أمجد ناصر في مهب الذكرى وعصف الكارثة- استذكار

استذكاراً لصديقي الشاعر أمجد ناصر في ذكرى رحيله الرابعة. في 31 أكتوبر تشرين الأول. حضوره الذي يقهر الغياب يضعه بيننا حيث أرض البرتقال الحزين التي أحبها ،تصب عليها طائرات الموت حمماً تحرق الفضاء والأرض والبشر بوحشية تحت أبصار عالم فقدَ البصيرة . وهو الفلسطيني من أصل أردني كما وصفه الشاعر غسان زقطان..
المقال منشور في العدد الأسبوعي من صحيفة القدس العربي-الأحد 22/10/2023

أمجد ناصر في مهب الذكرى وعصف الكارثة

حاتم الصكَر

1- على مبعدة أيام عن حضوره في ذكرى غيابه الرابعة، أهرع لمدونات أمجد ناصر في الكتب وخزائن الذاكرة.
لا أحتاج إلى وقت طويل لأعثر علينا معاً في صنعاء وأبو ظبي وعمّان والقاهرة.. عبر المراسلات البريدية والكتابة. وعلى الهاتف حيث تسيل ضحكته رائقةً وقصيدته معاً، تتلقف صداها اللحظةَ عيناي اللتان أغرق دمعَهما دمٌ يفيض ويغرق الشاشات والأفئدة والضمائر.
في ختام شهر كهذا عام 2019 توقف عن مصارعة المرض الأخبث في تاريخ العلل والأدواء. وهكذا انسل من بيننا بعد وعد بالصحو، بعد مجالدة تليق بفتى البداوة وسليل الصحراء كما يصف نفسه، وتقدم لمحاورة الموت الذي أخذ يتوغل في خرائط جسده، وأمعن في مساءلة مغزاه في نصوص الاحتضار التي سرعان ما تم تلقيها بكونها رثاء للنفس. وما هكذا أرادها أمجد. لقد كان يستحضر بتلك النصوص قوة الحياة ويتعقب شبح الموت ويتحداه، ويقرأ تاريخه، يلاعبه ويجره من أذنيه ليسمع منه الكلمات:
«لم أستجعل يد الملاك أو فم الحفرة. كنت ساهياً فقط وربما متعباً. أنزلتُ الحياة عن ظهري قليلاً في الطريق. ولما انتبهتُ اختفتْ. من هذه السهوة، أو هذا التعب، أطلت يد الملاك أو العدم. متُّ، ولكن ليس بنقص الشعر، ولا بفائض من السعال. بل بشيء آخر لا أعرفه.»….
نحن نعرفه الآن يا أمجد. يطلع في زي آخر من أفواه العتاة والمتسلطين على كوكب ناءَ بالفقر والظلم والعتمة.. والقتل.. قتل شبيه بلعبة رقمية.. تتوجه الطائرات من ظلمات كهوفها/ تعبر الغلاف الذي يحيط كالقيد بمدينة مكتظة بالآلام والعوز والفقدان. كان اسمها غزة، وصار لها اليوم عشرات الأسماء. أكتب هذا وأتذكر ملاطفاتك عن اسمك الذي مهرتَ به قصائدك، والآخر الذي يتابعك في الأوراق والمطارات، ويخطئ بلفظه الأطباء وممرضو المستشفى البابلي – كما تصفه – بلندن. انسلختَ عنه، لكنه يشير إليك..إلى رحلة ذاتك خارجاً حيث عذارى الشعر الأسطوريات يقدن خطاك، قبل أن تتخطفك سيرينيات السرد ويعترضن طريقك. وكأنك واحدٌ من أبطال الليالي العربية، تسد أذنيك بشمع القصيدة، تنتفض وتعود لشعرك. في هروب آخر.

