القصيدة تستجوب شاعرها-حول السيرة الشعرية

 

القصيدة تستجوب شاعرَها

حول السيرة الشعرية

 

1-

إذا كانت السيرة الشعرية هي أبرز تمددات النوع السيري ذاتياً أو غَيْرياً ،خارج النوع المعروف والمصرّح به ، فإن وجود القصيدة السيرذاتية  تظل به حاجة لبلورة مزاياه واشتراطاته الفنية، وأبعاده الجمالية وتلقّيه.

لقد دأبت الكتابة السيرية على إنجاز متونها الغيرية أولاً، مستقصية الآخر الذي يتوفر على منجز يجلب الاهتمام والتوثيق، وله تركة تستحق الإشادة . ستخفف تيارات ما بعد الحداثة شرط الشهرة والعظمة عن شخصيات السيرة بنوعيها.وانصاع لذلك حتى منظرو السيرة التقليديون مثل فيليب لوجون الذي رأى إمكان كتابة سيرة ذاتية عن شخص عادي أو يكتبها هو ذاتياً.وربما طالب عبر دفتر يومياته المدرسية.

تغيرت ستراتيجيات النص السيري  جمالياً ،من الفائدة التي تتحصل بالقراءة ، والتزود بدروس من حياة الكائن السيري،إلى المتعة  والغرابة والإثارة ،وبمؤثرات شعبوية جلبها نقاد مابعد الحداثة ،ممن تفرغوا  لدحض مقولات الحداثة وثوابتها .

وبأثر التركيز على التخييل في كتابة السيرة ، وانفتاحها على السرد جرى  التناص النوعي بينها والرواية.فظهرت روايات سيرية لا تعلن عن صنفها النوعي، ولكنها تستفيد أساساً من كِسَر ومفردات من حياة الروائي؛ لتندمج في البنية التخييلية للرواية ومنظورها السردي وشعريتها.

لقد جرى  تفتيت المادة  السيرية لتدوّن  سيرة الآخر، مكتوبةً من سواه في المتون السردية،فظهرت روايات تحكي حيوات متنوعة لمتصوفة وأبطال شعبيين وشعراء من التراث، لتكون سيرتهم مندرجة ضمن الرواية . ولتُغري من بعد كتّاب الرواية السيرية لتناول ذواتهم موضوعاً لرواياتهم.وفي تلك المسيرة النوعية تقطع السيرة أشواطاً كبيرة ؛لتصل إلى فرز تنويع مهم ونادر على هيئتها وستراتيجية كتابتها ، بالانتقال إلى السيرة الذاتية  الشعرية التي تشجع عليها تقنيات الكتابة الشعرية التي  انتقلت بعد الطور الملحمي ، وسرد الملحمة  الموضوعي الخارجي وبطولاتها الجماعية ، إلى الغنائية والالتفات إلى الذات الشاعرة ،ووجود أنا الشاعر في صلب المتن الشعري ، ثم تمثيله بأنا شعرية تحتويها القصيدة، وتركيبها اللغوي المعتمد على ضمير السرد الأول( أنا).وهو يتجاوز الأنا الغنائية التي أعلاها الرومانسيون وشددوا على الربط بينها  وبين الشاعربالعائدية اللغوية.وكأنهم بذلك ينقلون الشرط التقليدي القديم في كتابة السيرة حصرا بعائدية ضمير المتكلم على كاتب السيرة الذاتية.فلم يعجبهم مثلاً أن يكتب طه حسين بضمير الغائب أجزاء السيرة غير التامة التي ضمها كتابه (الأيام) .وقد عللوا ذلك بخشية طه حسين من عائدية الأفعال والأحداث صراحة إلئه بحكم ضمير الشخص المتكلم.

