أبارك للصديق العزيز الأستاذ الدكتور علي محمد ياسين صدور كتابه ( العيش على ضفاف الشعر- في الخطاب النقدي عند حاتم الصكَر) ، عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد..في شهر آب2023
وهو في الأصل رسالته للدكتوراه بعنوان: (خطاب نقد الشعر عند الدكتور حاتم الصكَر- دراسة في المرجعيات والمفاهيم والإجراء) التي أنجزها في كلية التربية بجامعة بابل، بإشراف الأستاذ الدكتور عبدالعظيم السلطاني عام 2013.
شكراً للدكتور علي ياسين لجهده المنهجي، ومابذله في بحثه من استقصاء وتشخيص وتركيب ، وللصديق الشاعر الدكتور عارف الساعدي مدير عام دار الشؤون الثقافية العامة لرعايته صدور الكتاب ضمن منشورات الدار.
أعيد هنا للاطلاع خاتمة دراسة الدكتور علي ياسين المتضمنة ما توصل إليه من استنتاجات ، قوامها الاستقراء من الكتابات النقدية في المؤلفات والدوريات والصحف .
– حاتم الصكر أحد وجوه المشهد الثقافي العربي والعراقي عشق المعرفة مبكّرا وتاق للمجهول في طفولته التي تجلّى في وعيه النقدي مكانُها الأول.
– تمدّدت اهتماماته واختياراته وتوسّعت من متابعة التحديث الشعري والمنافحة عنه إلى مسائل عديدة كالعناية بأدب الهوامش والسيرة الذاتيّة وتنويعاتها الممكنة، وانتهاء بنقد السرد العربي قديمه وحديثه، وبالنقد الفني التشكيلي.
– واكب الصكر لأكثر من ثلاثة عقود الدعوات الرامية إلى تحديث النقد العربي، وكان من المسهمين في صياغة مفاهيم وتصوّرات وإجراءات جديدة منفتحة على الآخر، واعية بحاضرها من غير تنكُّر للماضي، ممّا يمكن لهذه الدعوات وصياغاتها وإجراءاتها أن تشكّل خطابا لما تنطوي عليه من غايات ومقاصد ترمي إلى تغيير القناعات والمفاهيم والتصوّرات والإجراءات النقديّة السائدة.
– كان منجَز الصكر في نقد الشعر العربي الأكثرَ حفاوة بالإبداع الشعري ضمن المدوّنة النقديّة العراقيّة الحديثة أجمع، مثلما هو الأكثر حضورا وتأثيرا فيها منذ ثمانينيّات القرن الماضي ضمن جيل من النقّاد اصطفوا لتكريس النزعة النصوصيّة كردّ فعل على النقد المضموني المتّجه لإعلاء موضوعات النصوص، وعلى المنهج الحياتي المستمَد من أخبار تخصّ حياة الكاتب مرتَكزاً للحكم على نصوصه. وما كان لهذا التوجّه النصّي أن يحقق نجاحا ما لم يرتكز إلى مزاج ثقافي شكّلته مرجعيّات معرفيّة أسهمت في صياغته فكريّا، وإبداعيّا.
– تنوّعت مرجعيّات الصكر المعرفيّة وتعدّدت من غير أن تتّكل على مرجعيّة واحدة جاهزة النماذج، وهو ما جعل علاقة الصكر بالتراث النقدي والشعري أول روافد هذه المرجعيّات علاقة شفافة، وليست بالواهيّة.
– أمّا مرجعيّة الآخر فقد كانت تأسيسا معرفيّا لازماً، اقتضته رغبة تحويل اتجاه النقد الأدبي من مساره التقليدي المغلق إلى مسار معرفي منفتح في إطار دعوة الصكر ومجايليه من النقّاد العرب والعراقيين لتحقيق هذا التحويل ،عبر تقوية روابط النقد الأدبي العراقي بالأسس المعرفيّة والأصول الفكريّة والفلسفيّة الحديثة القادرة على مدّ الفكر النقدي بمفاهيم وتصورات وإجراءات مغايرة، لكن من غير أن تصل هذه الدعوة درجة الانسلاخ الحضاري، إذ بقيت في إطار يحفظ لها خصوصيّتها المحليّة والقوميّة، ويهيء لها مستلزمات القوة لمحاورة الآخر وتكييف معارفه بما يلائم هذه الخصوصيّة.
– إنّ رغبة الحوار المتعدد الجسور مع الآخر أكّدت أصالة الغاية عند حاتم الصكر – فكريّا وإبداعيّا – بمراعاتها الشروط الذاتيّة، وتطلّعها – في آن – لآفاق مستقبل نقدي عربي مزدهر بانفتاحه على توصّلات الآخر وتوسّلاته العلميّة التي أشارت درجة تمثّلها المعرفي عند الناقد إلى وجود أربع مرجعيّات سوسيولوجيّة، وفلسفيّة، ولغويّة، ونفسيّة، اختلفت مديات حضورها في متنه النقدي. فإذا كانت المرجعيّة السوسيولوجيّة بوصلة وجّهت الناقد في بداية مشواره النقدي، فإنّ المرجعيتين، الفلسفيّة واللغويّة، كانتا أشبه بالإطار العام أو الخلفيّة التي تحرّك توجّهات الناقد واختياراته، في حين كانت المرجعيّة النفسيّة أقل المرجعيّات حضورا أسوة ببقيّة النقّاد العراقيين في تمثّلهم المعرفي المحتشم لهذه المرجعيّة.
