تأملات في ديوان (الهبوط إلى برج القوس) للشاعر والناقد د. حاتم الصكر
قراءة ممتعة اتمناها لكم
الشعر هو الآن شجرة الحياة
تأملات في ديوان (الهبوط إلى برج القوس)
للشاعر حاتم الصكر
ناظم ناصر القريشي
“كل الفنون هي سير ذاتية، واللؤلؤة هي السيرة الذاتية للمحارة” فريديركو فيلليني
هل الشعر هو نشوة الحضور في الحياة ذاتها …؟، أم هو بعداً أخر نحيا فيه بنشوة الشعر…؟
في محاولة لتجسيد الحياة كفكرة في فن الشعر، نتبع كلمات الشاعر حاتم الصكر في زمن مضى، لكن هي امامنا الان في مضارع ديوانه (الهبوط إلى برج القوس) الصادر عن دار أرومه للدراسات والترجمة والنشر عام 2020، فالشعر هو الآن، ولهذا فأن هذا الديوان بفكرته الأسمى هو للتأمل، فهو أشبه بفلم شجرة الحياة للمخرج تيرينس مالك، وربما تراوده بعض خواطر الزمن من أوديسا الفضاء، فالشاعر حاتم الصكر يبدأ بإيراد متسعات أدبيه داله، كأنه يؤكد فكرة قد أمن بها سابقاً، فهذا التكثيف الفكري المتسع بصيغة الشعر، بصوره المتوالية، وأفكاره المتوازية، كأنه قوه سحرية تستدعي روح الشعر، أو تعويذه ألقيت على الكلمات، سنرها تنمو وتتمرد وتتوسع وتتشكل في قصائد الديوان
وفي البدء سنجد أن العنوان والذي هو بوابة الديوان، ولا نقول عتبه، هو ابتكارا جميل لحركة الفعل السينمائي في الشعر تصاحبه الموسيقى التصويرية المساندة لفعل الهبوط، الذي يمكنه إحداث نصاً أو أداءً لحياة قادمه، فالشاعر أستخدم الأداء الصوتي للكلمات والحركي للصورة الشعرية، وهذا ما يجعل المتلقي يتنبأ بما سيحدث اثناء الهبوط وبعده، وهذا ما تولده هذه الموسيقى، التي يسيطر عليها الإيقاع الجليل كأنه صادر من أعماق بعد أخر، فجملة العنوان احتوت مسارات الموسيقى في تفاصيلها الصغيرة.
سيره ذاتيه للشعر
ليبدأ الشاعر بعد ذلك بكتابه سيناريو الحياة تحت تأثير نشوة الشعر وإلهامه بإستحضار شخصياته الأثيره، فيكتب عنهم أو لهم بهندسة نقدية هي دائما في تماس مع الشعر، فيتمثل حضورهم البليغ والأثير بحيوية ، وعبر هذا الحضور الأيوني (والشعر هو الحالة الأيونية للكلمات ) إنطوت وتجلت متوالية أفكار الشاعر الدرامية المليئة بالشعر والإنسانية و العمق العاطفي ، و سنرى أفكار أخرى موازية لهذه الفكرة في بورتريهاته التي سيرسمها لحقاً بصيغة الشعر ، وسنجد أن الشاعر وعمله قد اندمجا في الرؤيا ، فيرتل الغياب في مقام الحضور ، فتتوهج شجرة الشعر وتورق تمرداً قلقا ،فيكتب عن المتنبي، والمتمرد رامبو، والمبتكر السياب، والمتحول أدونيس، وعبد العزيز المقالح، وأمجد ناصر، وحسب الشيخ جعفر :
• المتنبي
الشعر
كتابك إلى هذا العالم
• عابراً فضاءه (على قلق) وفوق حصان الريح-
ملوكه يحاصرون خطاك
ونساؤه
وشعراؤه
وصيارفته
أكنتَ- في طفولةِ اللهب تسوِّي من طين الفرات أحلاماً-
ثم تسقيها دماً ودمعاً
جلجامش الذي لا يغيب
وعبر مشاهد ملحمية يدون الشاعر عذابه السومري ولهفته للارتواء، وهذا العذب الذي سيسري ويتكرر بين الفواصل والصور، كأنه موسيقى لروحه وما يذهب إليه فيض الكلام، فأيامه كالحصى وجسده ليس فيه متسع لجرح، ثم تبزغ هذه الصورة السريالية المرعبة و التي جسدت قساوة الواقع ومزجت التشبيه بالاستعارة في مجاز من اللهاث والموت، فالطائرات تعوي كذئاب جائعة، فيلجأ الى جلجامش وملحمته التي هي كأقتران السر بحجب المثال، فيقتسم معه أرغفة الخبز المتيبسة، وحين يستيقظ ، يجد أن الحية قد سرقت عشبته ، فهل هو قدره المكتوب عليه دوما ولا يزال في تكراراً تراجيدياً لدائرة الحياة ، فكأنما ما حدث سابقا يحدث الان، ربما كانت الحية في الملحمة الأولى حقيقيه لكنها في الملحمة الثانية هي رمز يوحي الى ما يوحي اليه ، فيقول الشاعر في قصيدة المعذب السومري:
إنه لم يمت عطشاً
لكنه لم يرتو بعد
أيامه كالحصى
وجسده ليس فيه متسع لجرح
يلجأ إلى زقورة أور
تلاحقه الطائرات (الحليفة)
تعوي كذئاب جائعة
يغفو
فيقتسم مع جلجامش أرغفة الخبز المتيبسة
وإذ يستيقظ
يجد الحية قد سرقت عشبته
فن التشكيل الشعري