2-

في نموذج نوعي من السيرة هو السيرة الشعرية الذاتية، تتم الإشارة غالباً لقول أكتافيو باث في السطر الأول من تقديمه  لديوان فرناندو بيسوا (نشيد بحري) الذي ترجمه المهدي إخريف للعربية:  (( ليس للشعراء سيرذاتية.أشعارهم هي سيرهم )). إن باث بذلك ينفي عن كتابات الشعراء  النثرية لسيرهم  المصداقية الممكنة عن   حياتهم، والجمالية  اللازمة لتلك الكتابات السيرية النثرية.

ولكن النصوص وحدها دون استعانة سيرية خارج النص لاتبدو كافية.وهاهم نقاد السيرة يستذكرون ما يجري للشعراء خارج نصوصهم، لإضاءتها.

وقد حصل ذلك حين قمتُ بقراءة قصيدة محمود درويش الطويلة  (لماذا تركت الحصان وحيداً) ،بكونها تعرض ما عاشه في تجربة النزوح من بيته في فلسطين بعد الاحتلال الأول، ثم عودة أسرته في هجرة عكسية  للداخل الذي عاش فيه حتى كبر وعاود الرحيل عنه.

وقد انتبهتُ للموجهات التي وضعها درويش؛ كالإهداء الذي خصَّ به الغائبين من  أسرته.والأمكنة التي يذكرها بكونها((أيقونات من بلور المكان)والتي نبّه لها الناقد صبحي حديدي في كلمته على الغلاف الخارجي لطبعة الديوان.وقد أشرتُ لذلك كون الغلاف أيضاً يسهم في تشكيل القراءة اللاحقة للقصيدة.حيث يصف حديدي ذلك الوعي بالأمكنة  بأنه(( سيرة المكان حين تحتويه الجغرافية لكي ينبسط فيه التاريخ)). منبهاً للتعالق المكاني والزماني.كما صرح درويش بذلك لاحقاً في مقابلة مع عباس بيضون.ووصف القصيدة بأنها (شبه سيرة) ثم استدرك بوصفها ((سيرة ليست شخصية فحسب ،بل هي تحمل تاريخاً عاماً))..

وكذلك أشرتُ للتحولات   في قراءة( هذا هو اسمي) و(مفرد بصيغة الجمع) لأدونيس .مستعينا بهجراته وتحولاته..كما جرى نقد مؤلفه الشعري الضخم(الكتاب) الذي سجل فيه سيرة متخيلة غيرية للمتنبي..مدشناً نوعاً لم يكتب له الرواج واطراد النصوص في بابه.

ولما كان التخييل هو فضاء القصيدة السير ذاتية ، فإنه لا يسمح بظهور الوقائع والأفعال والمواقف والرؤى إلا في إطارها التخييلي الذي يقمع سرديتها السيرية لصالح صياغتها الشعرية، حيث تتقدم جماليات النوع المستضيف(=القصيدة) ، على جماليا النوع المستضاف( =السيرة الذاتية).

وتحضرني للاستدلال هنا قصيدة وديع سعادة الطويلة ( مقعد راكب غادر الباص)، حيث التوتر الفائق في العبارة يشي بضغط الزمن، وحرقة مغادرة الأمكنة، وبالعذابات التي مر بها  متشرداً ،مختزلاً محطاتها البالغة المرارة .وسريعاً مشيراً باختزال لموت والده محترقاً..

ولكن يظل لنا في  قصيدة السيرة أن نتمثل الكِسر المهربة والمفردات المتناثرة،

والراشحةعن المادة الأولى للسيرة، والتي تطالب القصيدة شاعرها بأن يسترسل فيها.

ويخيل إلي أن القصيدة تكون فاعلاً في حا ل الكتابة السيرية، مستعينة بميزات استرسالها وترابطها البنيوي. فضلاً  عن  أبرز ما يحتاجه الشاعر وهو التخييل .

هنا  لا تتحدد أنا الشاعر بذاته كما في الخطاب الرومانسي، بل يتحول إلى كائن سيري، حيث  أنا الشاعر تتقمص الكائن السيري المتحصل من ماضي السارد السيري وحاضره.

