معارك الحب الشعرية

 

مقالتي (معارك الحب الشعرية)  في العدد الأسبوعي-جريدةالقدس العربي-لندن-السبت 9-9-2023

معارك الحب الشعرية

في قصيدة الشاعر الألماني يواخيم سارتوريوس (حروف الأبجدية العراقية) يستثمر قَرابة مفردتيْ (حرب وحب) في العربية، فيقدم لقارئه اقتراحاً:
«خذ الراء من أبجدية – حرب- العراقية/هلّا تلمستَ مفردة – حب- !/ الدكتاتور لمّع الراء».
وهو يشير إلى حروب الدكتاتورالعبثية التي محت مفردة (الحب) ودلالاتها بالضرورة. لكن الشعراء فعلوا عكس مقترح سارتاريوس تماماً، فاستعاروا راء (الحرب) وحشروها في وسط أو قلب (الحب)، لينتجوا تلك المجازر الغزلية والمَقاتل والمعارك في خضم موضوع الحب.
تناثرت مفردات الموت والفناء وبذل الروح، وحضرت أدوات الحرب الأولى من سهام ونِبال وسيوف ومرادفاتها، وأسندها الشعراء في انزياحات غريبة إلى مواضع جمال المرأة، وفتنة عينيها التي كانت القاتل الغامض في علاقة الحب.
لقد أحالتني لهذه الملاحظات مقالة الدكتور عبد الواحد لؤلؤة في أسبوعي «القدس العربي» (19-8-2023) حول الشعر الغنائي الأوربي، وما تضمنه في موضوع الحب وتطور النظر إليه. فكان لي هذا التقصي لموقع الحب كموضوع في القصيدة العربية، وتداعياته في الخطاب الشعري، حيث العاطفة التي نفترض أن يعاد تمثيلها والارتقاء بها وتنزيهها، قد استحالت ميداناً لعنف الحب وتداعياته، وما يجرُّ من عنف لغوي وارتماء في السلبية النفسية المتحصلة غالباً من حرمان يحيط سياقاً ثقافياً في المجتمعات العربية، ورؤيتها للحب كمحرمات وممنوعات.
وإذا كان الشاعر القديم مضطراً للانخراط في ذلك السياق، فيموّه الحبيبة بخطاب المذكر أو ينتحل لها اسماً، أو يركن لنداءات الموت والعدم، فما عذر شعراء التجديد والحداثة العرب ممن يفترض اختراقهم للمألوف والتمرد على الثوابت، والنظر للحب كعلاقة تشاركية إيجابية؟
كان التخلصُ من الحب فنياً كموضوع خارجي أحدَ مستلزمات الحداثة الشعرية. وصار سبباً في اختفاء الحب وتهميشه، واستدعاء الموت والقتل والمفردات التي توحي بمعارك محتدمة مع الحبيبة. ويبدو أننا لسنا استثناء في ذلك الانحسار العاطفي، فها هو رولان بارت يعلن في التمهيد لكتابه «شذرات من خطاب العشق» أنه ألف كتابه هذا (لأن خطاب العشق في غاية العزلة، هجرته الألسنة المحيطة به، تناسته، أو قللت من قيمته وسخرت منه).
لقد حلّت عناوين القصائد في شعر العصر محل العبارة التي تصنِّف (غرض) القصيدة وتبوَّب النصوص على أساسها عند جمعها ونشرها. كما انقرض الغزل لكونه تقليداً لا تتسع له برامج القصيدة الجديدة التي ذابت فيها الموضوعات.
ولهذا نابت المضامين ثم الدلالات عن الأغراض، وتفاعلت وتنضدت كتلاً نصيَّة. لكن ذلك لم يكن يستلزم تغييب الحب تماما كما في الشعر الحديث اليوم، إذ جفّ معين عاطفة الحب وإيحاءاتها. انزوى الحب مهمشاً في ثنايا تداعيات كثيرة تنشغل بالخارج.
