رسائل لم يحملها ساعي البريد

 

مجلة الشارقة -عدد -تموز-يوليو-2023

رسائل لم يحملها ساعي البريد

 

تقوم تقنية الرسائل افتراضياً على وجود مرسِل ومستقبِل.وتتوقع القراءة وجود إجابات تضيء مغزى الرسالة.وقد شهد الأدب العربي كثيراً من الرسائل المتبادلة بين طرفين ، اشتهرت منها رسائل محمود درويش وسميح القاسم .وقد دخلت الرسالة بكونها تنويعا على السيرة الذاتية وإحدى الكيفيات الممكنة للتعرف على جوانب سيرية ،يبوح بها المرسل أو يعرض آراءه فيها.فلا تعود الرسالة تقليدية أـو مناسباتية عابرة، بل تتمركز في الدلالة السيرية ،وتقدم جوانب من حياة الشخص المرسل وتتعداه إلى جوانب من حياة المخاطَب .

لكن الشاعرة والأكاديمية الجزائرية راوية يحياوي لها موقف من ستراتيجيات المراسلة ، رغم ملاحظتها أن الرسالة ((جنس أدبي هامشي.لكن..لها حمولاتها..وأنها تناجي مواجيد الذات في الآخر البعيد والقريب في الوقت نفسه..)).

لكن هاجس الرسالة جعلها تكتب رسائل من طرف واحد.وهذا امتيازها الأول أو اختلافها.

فهي تبعث رسائل لا تعوّل على توصيلها تقليدياً ، بل تشرك القارئ في مضمونها ودلالاتها ، وتقاسمه عواطفها وهواجسها وذكرياتها ووصف الشخصيات والأمكنة والطبائع والأحداث والوقائع.

أما الامتياز الثاني فهو اقتصارها على أفراد أسرتها  ، يساعدها في ذلك التعريف بشخصياتهم . وشعوراً منها بأسَريّة الجو السيري في كتابها، تصيبها عدوى الرسائل، فتكتب رسالة إلي نفسها في السياق السردي ذاته الذي اتبعته في مخاطبة  والديها وأخواتها وإخوانها وابنها وزوجها.. تلك الرسائل  التي لم يحملها ساعي البريد لا تريد – الرسائل/الكاتبة،  عمدأ وتخطيطاً ألا يحملها ، لتكتسب قوة دلالتها من عرضها للقراءة ،هكذا في عراء صادق للمشاعر، بمعنى تسجيل الدفقة الشعورية حول المرسَل إليه /المخاطَب ، مازجة التذكرات واسترجاعات العيش والحميمية والنشأة ، بالبلاغة المطلوبة في التأثير والتوصيل غير التقريري.وهنا تحضر أدوات شعرية تنتقل من تجربة المؤلفة في الكتابة الشعرية ، لتزيد تلك الرسائل خصوصية وشمولاً في الآن نفسه: خصوصية بما تكتنزه للشخص المخاطَب من عاطفة، وشمولية لأنها تعني القارئ أيضا. فيتعرف على الطبائع والأفكار والوشائج والاختلافات كلها بجانب صلتها بالمرسلة أو منشئِة الرسالة ، ولكن بشكل يقترض من الشعر بلاغة العبارة ، واللجوء للخيال بدرجة كافية لردِّ الحديث إلى الخزين الشعوري الباحث عن تجسداته في شكل استرسال وتداعيات حرة، تتخللها التمثيلات المؤثرة .لا لتقريب الفكرة فحسب، بل لإيصالها مغلفة بأدبية واضحة…

بهذا السياق تكتسب رسائل راوية يحياوي لذويها أهمية في معاينة الكِسَر أو المفردات السيرية.فهي حاضرة في سرد المواقف الخاصة بالمخاطَب .فوجود الآخرين يمر من خلال ذاكرتها التي تقوم بتشيئة وجودهم وصورهم ، وجعْلها عيانية وماثلة للتصور لتنقلها للقارئ  الذي ستصله في بنية سردية سيرية.وذلك يتم بتوجيه الكاتبة في استهلالها الذي أسمته(بيان الرسائل)، وتعرضت فيه لدوافع الكتابة وغرضها، معترفةً بالصعاب التي تكتنف كل كتابة سيرية ذاتية أو محايثة لها.وأعني هنا الصدق والحقيقة الكاملة.فتقول إن الرسائل (( تنقل تخوم الجماعة التي أنتمي إليها، والزمن المحدد الذي أحياه بوعي مختلف، من خلال أشخاص مختلفين في المنظورات ومتشاركين في المحبة والهواجس..)). وكانت قبل ذلك قد نوهت بنقطة بالغة الأهمية بقولها((كتبت كل رسائلي، ولكني لم أكتب كل شيء.فقط بعض الحقيقة، وربع تجربة، وخمس الوعي، وكم أسرفت في فعل التذكر، ومتى استراحت ذاكرتي، أيقظت قلبي المكتظ حتى يقول)).