 

3-

تعهد نقاد الحداثة بتأصيل الصلة بين القصيدة والسيرة.إنها ضرب من استجواب شعوري فني، تمتحن فيه القصيدة شاعرها في تعامله مع زمنية سيرته ومكانتها ووقائعها وشخوصها.وهي كلها مزايا منقولة عن شعرية أو أنظمة تركيب السيرة الذاتية النثرية، ولكن في وعاء نوعي جديد هو الشعر بأعرافه وتقاليده وإيقاعاته ولغته وبلاغته. يتعين إذن التخلص من كثير مما يفرضه الشعر على بنية القصيدة. وتحريرها مما هو غنائي وإيقاعي ومعنوي، للحصول على هوية حداثية لقصيدة السيرة ، اتضح أن قصيدة النثر أكثر الأنواع الشعرية قدرة على تحقيقها باستيعابها للسرد ،وتخفيفها للإيقاع الغالب على الدلالات ، وتمكين الدلالة من أن تتخذ شكلاً كليا،ً يتعين بمجموع ما يتشكل منه  النص و عبر تقنياته الحرة.

وفي هذه المراجعة لإمكان السيرذاتي في القصيدة ، لابد من تذكر محاولات النقاد في العقود الأخيرة لتقعيد أصولها، والبحث عن شواهد متفرقة في تفوهات نصيّة للشعراء بانتظار اكتمال نص سير ذاتي ، كتب الناقد العراقي محمد صابر عبيد كتابين في جمالياتالنص الشغ=عري السيرذاتي،  وتقصي نصوصه .بجانب كتب عربية أخرى منها  لمحمد بو جمعة وخليل هواس ومحمد آيت ميهوب وأسماء الجنوبي وعبداللطيف الوراري الذي أتبع كتابه الأول(سير الشعراء: من بحث المعنى إلى ابتكار الهوية) بكتاب حديث صدر في مايو أيار هذا العام، هو(السيرة الذاتية-النوع وأسئلة الكتابة) . وضم فصلا ً ذا أهمية فائقة بعنوان( السيرة الذاتية في الشعر: أي حصة.. وأي ميثاق؟). تأتي أهميته من اتخاذه مكاناً في صلب دراسة الوراري للسيرة الذاتية متصلاً بها كتنويع عليها.

ونقْد محاولات التنظير لها عربياً، استمداداً من مرجعيات  غربية ،غدا بعضها تقليدياً كالمياق السير ذاتي وعقد القراءة كما دشنها فيليب لوجون ،والربط المرفوض بين الأنا في الخطاب الغنائي والأنا السيرذاتية في القصيدة. ووصفه للأنا الأولى بأنها ذات رس رومانسي يعود إلى القرن التاسع عشر، حيث يوكل الاعتراف السير ذاتي عند كثير من الشعراء(( للصوت الشعري الذي يقترب من صوت الأنا الغنائي  بانتظام ، أو أن يلتبس معه أحياناً، فيما هو يحافظ على المرجع الذي يحيل صراحة على المعيش))..متسائلاً عما يمكن أن يخلّص الباحثَ مما أسماه ((عبء التنظيرات السير الذاتية المكرسة للنثر وخاصة للسرد، ليبتكر إطاراً نظرياً خاصاً ومستقلاً)).

ولكن رهان الوراري الصائب على اتساع قصيدة النثر للسيرة الذاتية  الشعرية ، سينخذل بذلك التحفظ على الاهتمام بالمشغّل السردي الذي تبين في المقتبس السالف.

والجديد في كتاب الناقد والأكاديمي والشاعر عبداللطيف الوراري توقفه بالتطبيق عند أعمال مغربية مكرسة للسيرة الذاتية الشعرية؛ ليستكمل تنظيره المهم والمتسع عن استجابة القصيدة للسيرة الذاتية للشعراء، واستجابتهم لاستجوابها لهم ، بحثاً عن زوايا في حياتهم  ورؤاهم ،مما يتناثر أيضاً في ثنيا النصوص.