ثمة استثناءات مكرّسة للحب ومفرداته. لكن وجودها الضئيل يؤكد هامشية الحب على لائحة اهتمام الشعراء ومشاغلهم، وإذ يحضر يكون على استحياء، كضيف ثقيل في حفل عاصف بالهموم والالتباسات.
وما يثير السؤال هو وجود الحب في جزء كبير من تراثنا بشكل دموي. إنه يولد في معركة. ويحوّل الشعراء معاناتهم فيه إلى رديف للموت. فلم يعد ذاك الشيء الذي ترق به النفوس، وتزداد رهافة وشاعرية.
لم يكن الشعراء قبل الإسلام يستسلمون لميوعة العاطفة كثيراً، كونهم منخرطين في جوٍّ ذكوري له اشتراطات الشجاعة والقوة. وإذ يصل الشاعر إلى لوحة الفراق أو البعد عن حبيبته يسجل ضعفه وشكواه. ويكون الموت هو البعد عنها وليس اللقاء بها كما سيتحول في العصور التالية. ولعل ما عًرف بالغزل العذري في العصر الأموي كان تجسيداً لخطاب الموت في ثنايا الحب. شعراؤه متهمون بالحس المازوكي وتركيزهم على تعذيب أنفسهم، وتصوير معاناتهم حد الموت بسيولة عاطفية تتكرر في خطابهم.
وكانت دراسة صادق جلال العظم «في الحب والحب العذري» تستنتج أن شعراء الغزل العذري مصابون بشيء من المازوشية والسادية التي تجعل محور تجاربهم العاطفية توخّي الشكوى، وبيان العذاب الذي يعانون، والموت الذي يتمنون.
وسيضيف العصر العباسي تلاوين أخرى لثيمة الموت في الحب.
في كتاب «مصارع العشاق» يمهد جعفر بن أحمد السراج البغدادي لكل فصل منه بأبيات له تؤكد فرضية الموت والفخربه، فيقول: (كتابُ مصارعِ أهل الهوى ومن فتكت بهم أيدي النوى/ كتاب صرعى الهوى وقتلاه/ مصارع قتلى من العاشقين. ما لدمائهم طالبُ). لقد انتقلت عدوى المقتلة الغزلية إلى المؤرخين والدارسين، وصارت أشبه بصورة نمطية تؤكدها تراكمات النصوص والالتذاذ بها، حتى استعارها المتدينون لترويج دعواتهم، كما فعل ابن النحاس في كتابه «مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق ومثير الغرام إلى دار السلام – في الجهاد وفضائله». وتلقفها (داعية) معاصر فأسمى كتاباً له «مصارع العشاق».
وكثر صرعى العشق والحب وضحاياه، فتكنى أكثر من شاعر بلقب صريع الغواني استناداً لملفوظاتهم.
ويرفع المتصوفة منسوب المقتلة الغزلية في حبهم الإلهي، لما تضمن من رموز تتخفى في العشق وطلب الفناء بالمعشوق، فيقول ابن الفارض: (مابين معترك الأحداق والمهجِ/ أنا القتيل بلا إثم ولا حرجِ)، مؤكداً ألا خير (في حب يبقي على الأرواح). وظلت خارج التأثير العقلاني أعمال كرسالة ابن سينا في ماهية العشق، حيث رأى أنه نفور من العدم ونزوع للتوحد الإنساني، في حقيقته استحسان الحسن والملائم جداً. ويقترب المتصوفة من العذريين في طلب العذاب: (عذّب بما شئت). يقول ابن الفارض، ويتساءل: (من لي بإتلاف روحي هوىً..).
وفي «طوق الحمامة في الألفة والألاف» يورد ابن حزم أخباراً عن رجال ونساء عشقوا فماتوا بسبب حبهم، معتبراً موتهم شهادة، (وربما تزايد الأمر ورقّ الطبع وعظم الإشفاق فكان سبباً للموت، ومفارقة الدنيا. وقد جاء في الآثار مَن عشق فعفَّ فمات فهو شهيد». وردد ذلك في شعر له (فإنْ أهلكْ هوىً أهلكْ شهيداً).