2-

لقد أرّخ أمجد لليالي أرق كثيرة وهو في غرف العلاج. ولكن لم يرض بسجن السرير وأنين المرضى.. كلما صمت المكان، خرج ليتابع سحائب دخان ينفثه من رئته الوحيدة. ولكنه يهيء نفسه لغياب الاسم الأول، متيقناً بأن ما سيبقى هو ما عاشه كأمجد.
والآن وقد طويت عامك الرابع في الغياب، سأقول لك، بعد الجملة التي أفتتح بها مراسلاتي معك: سُرّ من رآك. ولكن لن يسرك ما نرى. كونٌ من الكوارث تلاحق الحيوات والأمكنة والساعات. تتحول الأرضُ مقبرةً مفتوحة. وتتهشم الأمكنة كما يتكسر الزجاج وجِرار الدم فوق الرؤوس. والموت يوزع الأنصبة بلا تمييز: لطفل ومسن وعاجز وفتى وامرأة. كل هذا لتتمجد حكايات الأسطورة، وينتزع قابيل من أخيه كلّ ما يبقيه حياً.
كم أنت سعيد ببعدك عن بشاعة المشاهد الكارثية.. تدثَّرْ بحضور غيابك، ونمْ.. ليس معنا إلا الإنصات لعواء الصافرات ونباح الطائرات وزئير الانفجار. مشاهد موت مجاني لا يمهل الأحياء إلا دقائق تستغرقها صواريخ الطيار من سماء مستباحة لأرض ترتجف، لينهي نومَ النوَّم وكوابيس اليقِظين، فيؤول كل شيء إلى دخان ورماد. رماد حرائق. وليس في المجازات وقواميس الرعب والهمجية ومنعرجات الديستوبيا وكمائنها، كلماتٌ تداني أقل مظاهرها خوفا ودماراً ووحشية.
وأسأل نفسي: كيف يمتلك إنسان كل هذه القسوة ويعيش كبشر. يرى الشروق والغروب والطير والشجر والأطفال؟
وكيف لقلبك المتعب بالشعر والغربة أن يحمل عبء كل هذه الصور، وأنت الذي قال عنك صديقك الشاعر الفلسطيني غسان زقطان في مناسبة تكريمك: إنك فلسطيني من أصل أردني.
وقد شهدتُ واقعة أخرى في الأيام الأولى من وصولي إلى منتبذي القصي. كنت أطالع رفوف الكتب الشعرية في متجر كبير لبيع الكتب الستعملة، وتحط عيناي عند اسمك ضمن مجموعة شعراء عرب مترجَمين إلى الإنكليزية. في التعريف بالشعراء كتبوا عند اسمك: شاعر فلسطيني. أخبرتك بذلك، فعقّبتَ بعد ضحكتك الرخيّة: عرب كثيرون وصفوني بذلك. احتكموا إلى تشكّل وعيي ورهاني وقناعتي.
وهذا أنت أبعد من حدود اسمك الأول، ومن مكانك الأول، ولكن حيث تحل يكون كل ماضيك معك. وكان لك أن تكون في ثراه إقامتك الأبدية وقيامتك.
ها أنت ذا تفخر بمجاز غسان وتتذكره في حوار ومقال. ذلك المجاز الذي يلغي التخييل ليوصل التعيين الحق بصدد فلسطينيتك. حلم فتوتك وشبابك الذي تبعته مسحوراً بشاعرية ورهافة. ليس لأنك كنت تشهد ما جرى ببيروت وعدن وسلسلة من المنافي المتتالية، بل لأن تلك حقيقة باهرة الوقع وباهظة الثمن. بيت بارد في لندن الباردة، يحتوي ظلام ليلك وحزنك وقنوطك، وعلى عتبته ستقع منهاراً في غيبوبة استجابت لرسائل قلبك المتعَب ورأسك الممتلئ بالمواجع والأحلام. عند العتبة (أين كانت تعويذتك لدخول البيت؟)، نازلاً من السيارة للدخول، ثم قطْعٌ كما في سيناريوهات الأفلام، تنتبه إلى جسدك المنتفض من الغيبوبة على سرير المشفى، ثم ليعلن الطبيب كلمته التي دونتَها في مذكراتك وشِعرك. بدأت أوديسا عناء آخر في رحلاتك، فالجسد ملّ وكلَّت قواه، وأنت ترصد ذلك وتكتبه بصبر وشجاعة وعذوبة.
حياتك التي اعتمرت بالرحلات لم تنسِك أيضاً مقاهي مدن طفولتك وصباك وشباب وعيك وشِعرك.. وأصدقاء الضجر والشعر والحب والحلم.

