لكأنها ليست أرضنا ولا هو ماؤنا

 

هذه بعض ارتدادات وهوامش وتداعيات من الكارثة الكونية في الحوز ودرنة ،كما تمثلتُها بصرياً في المشاهد الحية، وتردداتها في الوعي والشعور والذاكرة..عزاء لا تحتمل فداحته الكلمات لكل الأصدقاء والصديقات في البلدين،.

المقال في العدد الأسبوعي-صحيفة القدس العربي اللندنية- صفحة آداب-الأحد 24-9-2023

 لكأنها ليست أرضنا ولا هو ماؤنا

حاتم الصكَر

حاتم الصكَر

1 ـ
فجأة نستفيق من وهم المجاز وجنوح المخيلة.
أمّنا الأرض التي توهمنا أن عليها فحسب، ما يستحق الحياة، تبتلع كوحش اللوحة الأسطوري زحل ملتهماً أبناءه في عمل غويا المختلط عقلياً والأصم وصانع اللوحات السود التي تزدحم بالسحرة والشياطين يملؤون المكان رعباً وهلعاً.. في حركة ضجرة تُرقص الأم أطرافها، فتزدرد في لقمة بشعة بشراً وقرى وزرعاً وحجراً. وتجول في الخلاء والأنقاض، ولا تعود تلك البسيطة التي تعوم في لجة القاموس المثخن كمحيط، وفي تيه تأويلات نيّاته تنتج خرافة تزعم أن تلك الأم القاسية أخذت نصيب البساطة واليسر من اسمها.
ها هي ذي أواخر ساعات الجمعة حين تخلد أجساد الجميع لنوم لا يقلقه غد مزدحم بالتكاليف والأعمال، ارتج الأطلس الشاخص كأنه الأرعن الباذخ الطمّاح في نص ابن خفاجة.. جبله الذي يلوث عليه الغيم عمائمه السود، مطاولاً أعنان السماء.. في تربة الجبل يكمن صدع مائل. تؤاخيه الأرض في حركة هائلة، فتفتت صخوره وتهد أحجاره، ترسلها رُجما ناريّة لاهبة، فتمكث عشرين ثانية على صدور العزّل والنوَّم، والمرتمين في أحلام تعوضهم عن شظف صحوهم وثقل يومياتهم. عشرون ثانية تتحرك خلالها تحت الأسرّة والمهود والمكاتب والأشياء الملقاة على وجهها نتفاً وأشلاء..
قرى تصبح بيوتها مدافن لا فسحة لأحد أن ينتشل مصيره من تحت أنقاض عبثت بها الريح العاتية. لا فسحة حتى لاستيعاب المشهد والتفكير بما حصل. ظل ماثلاً ما يحصل. الصور شاهدة على ما حل بحوز المغرب الوادع الجميل.. بحيوات مغتالة في الفاجعة، بلغ أصحابها الآلاف.. وسجلت البشرية يوماً أسود في تقويم نكباتها وصلتها بالبيئة الجاحدة وأهلها المستسلمين لأقدارهم.
مشاهد قيامة متخيلة كما تعج بها كوميديا دانتي الإلهية، وكما تصورها اللوحات ومعتقدات القدامى في حضاراتهم.
ثم يأتي في الأحد الحزين جنون الماء، وكأنه على موعد مع الريح والصدع والزلزلة. تفيض به الأرض الليبية حتى الغرق.
الماء: هذا الشراب الرقراق – بوصفه الشاعري الوديع، الماء الساكن في قلب الأمنيات بالحياة حتى غدا رديفها، والذي زيَّنه المجاز رواءً وسُقيا ووعداً فردوسياً، ثار وانسكب من أعلى وأسفل: من عمق البحر خرج عاصفةً ثائرة، ومن الأعلى هطل سيلاً وابلاً جارحاً، يومه يعدل أمطار عام.. غمرت السيول قرى وودياناً وغطت بيوتاً وعمائر ومزارع. كنت أشاهد الصور الحية للكارثتين، أفكر بأصدقائي وصديقاتي في المغرب وليبيا، وأشحذ ذاكرتي لأتذكر إقاماتهم. لكنهم ككل أعضاء الجسد انتابتهم الفاجعة. وليس من سبيل للعون إلا الاتصال ببعضهم، والمشاركة في حمل صليب الحزن الممض.
أتساءل مع نازك الملائكة التي كتبت قصيدتها (النهر العاشق) في فيضان أصغر عاشته ببغداد عام 1954. تخيلتُ النهر الفائض بالعاشق كما وصفه عنوان القصيدة: لأنه يلح في اللقاء بالأمكنة والناس، وإفناء حيواتهم بقسوة. (أين نمضي؟ إنه يعدو إلينا/ راكضاً في حقول القمح لا يلوي خطاه). وتتوالى صفات هذا العاشق المتلهف يجتاز القرى وتترى صوره، تمثله: باسطاً كالريح يديه. يجتاز القرى بلا صوت، عاث شرقاً وغرباً تاركاً (قُبَله الطينية) تغطي المراعي الحزينة، وتلتف ذراعاه حول المدينة… لكن شاعراً مهما استنجد بذخيرة مخيلته، فلن تستوعب كلماته ما جرى في درنة الليبية. مياه هائجة تكتسح السدَّين اللذين نحسب أنهما كاسميهما يسدان أفواه هذا الطوفان.. تختفي معالم ربع المدينة المأهولة. هو الموج الطاغي كما وصف الجواهري الفراتَ حين فاض فيضاناً أقل أثراً: فالفرات (طمى فردَّ شبابَ الأرض قاحلةً به/.. وها هو الماء موتٌ في زيادته). ويبلغ تصويره للهلع في تلقي فاجعة الفيضان برسم هذه الصورة لتشوش حواس البشر وتبادلها الوظائف (ورُوِّعَ السمعُ حتى بات من ذَهَل/ يود سَمعُ الفتى لو أنه بَصَر).