وترد في المدونات الشعرية تهاويل ترادف الحب والموت، لعل أشهرها بيت جرير الذي عدّه القدامى أغزل بيت في بابه: (إن العيون التي في طرفها حورٌ قتلننا..). ومن ابن حزم: (فكم قتيل لنا بالحب مات جوىً..). ويتوّج المتنبي ذلك بأوصاف لا تخرج عن الاندماج في معركة الحب وأسلحتها الفتاكة. ترد في شعره لمحات من الطابع القتالي في الحب تصريحاً وتلميحاً، فيجهر بتجنب الحب ويصفه بالموت والهزيمة (وُقِي الأمير هوى العيون فإنه/ ما لا يزول ببأسهِ وسخائه)، وقوله (وما الحب إلا غرة وطماعة/ يعرّض قلبٌ نفسَه فيصاب). ويحذّر منه ضمناً ويعجب (كيف يموت من لا يعشق؟).
ويؤكد: (إن التي سفكت دمي بجفونها/ لم تدر أن دمي الذي تتقلدُ)، ويرفع منزلة الموت بالحب إلى منزلة الشهادة أيضاً: «كم قتيلٍ كما قُتلتُ شهيدِ/ لبياض الطلى وورد الخدودِ/ وعيون المها ولا كعيونٍ / فتكت بالمتيم المعمود/ راميات بأسهم ريشها الهدبُ/ تشق القلوب قبل الجلود».
وللتصور القتالي امتداد في الشعر الحديث. يكتب لويس عوض محاكياً المتصوفة: (صليب الحب مملكتي/ دنت بالحب تهلكتي).  ويدعو الرافعي في مقالة إلى عبودية الحب، يبدأها بقناعة عجيبة: لا مفر للخلق من العبودية. مخصصا دعوته لعبودية الحب (وإن كان في الأرض عبودية شريفة فهي للحب وحده).
ولم يخلُ الشعر الحديث من رؤية قريبة في مبالغات عاطفية، لا تقل خطراً عن الميوعة والاستعباد في القديم، فيقول نزار قباني: (وأدير مفتاح الحريم.. فلا أرى/ في الظل غير جماجم الأمواتِ/ أين السبايا؟ أين ما ملكت يدي/ أين البخور يضوع في الحجراتِ؟/ اليوم تنتقم النهود لنفسها/ وتردّ لي الطعناتِ بالطعناتِ). ولتبرير المعركة يقول (تحولت [المرأة] إلى سيف يذبحني).
وينادي محمود درويش: (ياحب يا مرضي المريض/ ياحب إن لم تُدمني قتلتك). وأدونيس الذي وصف الموت بحضن عاشق، يقول بلسان المرأة في تحويل نفسي ذكي: (الموت عشيق.. الحب نوارس ليلية/ تتناسل في أعشاش الموت.. سكنتُ وجه امرأة تميتني، تحب أن تكون/ في دمي المبحر والجنون/منارة مطفأة).
ويكتب محمد بنيس في «كتاب الحب»: (في الحب تخضع وتشقى/ في الحب تموت مرات وترضى/ا لحب أمر/ فاتك/ فاستسلم وقت الغزو/ واسلك سبيلا يهيئه ضياعك..). وفي مرحلة اندماج البياتي بالخطاب الأدبي الصوفي يضع عناوين مثل (أولد وأحترق بحبي – الموت في الحب)، ويتماهى في معادلة الموت/ الحب ليقول: (أموت من كوني لا أموت)، متسائلاً كالنادم: (فأين يا رباه يذهب هذا الحب بعد الموت؟).
لقد كان ربط الحب بالموت، والحرب، شعيرة تتسلل إلى ثقافتنا، وتتمظهر في كثير من نصوصنا حتى المعاصر منها كما بينت في المقالة. وذلك مبحث أرى ضرورة تناوله من زاوية النقد الثقافي والنفسي والاجتماعي؛ لأنه مؤشر على قناعة نسقية تهدد أسمى – وآخر- ما ظل للبشر من علائق: الحب الذي نفترض أنه يلهب جذوة الأمل وحب الحياة.

 

اشترك في قائمتنا البريدية

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*