وإذا تجاوزنا دلالة  مجاز القياسات والمقادير حول كمية الحقيقة والوعي والتجربة، فإننا نعثر على اعتراف، كثيراً ما يتجاهله بعض كتاب السيرة الذاتية ومحايثاتها .فهم يزعمون الحقيقة والاكتمال في ما يسردون. بهذا صار لبيان الرسائل قيمة يكتسبها من دوره كعتبة أو موجِّه قرائي، يعضد ما يحمل العنوان من دلالة. كون الرسائل لم تصل إلى أصحابها.فكانت ضرباً من البوح الذاتي. وعائديته للكاتبة لا جدال حوله فهي العنصر الناقل او السارد لوجهات النظر.وهي تستل كل ذلك من ذاكرتها كمعايشة لما تسرد، ومن (القلب) حيث مركز المحبة لتلك الأسماء التي وجهت لها الرسائل.

وبقوة الانزياح في العنوان  من سياق الرسالة التقليدي ، فإن الكاتبة أكدت انتماء رسائلها للسيرة كجنس غامض وملتبس كما يصفه   فيليب لوجون عرّاب الفن السير ذاتي. ثم عادت لتؤكده في ما تضع من عبارات قصيرة أقرب للشعر المركَّز أو المكثف .في استهلال رسالتها لأخيها سعد تكتب:((وأنت تمشي إلى الأمام/تمر على خلفك/دون أن تشبهه)).فتجعل القارئ يرفع مجازات القراءة أيضاص وتصوراتها  ليصل إلى الدلالة وراء- أو بين- تلك الكلمات.

وفي ثنايا الرسالة لإخوتها وإخوانها نتعرف إلى سياقات ولاداتهم في كنف أسرة كبيرة.وما يتميزون به كما حفظت ذاكرتها.وحين تكتب إلى نفسها يشتد تيار البوح وتستجلي رؤيتها لذاتها..وتهفو لتكتب ((رسالة تقولني))…متساءلة عن قدرتها على فهم((كل فيوضات السلالة، وكل بهجة بيتنا العتيق، ونحن نستقبل كل عام مولوداً جديداً، وهكذا تكون بنات بيتنا أمهات قبل الوقت، وكن

Quotidien ANNASR

ت أماً رؤوماً للذكور الذين أتوا بعدي)).وذاك ينم عن وعي جندري خلفته تلك المهمة المسندة لها في بيت مزدحم بالأيناء .. دعوة أمها لها كي تنجز أشغال البيت الروتينية المنوطة بها كأنثى،

كالكنس والطبخ تجعلها تأسف لأن ذلك يأخذها من كتبها وقراءاتها. لكنها تجد الطريق الخاص بها وسط ذلك: مكتبة الوالد التي ستتربى على ما فيها من كتابات وجهت حياتها صوب ما ستؤول إليه وهي تدخل الجامعة وتتعرف إلى الشريك ((بعمقه الصامت وبساطته الكبيرة)) كما تصفه . ويمر  طيفاً وظلا في الرسائل والحياة. وتكون الرسالة المكتوبة له ختاماً للرسائل.

أما الوالدان فقد تقدما الجميع:الأم أولاً. هي التي(( ليس في الجبّة إلاها)).والأب الذي تسميه ((معلمي الأول)).وفي كل رسالة نتسلم أحداثاً مستلة من حياة من تكتب لهم . تخاطبهم.لكنها لا تستغرق في ذلك. وتوزان بين رؤيتها وما وقر في ذاكرتها ، وما جرى في الواقع .

لا تخفي ا لكاتبة – كما يفعل بعض كاتبي السير الذاتية- أية خيبات.الأخت التي لا تكمل دراستها و تتأخر في الإنجاب.ومن خلالها تتعرض لمعاناة النساء.(( فالتاء المربوطة تربط أقدارنا نحن النساء.والخوف كبَّل التاء)). بمثل هذا البوح تلغي ما يشيع من تحسين السير بالتعديلات اللاحقة.ها هي تستعرض ما يجري للعائلة من ظرف.تستعيد مثلاً ما حصل لإحدى الأخوات إثر زلزال ضرب مدن الشمال الجزائري فخرجت للمجهول وآثرت الهجرة والاغتراب.

في ختام رسالتها لأخيها سامي توسع مقولة بارت عن الشخصيات التي تصبح في  المبنى السرد كائناتٍ ورقية.يصح من خلال ذلك الوصف أن يضاف أو يحذف أو يعدل محتواها.وربما قصدت الكاتبة ذلك .فتقول لأخيها((أصبحنا كائنات من ورق.لم أنطق إلا من خلالكم.هل هو القدر أن نحيا ثانيةً، ونمنح أنفسنا فسحة الأبدية داخل الرسالة، ونحن في أوج الحجْر؟).

هذه هي الرسالة تجتاز ما فرضه سياق كتابتها. وهو الحجْر الذي فرضته جائحة كورونا.فاستنجدت الكاتبة بذاكرتها وقلبها، لتمنح أسرتها هذه الحياة الورقية ، وتمزج السيرة الذاتية بالسيرة الغيرية .مستعيدة ما تسترجع من أحداث شخصية، ثم تمزجه بعاطفة تشف بكلام يقترض من الشعر عذوبته وكثافته ..

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*