 

 

 

 

1

إذا كانت السيرة الشعرية هي أبرز تمددات النوع السيري ذاتياً أو غَيْرياً، خارج النوع المعروف والمصرّح به، فإن وجود القصيدة السيرذاتية تظل به حاجة لبلورة مزاياه واشتراطاته الفنية، وأبعاده الجمالية وتلقّيه.
لقد دأبت الكتابة السيرية على إنجاز متونها الغيرية أولاً، مستقصية الآخر الذي يتوفر على منجز يجلب الاهتمام والتوثيق، وله تركة تستحق الإشادة. ستخفف تيارات ما بعد الحداثة شرط الشهرة والعظمة عن شخصيات السيرة بنوعيها. وانصاع لذلك حتى منظرو السيرة التقليديون مثل فيليب لوجون الذي رأى إمكان كتابة سيرة ذاتية عن شخص عادي أو يكتبها هو ذاتياً. وربما طالب عبر دفتر يومياته المدرسية.
تغيرت ستراتيجيات النص السيري جمالياً، من الفائدة التي تتحصل بالقراءة، والتزود بدروس من حياة الكائن السيري، إلى المتعة والغرابة والإثارة، وبمؤثرات شعبوية جلبها نقاد ما بعد الحداثة، ممن تفرغوا لدحض مقولات الحداثة وثوابتها.
وبأثر التركيز على التخييل في كتابة السيرة، وانفتاحها على السرد جرى التناص النوعي بينها والرواية، فظهرت روايات سيرية لا تعلن عن صنفها النوعي، ولكنها تستفيد أساساً من كِسَر ومفردات من حياة الروائي؛ لتندمج في البنية التخييلية للرواية ومنظورها السردي وشعريتها.
لقد جرى تفتيت المادة السيرية لتدوّن سيرة الآخر، مكتوبةً من سواه في المتون السردية، فظهرت روايات تحكي حيوات متنوعة لمتصوفة وأبطال شعبيين وشعراء من التراث، لتكون سيرتهم مندرجة ضمن الرواية، ولتُغري من بعد كتّاب الرواية السيرية لتناول ذواتهم موضوعاً لرواياتهم. وفي تلك المسيرة النوعية تقطع السيرة أشواطاً كبيرة؛ لتصل إلى فرز تنويع مهم ونادر على هيئتها وستراتيجية كتابتها، بالانتقال إلى السيرة الذاتية الشعرية التي تشجع عليها تقنيات الكتابة الشعرية التي انتقلت بعد الطور الملحمي، وسرد الملحمة الموضوعي الخارجي وبطولاتها الجماعية، إلى الغنائية والالتفات إلى الذات الشاعرة، ووجود أنا الشاعر في صلب المتن الشعري، ثم تمثيله بأنا شعرية تحتويها القصيدة، وتركيبها اللغوي المعتمد على ضمير السرد الأول (أنا). وهو يتجاوز الأنا الغنائية التي أعلاها الرومانسيون وشددوا على الربط بينها وبين الشاعر بالعائدية اللغوية. وكأنهم بذلك ينقلون الشرط التقليدي القديم في كتابة السيرة حصرا بعائدية ضمير المتكلم على كاتب السيرة الذاتية. فلم يعجبهم مثلاً أن يكتب طه حسين بضمير الغائب أجزاء السيرة غير التامة التي ضمها كتابه «الأيام». وقد عللوا ذلك بخشية طه حسين من عائدية الأفعال والأحداث صراحة إليه بحكم ضمير الشخص المتكلم.