2-
تعود بي الذاكرة إلى الفيضان الذي تتحدث عنه قصيدة نازك الملائكة. لم أكن قد أتممت التاسعة حين تركنا منازلنا المتواضعة في قرية على ضفاف نهر ديالى. وأسرعنا لاجئين إلى سدة على ضفاف النهر، بانتظار الإنقاذ.
انهارت سدود صغيرة في غرب بغداد، وتهادى الماء ملتماً كمن يمضي إلى نزهة. أخذت القرى التي تتقدمنا نصيبها من الغرقى والخسائر.
غرقت مساحات شاسعة من قرى المدينة وأحيائها، مزارعها وصواها… وتشرد سكانها فوق السدود الترابية الهشة التي انهار بعضها، وجرف السيل من توهم الأمن عندها.. ومن أوهمته هيئتها بذلك.
حوصرنا بين مياه الفيضان من خلفنا، وقد غمرت قريتنا كسواها في ضواحي بغداد الجنوبية، ومياه النهر التي تكاثفت وازدادت أمواجها قوة، فهدرت وامتلأت بما تحمل في طريقها. أبي بمعطف كاكيٍّ يودعنا ليلاً ليذهب مع الفرق العسكرية لمساعدة المناطق الغارقة.. نعتلي السدة مع الأسر الهاربة من سطوة الماء.. يمر مهد من أمام عيني. وأفرشة مهلهلة أحسب أن بينها جثة وليدٍ باغت الطوفان أمه فهرعت دون أن تستطيع الوصول إليه، فظل مهده عائماً. أين مضى المهد والوليد؟ وهل استقر في مكان تتلاقفه أيدي المغيثين؟ لم تلتفت طفولتي لجواب ما ولم تقترح. لكنها ركنت تلك الصورة في أعمق مكان من ذاكرتي.
بعد إغفاءة خوف وسهر وجدت نفسي وأسرتي بعيداً في ساحة وسط الكرخ ببغداد قريبة من المتحف العراقي.. خيام مؤقتة تنوب عن بيوت التهمتها المياه.
أسير مع أخي عبد الستار يداً بيد حذرين وخائفين كل صباح إلى مدرسة قريبة. كنا نلقب بالمنكوبين، يطاردنا الوصف في الدرس والساحة والمسافة الني نقطعها غرباء لا شيء يعزينا بما فقدنا. (منكوبو الفيضان). للكلمة وقع الكارثة. تشتت الأصدقاء وصرنا غرباء. وحين عدنا لم يكن من أثر شاخص في المكان.

