ندوة عن مئوية نازك في معرض الرباط للكتاب2023

نازك الملائكة : في النفور من تناظر المنزل والبيت الشعري

مساهمتي في مئوية نازك ضمن فعاليات معرض الرباط الدولي ،

منشورة بعد تحريرها في صفحة آداب وفنون في العدد الأسبوعي

لجريدة القدس العربي.

الأحد.2/7/2023

ترتبط مناسبة الاحتفاء بميلاد نازك الملائكة بميلاد حركة الشعر الحر، وكذلك نقده، لكونها قدمت كثيراً من المفاهيم حول هذا الشعر الذي لم يبتعد كثيراً عن العروض العربي، كما تصرّ وتؤكد. وشخّصت ماعدّته خللاً أو سلبياتٍ في النماذج التي كُتبت بعد قصيدتها، وقصائد السياب الذي كان الأشد أثراً في هذه الكتابة التي ظلت في سياق التجديد الذي يبقي على القديم، ولكن بتغيير- أو ترميم – ما يتطلب إصلاحاً وتغييراً، دون المساس بالهيكل العام أو الأسس التي يقوم عليها القديم.
وكذلك يمهّد لمرحة (التحديث) التي تقوم على الهدم والبناء المغاير المنقلب على ما راهن الكتابة الشعرية شكلاً ورؤية وإيقاعاً. وهو ما تكفلته الموجات التالية في الكتابة الشعرية العربية، والمتمثلة بوضوح في قصيدة النثر.
في حرارة بداياتها الأربعينية تملكت نازك فكرتان، كانتا وراء اندفاعها اللامحدود للشعر الحر، وهما:

الأولى: قناعتها بأن اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية، استعارةً من برنارد شو.

والثانية: من سياق حياتها التي وصفتها بالقول «حياتي صيرورة لا توقف لها. وهذا يضيء إصرارها على التجديد، ويهيئنا لفترة التراجع الثانية التي عادت بها لما قبل شعرها الحر. وهو ارتداد واضح في القناعات النقدية والكتابة الشعرية معاً.
فالصيرورة تقتضي التحول الدائم، لا سيما وقد حصرت نازك تلك الصيرورة في عدم التوقف، وإن جاءت أحياناً بشكل صحوة تستكمل ما بدأته. وأنا أشير هنا لما كتبته عام 1974 مقدمةً لديوانها «للصلاة والثورة»، حيث أعلنت مجدداً رفضها للشكلية الصارمة في نظام الشطرين، وذكرت أشياء موضوعية تعدها مما يعرقل حركة الشعر الحر، ثم تنص دفاعا عن مشروعها بالقول إن الشعر الحر بكونه شكلاً جديداً جميلاً غير مسؤول عن ضعف بعض شعرائه، وتنوّه بأهمية أن تكون لغة الشعر لغة العصر. فكأنما هي نازك الفتاة التي تقتعد سطح المنزل، وتهرب من تناظر حجراته وعمارته، وتهرب في طريق تمردها وصيرورتها من تناظر البيت الخليلي المنشطر إلى شطرين متساويين، مقفلين بقفل واحد هو القافية.
وقد قارن النقاد بين ما قالته في مقدمتها النارية لديوانها «شظايا ورماد» وما كتبته من بعد، وهو ينسف كل المقولات والقناعات التجديدية الأولى. وهذا ما لم يحصل في تجربة بدر شاكر السياب الذي تُنازعه الأولوية وتذكّر دوما بتاريخ (الكوليرا) قصيدتها الحرة الأولى. لكنها تصحو في لحظة نقدية لاحقة، فتكتب في إحدى رسائلها إلى عيسى الناعوري: «إن قضية الأولوية قضية تافهة.

وأحسب أنها تنصلت عن المنافحة بالأولوية بسبب ما أثبته النقاد ومؤرخو التطور في الكتابة الشعرية من أن السياب كان أكثر وعياً بما يفعل حين كتب قصيدته الحرة الأولى، وتبنّاها شكلاً وإيقاعاً، ينما كانت نازك تضع هامشاً لقصيدتها الحرة الأولى (الكوليرا) تعلن فيه بأن ضرورة التعبير أو الانفعال ألجأتها إلى ذلك. وتستخدم الفعل (دفعتني) أو (اضطرتني) لوصف شرارة كتابتها الأولى. ومن هنا اختلف اتجاهها عن السياب، فهو يتمسك بالتجربة ويستمر في تطويرها، فيما تتوقف نازك ثم تتراجع.
وفي حديثها عن المحاولات السابقة على التجربة العراقية التي دشنتها وراهنت على أن (الكوليرا) ستغير خارطة الشعر العربي، تصف تلك المحاولات بعدم الاكتمال والاطّراد. والطريف أن ذلك يمكن أن يحضر في سياق تقييم تجربتها التي لم تطّرد، وتوقفت، مسقطةً ذلك التوقف من بعد على الشعر الحر كله. فكتبت: إن حركة أو موجة الشعر الحر سوف تتوقف في يوم غير بعيد! مستدركةً بالقول «لكنها لن تموت ، لقد ألقت نازك حجرا في نهر الشعرية المتجمد، وتبنّت النظم على غير منوال.