2

في نموذج نوعي من السيرة هو السيرة الشعرية الذاتية، تتم الإشارة غالباً لقول أكتافيو باث في السطر الأول من تقديمه لديوان فرناندو بيسوا «نشيد بحري» الذي ترجمه المهدي إخريف للعربية: «ليس للشعراء سيرذاتية. أشعارهم هي سيرهم». إن باث بذلك ينفي عن كتابات الشعراء النثرية لسيرهم المصداقية الممكنة عن   حياتهم، والجمالية اللازمة لتلك الكتابات السيرية النثرية.
ولكن النصوص وحدها دون استعانة سيرية خارج النص لاتبدو كافية. وهاهم نقاد السيرة يستذكرون ما يجري للشعراء خارج نصوصهم، لإضاءتها. وقد حصل ذلك حين قمتُ بقراءة قصيدة محمود درويش الطويلة «لماذا تركت الحصان وحيداً»، بكونها تعرض ما عاشه في تجربة النزوح من بيته في فلسطين بعد الاحتلال الأول، ثم عودة أسرته في هجرة عكسية للداخل الذي عاش فيه حتى كبر وعاود الرحيل عنه.
وقد انتبهتُ للموجهات التي وضعها درويش؛ كالإهداء الذي خصَّ به الغائبين من أسرته، والأمكنة التي يذكرها بكونها «أيقونات من بلور المكان» والتي نبّه لها الناقد صبحي حديدي في كلمته على الغلاف الخارجي لطبعة الديوان. وقد أشرتُ لذلك كون الغلاف أيضاً يسهم في تشكيل القراءة اللاحقة للقصيدة، حيث يصف حديدي ذلك الوعي بالأمكنة بأنه «سيرة المكان حين تحتويه الجغرافية لكي ينبسط فيه التاريخ»، منبهاً للتعالق المكاني والزماني. كما صرح درويش بذلك لاحقاً في مقابلة مع عباس بيضون، ووصف القصيدة بأنها «شبه سيرة» ثم استدرك بوصفها: سيرة ليست شخصية فحسب، بل هي تحمل تاريخاً عاماً».
وكذلك أشرتُ للتحولات في قراءة «هذا هو اسمي» و«مفرد بصيغة الجمع» لأدونيس، مستعينا بهجراته وتحولاته. كما جرى نقد مؤلفه الشعري الضخم «الكتاب» الذي سجل فيه سيرة متخيلة غيرية للمتنبي، مدشناً نوعاً لم يكتب له الرواج واطراد النصوص في بابه.
ولما كان التخييل هو فضاء القصيدة السير ذاتية، فإنه لا يسمح بظهور الوقائع والأفعال والمواقف والرؤى إلا في إطارها التخييلي الذي يقمع سرديتها السيرية لصالح صياغتها الشعرية، حيث تتقدم جماليات النوع المستضيف (= القصيدة)، على جماليا النوع المستضاف (= السيرة الذاتية).
وتحضرني للاستدلال هنا قصيدة وديع سعادة الطويلة «مقعد راكب غادر الباص»، حيث التوتر الفائق في العبارة يشي بضغط الزمن، وحرقة مغادرة الأمكنة، وبالعذابات التي مرّ بها متشرداً، مختزلاً محطاتها البالغة المرارة، وسريعاً مشيراً باختزال لموت والده محترقاً. ولكن يظل لنا في قصيدة السيرة أن نتمثل الكِسر المهربة والمفردات المتناثرة، والراشحة عن المادة الأولى للسيرة، والتي تطالب القصيدة شاعرها بأن يسترسل فيها. ويخيل إلي أن القصيدة تكون فاعلاً في حا ل الكتابة السيرية، مستعينة بميزات استرسالها وترابطها البنيوي. فضلاً عن أبرز ما يحتاجه الشاعر وهو التخييل.
هنا لا تتحدد أنا الشاعر بذاته كما في الخطاب الرومانسي، بل يتحول إلى كائن سيري، حيث أنا الشاعر تتقمص الكائن السيري المتحصل من ماضي السارد السيري وحاضره.