3-

أعود إلى رف مكتبتي، وأحدق في غلاف كتاب له، موشح بإهدائه المرح دوماً والمقترن بشيء شهدناه معاً. أتهيب تقليب صفحاته. ستغرقني ما فيه من دموع كتبها بين الأسطر، ودم رآه يسيل فخبّأه بين الحروف.
لكنه شاعر حياة أيضاً
وسارد يحتفي بالوردة
وكاتب ينحني على الكلمات كما يحتضن أطفاله
ويفرق عطاياها على أصدقائه وقرائه
حين فقدت ابني في حرب الإخوة المجاهدين على سلام أرواحنا وحياتنا في دوامة التعصب، كان أمجد أول من اتصل بي. اقترح أن يكتب مفصلاً، فنشر مقالا مطولاً التقط آخر كلمة في محادثتنا فكتب (محنة حاتم)، مستذكراً ضياع ابنه لدقائق في متجر كبير. وهواجسه تلك اللحظات قبل عثوره عليه.
لقد تحسس مرارة الفقد، لفقد ليس إنسانياً. شيء هبط من أشد طبقات جحيم دانتي عذاباً وموتاً. ومشى بأرجل وأذرع كالوحش، ليغلق نوافذ حياتنا ورئاتنا وأصواتنا وكلماتنا.
في مرثيته لنفسه أو وداعه المرتقب يحاول أمجد أن ينتصر على مصيره، مستعيراً امثولة الشجرة وموتها واقفةً. لكنه يستدرك حين يرى شجراً ممدداً على جنبه، فيؤاخي ذاته بعد أن وهن جسده بشجرة مستلقية: (كشجرة ممددة إلى جانبها، لكي ترتاح من عبء الوقوف الطويل).
لا شيء يسرّ في هذا العالم. خلاصة كان أمجد يرددها بصياغات مختلفة. حتى وهو يمشي لغرفة العمليات حيث كتلة الورم التي يقارنها مازحا بقصيدة الكتلة، كانت تصحبه قصيدة الشاعر اليوناني كافافي (إيثاكا):
وأنت تنطلق إلى إيثاكا
فلتأمل أن تكون رحلتك طويلة
ولعل صباحات الصيف تكون كثيرة
ويا لها من متعة! يا لها من بهجة
لتدخل موانئ تراها للمرة الأولى.
وصفت نفسك ووصفتنا نحن الأصدقاء الذي لا يصلون إلا ليبدأ رحيل آخر لهم. وأنت أحد رعاة العزلة البارّين بعزلتهم، حتى وهم وسط صخب العالم وثرثرة الآخرين.

لقد أمضينا زمناً منزّهاً من كل قصد ونمنا
طويلاً
نمنا
في الكتب.
وكما يحصل لأبطال المآسي والملاحم الكبيرة، سيشعر أمجد بالندم على ما رأى. بل من هول ما رآه منذ خرج عن نظرة أمه المنكسرة ودفء سؤالها الواهن.
كان أمجد صديق الجمال والشعر والحياة. وقد تنبأ بعودته ليقضي أبديته قريباً من أولى قصائده في (المفرق) التي حملت من اسمها دلالات كثيرة في رحلة أمجد. (فالشعراءُ الذين يُطعمونَ تنّينَ الصداقةِ لحمَ أكتافهم، يموتون، عادةً، قريباً من قصائدهم الأولى).

أجنحة

أمجد ناصر

أشياؤهم التي غادروا،
ظلت تتوهج في الباحة.
أيّ عابر لا يقع فريسة
لسحرها الغامض؟
ومن ظلوا هنا، كيف لا ينتشون
بذكرى وجوههم القوية المشدودة
على رخام حيّ؟
غادرونا
وظلت أشياؤهم تخترق
أرواحنا كالعصافير
غادرونا وظلت أشياؤهم تسحبنا
من أطراف أصابعنا
إلى حرير الليالي النادرة.
بيروت، 1980

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*