ثم يبدأ الشاعر حاتم الصكر بتحويل النسقِ الشعري الى الفن التشكيلي ، ويتمثل فكرة الرسم ، فيرسم بورتريهات شعرية بلغة تشكيلية ، و سترافقها الموسيقى أيضا كالحلم الممتد على قوس الكمان ليهبط نغمات على رقة مفاتيح العاج الأبيض في البيانو ،وليمرر الفكرة الى المفاتيح السوداء بنشوة الحضور وانتشاء النغمات التي تتصاعد كهوامش على حاشية المعنى، بينما الشاعر مستغرقا في تشكيله ، فالكمان يتكلم عن الحلم و البيانو يحقق حضوره في الكلمات ، هكذا تنمو الموسيقى كشجرة من الأحلام عسى وان تتحقق وهي تمر عبر الكلمات التي رسمت البورتريهات ففي اللوحة الأولى، يرسم الشاعر حزن المرأة على بعلها، وهي تحوك صوف الانتظار، ونظراتها في الريح ومع الريح تمضي موسيقى الصمت الحزين ، وفي اللوحة الثانية يكتب عن و الى الشاعر عبد الرزاق الربيعي ،فيرسم خُطى جلجامش الباحث عن الخلود وهو يعبر نهراً لا مرئياً يجري في صحراء وحدته :
خُطى جلجامش
(إلى الشاعر: عبد الرزاق الربيعي.. وعنه)
إذ يمشي
يتخيل أنه يعبر نهراً لا مرئياً
بخطى جلجامش المضاعفة
ولحيته العنكبوتية تؤطر وجهه الحزين
تنيرها في الليل قصيدة
يلم في أول الصباح
رمادها، عن البساط الوحيد في غرفته
فتصعد بصعوبة بالغة إلى فمه المحاصر
بالحزن وسواد لحيته الكثة
فيضيع نصفها في الطريق إلى قامته
ويمشي متوقياً أسماكاً ميتة
في نهر لا مرئي يجري في صحراء وحدته
وفي قصيدة موت معلم العربية، وهي الجزء الثاني من المراثي اللابثة في فضاء النص، سنجد أن الشاعر الصكر استعاد مشاعره تحت الانطباعات القوية للوحات بيكاسو في مرحلته الزرقاء، فهو إدار المشهد بتصدير شعور الضيق، والقلق، والتوتر والحزن، واكتشاف فكرة الشعور بالموت التي طورها على شكل الكلمات مرسومة في القصيدة، فهي رغم بساطتها لكنها حاد وقاسية، وكل ما بقي منها كان صدى لحياة مرة قبل لحظات كما يشير الى ذلك الحس المرافق للكلمات وهنا تصبح القصيدة أكثر قتامة، يغلفها اللون الأزرق، و يرافقها موسيقى زرقاء لعازف قيثار عجوز :
.. الرجل
مات
يداه (مضمومتان)
وقامته (منصوبة)
ورجلاه (مكسورتان)
أما القلب
فكان (ساكناً)
.. مقيداً إلى قفصه الصدري..
.. في المساء
القبر وحده كان (مفتوحاً)
وكل شيء
خلف نقطة النهاية..
(ساكن) بلا حراك
ابتكار الميثولوجيا
وفي قصيدة الهبوط الى برج القوس، سنجد هذا التحول والولوج، من الفراغ الى التكوين ثم الوجود فعلاً وشكلاً، ربما الشاعر يؤمن بالأساطير فابتكر ميثولوجيا مختزله ومكثفة، وأدرك المستحدث من فتنتها وجعل منها حيزاً للحكاية، تحكي فرضية نشأته، مع تأثير عاطفي ودرامي يتلاءم مع الدخول الى المجهول في الحياة، فالحياة مخيفة وغريبة ولكنها مليئة بالأشياء، فلكل شخص أسطورته، وهذه هي الشيفرة الشعرية ،الساحرة والآسرة التي أستودعها الشاعر في قصيدته ، وكثف بها المعاني ، كأنها تكرار لا ينتهي فهي العودة إلى ميلادي مرة أخرى:
الهبوط.. إلى برج القوس
]إلى ميلادي مرة أخرى [
صباحاً طلعتُ
متشبثاً بمشيمة فلاّحة
هبطت بها من بغداد
الباصات الخشبية
وقحط المزارع
والجراد
على حدّ عام يحتضر
كما لو كنتُ أنتظر صمت المدافع
وانتصاف القرن
واكتمال الأولاد الخمسة
قبل أن يصبحوا دزينة فقراء
هكذا
– والمطر يغرق الشوارع
ويزيد كانون الأول برداً وشحوباً
طلعت صباحاً
نحيفاً.. كعصفور شوكي
لأسكن برج القوس المكسور دائماً
ولكن.. أمام الصفوف
في طوابير الصباح المعذّب بالنعاس والجوع
والبرد
ويختتم الشاعر حاتم الصكر ديوانه الهبوط الى برج القوس كما بدأه بمتسعات ادبيه داله أيضاً، وبيان ختامي يؤكد فيه أن الشعر هو ترميم للحياة، ورغم إن الشاعر في هذه المجموعة ممتلىء دون شك بالألم والشعور بالفقد، فأنه خاض الشعر والحياة بقدسية المحارب الباحث عن سر الاسرار، فرفع جملته الشعرية عالياً للبحث عن الخلاص، وهو يرقب هذا الكون
قد يكون رسمًا توضيحيًا لـ ‏‏‏٣‏ أشخاص‏ و‏نص‏‏
كل التفاعلات:

Mohammed A. Shyaa، وNadia Aldulaimy و٤٩ شخصًا آخر

٤٥
أعجبني

 

تعليق
مشاركة
عرض مزيد من التعليقات

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*