3-
كانت المشاهد تستدعي ألف عين لتستوعب مداركنا ما قد حصل.
يوم واحد تلبس جبال الأطلس ووديانها ثوب حداد. وتلتهم الأمطار والأعاصير حيوات ومعالم كاملة من درنة الليبية.
حركة الأرض. هكذا تتلطف التسمية بالزلزال. والفيضان تجنباً للطوفان. تحركت وفاضت وزلزلت. لكن مصاحبات فعل الزلزلة والطوفان تتداعى: ارتعد وارتج واهتز وارتجف وترنح واقشعر وارتعش. كل دلالاتها لا تخرج عن هذا الرعب الماثل.
يستبق كاتب ملحمة جلجامش ما يحصل، فيدوّن تحذير الآلهة العظام لأوتونشتم لما سيحل بشروباك: ويصف الطوفان المدمر: (وبلغت رعود الإله أدد عنان السماء/فأحالت كل نور إلى ظلمة/ وتحطمت الأرض الفسيحة كما تتحطم الجرة/.. وفتكت بالناس كأنها الحرب العوان/ وصار الأخ لا يبصر أخاه).
أصوات جرار محطمة بسعة الفضاء ترن في الذاكرة، وتوحي بالهلع..

4-
ويحصل أن أشهد في أسبوع واحد ثلاث كوارث. هز مدينة ناشفل في تنسي حيث أسكن إعصار رهيب مطلع عام 2020، خلال الدقائق العشر التي سلّم بها علينا ممطراً عاصفاً مسرعا بدرجة 120 ميلا في الساعة، ترك عند الثانية صباحاً قتلى قضوا تحت أنقاض بيوتهم. هُدمت مبانٍ لمدارس ودور ومؤسسات وممتلكات خاصة.. كل شيء بدا في الصباح أثراً بعد عين.. الصور الجوية التي التقطتها درون (بلا طيار) تشي بآثار قصف أو معركة ليلية لمن لا يعرف ما فعل التورنيدو…
قبلها بيومين في المركز الفني نفسه كان ثمة معرض استعادي للرسام البريطاني جوزف تيرنر، يكمل سمفونية الترقب الخوف.
احتلت القاعة الأرضية للمركز زيتيات ومائيات تيرنر الذي كان ولعه بالطبيعة هوساً عدَّه بعض النقاد ومؤرخي الفن نزوعاً رومانسياً ثائراً. إنه يرسم لاسيما في أربعينيات القرن التاسع عشر هياج الطبيعة وثورتها. عاصفة بحرية وأخرى تعصف بالجبال والغابات وعاصفة ثلجية، وهكذا تصل رسائل الرعب ممزوجة بالألوان التي يشدد عليها تيرنر لتصل رسالة لوحته. كل شيء في اشتباك وحركة. ولا استقرار أو سلام، حتى مدينة فينيسيا التي رسم مرائيها لم تخل من ذلك الهيجان الصوري واللوني الذي طغى على أعماله…
أخرج من المعرض مشبعاً بزوابع تيرنر، وما وثّقه بصرياً من أصداء العواصف ووحشة الجبال. لوحته «صيادون في قارب في البحر» تكتظ بالأجساد المنزلقة مع قاربها إلى القرار، حيث العتمة بادية وسط فوضى لونية تواكب فوضى الغرق.
وسيكتمل مثلث الرعب بحلول جائحة كورونا في الأسبوع نفسه. تغدو المدينة شبحية.. وأعداد الموتى تتزايد لتصل من بعد في أمريكا قرابة المليون.
تدابير وأقدار لا تنفك تنوء بها الذاكرة ويحار فيها الفهم.
تعجز الكلمات في مواقف كهذه، وإزاء المشاهد التي رصدتها الأعين وصورتها.. وفي القلب مصير الأصدقاء.. أيدينا على قلوبنا نتجنب سماع ما ينبئ عن مزيد من آلامهم. وبصائرنا تتأمل المسألة فلا تجد مسلكاً لجواب.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*