لكنها فزعت من شدة السَّورة وحركة النهر العارمة بعد سكون، فدعت للتريث وعدم الاندفاع، متناسية أنها فتحت باباً للكتابة، لا يمكن أن ينغلق في وجه الرياح الجديدة، ولا يحدد رؤى الشعراء ومطامحهم.
وبذلك تمثل نازك نموذجا لطموح المحاولات التجديدية العربية وحدودها، وتخوفها من الانطلاق والمغامرة، وتجنب الاصطدام التام والصريح بالأعراف المتوارثة جذرياً. وفي عدم تكتلها مع السياب وشعراء جيله حول التجديد، مثال آخر على أزمات ذاتية، عانت منها حركات ودعوات التجديد العربية. ومن ملامح الأزمة أيضاً اضطراب المصطلح وتعارضه مع المفاهيم المرادة منه. فقد تمسكت نازك بمصطلح (الشعر الحر)، مع علمها بأنه نوع شعري مختلف عن الشعر متعدد التفعيلات والقوافي الذي كتبته هي وشعراء التجديد.

حين ألقت نازك ذلك الحجر في نهر الشعرية المتجمد، راقبت الموجة بخوف من إغراقها لما وقر في نفسها من قيم عروضية في المقام الأول، فما كان مفاجئاً توقفها وارتدادها إلى الأشكال الشعرية التي ثارت عليها في العقد الأول من عمرها الشعري. ها هي تشكو في إحدى رسائلها المؤرخة في1/12 /53 من «أن (موجة) الشعر الحر ابتعدت عن الغاية التي كنت أنا أهدف إليها يوم ناديت به أول مرة سنة 1949». إن استخدامها مفردة (الموجة) يؤكد رأينا بخوفها من اتساع التجديد، وأن ردّتها أو احتجاجها ليس بسبب ضعف النماذج الأولى أو اندفاع الشعراء في ركوب الموجة دون فهم لجوهر دعوتها، كما تكرر في كتاباتها المتأخرة.

لقد كان الهروب من التناظر في طراز العمارة وبناء البيت البغدادي سبب توجه نازك لتغيير شكل القصيدة البيتي المقفى، وهي ظاهرة جمالية حريَّة بالدرس الثقافي. تقول نازك: «وإذ أنظر إلى الماضي أحس أنني إنما ثرت على طريقة الشطرين الخليلية، نفوراً من المنزل المتناظر الذي يتطابق جانباه تمام التطابق. كنت أستشعر ضيقاً شديداً بنظام البيوت في بغداد. ولم يخطر على بالي أنني إنما دعوت تلك الدعوة الحارة إلى إقامة الشعر على أشطر غير متساوية، تفعيلاتها غير متناسقة في العدد، لأنني أنفر من التناظر وأتعطش إلى هدمه والثورة عليه.

وهنا نتذكر واقعة سياقية تكمل مسألة الهروب من تناظر المنزل والبيت الشعري بالضرورة، فقد كتبت قصيدة (الكوليرا) وهي مستوحدة على سطح المنزل، وليس في غرفتها داخل البيت. حينها مرضت مصر بالكوليرا، فتعافت القصيدة العربية من النظم والهندسة البيتية والتقفية الموحدة، كنغم خارجي صارخ، يشير لبقايا مرحلة الشفاهية الشعرية كتابة وتلقياً. ولكن يجدر بنا ملاحظة تأثر تجربة نازك الأولى بقراءاتها للشعر الأجنبي، وأنها كتبت قصيدتها الحرة الأولى «متتبعة أسلوب الشعر الإنكليزي مباشرة». ونضع في اعتبارنا أنها تقصد الأشعار التي كتبها الرومانسيون وشعراء البحيرات وسواهم ممن قصرت قراءاتها عليهم.

ولعل من أبرز مظاهر ذلك التأثر إكثارها من الهوامش والشروح التي لا يخلو منها أغلب شعرها. بل تقتحم الدلالة وتقمع تأويل القارئ ومتعته حين تفسر المقصود بالرموز والإشارات التي ترد في نصوصها، وتضع المقدمات المطولة لدواوينها، حتى في فترة نكوصها عن مشروع التجديد. وثمة سياق شخصي يرد في تقييم تجربتها ويتعلق بفكرتها عن الالتزام الديني، وضيقها بالإجابات التي تصلها جاهزة، وهي المحمومة بالسؤال والقلق، والتفكير بالمصير الإنساني والوجود. فتصرح في إحدى رسائلها بأنها لم تكن متدينة «لأن عوامل كثيرة قد تجمعت في حياتي وشككتني في وجود خالق مهيمن لهذه الخليقة، فنشأ في أعماق نفسي فراغ فاغر رهيب لا يملؤه شيء». ثم تعود في الرسالة نفسها – وهي مكتوبة مطلع عام -1978- للقول إن ذلك القلق والشك والحيرة التي دامت بين أعوام 1958 و1955انتهت بالإيمان بالله إيماناً كاملاً.

أما في حياة نازك ناقدةً فسنجد الكثير ليُدرس، كاهتمامها النقدي بظواهر بلاغية وأسلوبية محددة كالتكرار، وانتباهها لشعرية أشكال مهمشة كالبند القائم على الاستمرارية الرجزية والسطرية، وكذلك توقفها الطويل عند التلقي وموقف الجمهور من التجديد وأسباب رفضه لما لا يتفق مع مخزونه النصي مما قرأه من قبل، وتركيزها على الهيكل البنائي كما أسمته وصنّفته في أنواع رصدتها عبر استقراء الظاهرة في أشعار معاصريها، واهتمامها بموجهات القراءة؛ كالعنونة والاستهلال والخاتمة في القصيدة، وبالأخص الشكل الخطي والهيئة التي يظهر بها النص مكتوباً. ويظهر ذلك واضحا في كتابها «الصومعة والشرفة الحمراء» حول شعر علي محمود طه، حيث درست تلك الموجهات أو العتبات النصيّة، دون التنظير المصطلحي لها بهذا الوصف الذي سيأتينا لاحقاً مع التعرف إلى أسس نظرية القراءة والتقبل الألمانية.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*