3

تعهد نقاد الحداثة بتأصيل الصلة بين القصيدة والسيرة. إنها ضرب من استجواب شعوري فني، تمتحن فيه القصيدة شاعرها في تعامله مع زمنية سيرته ومكانتها ووقائعها وشخوصها، وهي كلها مزايا منقولة عن شعرية أو أنظمة تركيب السيرة الذاتية النثرية، ولكن في وعاء نوعي جديد هو الشعر بأعرافه وتقاليده وإيقاعاته ولغته وبلاغته. يتعين إذن التخلص من كثير مما يفرضه الشعر على بنية القصيدة. وتحريرها مما هو غنائي وإيقاعي ومعنوي، للحصول على هوية حداثية لقصيدة السيرة، اتضح أن قصيدة النثر أكثر الأنواع الشعرية قدرة على تحقيقها باستيعابها للسرد، وتخفيفها للإيقاع الغالب على الدلالات، وتمكين الدلالة من أن تتخذ شكلاً كلياً، يتعين بمجموع ما يتشكل منه النص وعبر تقنياته الحرة.
وفي هذه المراجعة لإمكان السيرذاتي في القصيدة ، لابد من تذكر محاولات النقاد في العقود الأخيرة لتقعيد أصولها، والبحث عن شواهد متفرقة في تفوهات نصيّة للشعراء بانتظار اكتمال نص سير ذاتي، كتب الناقد العراقي محمد صابر عبيد كتابين في جماليات النص الشعري السيرذاتي، وتقصي نصوصه، بجانب كتب عربية أخرى منها  لمحمد بو جمعة وخليل هواس ومحمد آيت ميهوب وأسماء الجنوبي وعبداللطيف الوراري الذي أتبع كتابه الأول «سير الشعراء: من بحث المعنى إلى ابتكار الهوية» بكتاب حديث صدر في أيار (مايو) هذا العام، هو «السيرة الذاتية-النوع وأسئلة الكتابة)، وضمّ فصلا ً ذا أهمية فائقة بعنوان (السيرة الذاتية في الشعر: أي حصة.. وأي ميثاق؟). تأتي أهميته من اتخاذه مكاناً في صلب دراسة الوراري للسيرة الذاتية متصلاً بها كتنويع عليها.
ونقْد محاولات التنظير لها عربياً، استمداداً من مرجعيات غربية، غدا بعضها تقليدياً كالمساق السير ذاتي وعقد القراءة كما دشنها فيليب لوجون، والربط المرفوض بين الأنا في الخطاب الغنائي والأنا السيرذاتية في القصيدة، ووصفه للأنا الأولى بأنها ذات جذر رومانسي يعود إلى القرن التاسع عشر، حيث يوكل الاعتراف السير ذاتي عند كثير من الشعراء «للصوت الشعري الذي يقترب من صوت الأنا الغنائي  بانتظام ، أو أن يلتبس معه أحياناً، فيما هو يحافظ على المرجع الذي يحيل صراحة على المعيش»، متسائلاً عما يمكن أن يخلّص الباحثَ مما أسماه «عبء التنظيرات السير الذاتية المكرسة للنثر وخاصة للسرد، ليبتكر إطاراً نظرياً خاصاً ومستقلاً».
ولكن رهان الوراري الصائب على اتساع قصيدة النثر للسيرة الذاتية الشعرية، سينخذل بذلك التحفظ على الاهتمام بالمشغّل السردي الذي تبين في المقتبس السالف. والجديد في كتاب الوراري توقفه بالتطبيق عند أعمال مغربية مكرسة للسيرة الذاتية الشعرية؛ ليستكمل تنظيره المهم والمتسع عن استجابة القصيدة للسيرة الذاتية للشعراء، واستجابتهم لاستجوابها لهم، بحثاً عن زوايا في حياتهم ورؤاهم، مما يتناثر أيضاً في ثنيا النصوص.

 

كلمات مفتاحية

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*