– في مفهومه للشعر وسّع الصكر من دائرة النصوص الشعريّة بتوسيعه مفهوم الشعر ذاته دون اكتراث لشرطي الوزن والقافية، فالشعر يوجد حيث يوجد أثره في النفوس، لا بانتمائه جنسا أدبيّا إلى أعراف وتقاليد وقيم فنيّة راسخة وثابتة، لتتعدّد بذلك اختياراته النقديّة وصولا إلى عبارات الصوفيين وإشاراتهم التي درسها على أنّها شعر لما تتركه من الأثر الذي يعوّل عليه الناقد أكثر من تعويله على القصد، مفترقا بذلك عن النظريّة السائدة التي كان عليها كثير من النقّاد .
– لم يحدد الصكر للشعر تعريفا، لكنه ظلّ مستثارا بما ينهض به هذا الفن من هيأة وتشكّلات دلاليّة وفنيّة تجسّدها القصائد التي فرّق الصكر بينها وبين الشعر الذي عدّه خطابا له عناصره ورؤاه. أمّا القصيدة فهي مظهر نصّيٌّ متجلٍّ عن ذلك الخطاب، فيما آمن بوجود إيقاع داخلي هو: ( إيقاع الفكرة )الذي تشتمل عليه قصيدة النثر خصوصا، وهو إيقاع يختلف عن إيقاع الشعر التقليدي .
– دعا الصكر إلى تخليص لغة الشعر العربي من النزعة الخطابيّة المتجسّدة في الإنشاد، وحاول تنقية هذه اللغة من كلّ ما علق بها من مظاهر واستخدامات جاهزة تجاوزها العصر، انطلاقا من وعيه لقيمة الكلمة في مغامرة الشعر الحديث، ولدورها وأهميّتها في سياقها الشعري الذي تُوظّف فيه. ودافع عن التجديد في الشعر مؤمنا بحتميّته، بوصفه تجاوزا للقديم الذي استهلكت طاقته في قوالب موروثة لا تستوعب رؤيا الشاعر الحديث ومغامرته الحداثيّة القائمة على تغيّر الرؤيا؛ مركّزا بذلك على نماذج وأشكال شعريّة غيّرت طريقة الوعي بالشعر، والوعي بتلقّيه أيضا، أمّا هذه النماذج فهي شعر الرواد، وقصيدة النثر في مرحلتها الأولى، وفي الجيل الحالي من كتّابها ؛ لأنّ هذا الجيل شاهدٌ حيّ على التحوّلات الجماليّة والفنيّة في القصيدة العربيّة، دون أن يعني هذا أنّ مفهوم الحداثة مرتبط عند الصكر بالزمنيّة؛ لأن حداثة الصكر هي حداثة لها اشتراطات فنيّة أكثر ممّا لها دلالة زمانيّة.
– لم يولِ الصكر اهتماماً بمنهج نقدي ما على حساب آخر، ولم يغلّب منهجا على منهج، وإنّما ترك الكلمة الفصل في ذلك إلى طبيعة النص الشعري تتحكم في الاختيار ،جانحا بذلك إلى تركيب منهجي متعدد الأبعاد، كان هو الاقرب الى موقفه النقدي، وإلى هاجسه الشخصي وحسّه الإشكالي الخاص بالمنهج، وقد صبّ هذا كلُّه في صالح رؤيته الحداثيّة واعتمادها مقياسا في حياة النص ونقده معاً، وهي رؤية منطلقة من موقف نقدي يستبعد وجود خطوة منهجيّة أخيرة، لأن هذه الخطوة إن وُجدت فإنّها ستُقوْلب الرؤية وتحجّم النشاط وتقتل الفاعلية النقديّة.
– قراءات الصكر مثّلت في تطبيقاتها وإجراءاتها مثالا للقراءة الواعية المدركة للكثير من الإشكالات المعاصرة، ووضعت تأسيساته النقديّة في منهج إجرائي يعمد الى قراءة حيّة واعية للنص الشعري من خلال توظيف آليّات الكشف والتحليل التي تمنح نصّه النقدي جدّة ومغايرة في آن واحد.
– وهو، وإن بدأ في الفترة المبكرة من شغله انطباعيا يبحث عن تشكلّات الحياة والواقع والفكر في النص الأدبي بما يناسب تواضع أدواته ومحدوديتها آنذاك، فقد عزّز رؤيته النصيّة ونزعته التحليليّة بما أتاحه اطلاعه على المنهج البنيوي أولا، ثم بانتقاله إلى ما تبنّته نظرية التلقي من دور القارئ في تشكيل وجود النص بالفعل بعد أن أوجده كاتبه بالقوة، وهو ما دعاه للذهاب في أقاصي النص وأبعاده وتناصاته من خلال ذاكرة قارئ محترف، يسلّط على النص وعيه وذخيرته النقديّة الخاصّة.