هايكو الحروب: شعر قليل وألم كثير

 

هايكو الحروب- شعر قليل وألم كبير
مقالي في عدد القدس العربي الأسبوعي -الأحد5/12/2023

(مخيم لاجئين

تسأل أباها :

ما معنى كلمة لاجئ)

*ريتا عودة – فلسطين

1-
لكأن الشعر يتعرض في أيامنا هذه لمعادلة طردية النوع رياضيا، لا تكف عن التسارع، بين شكل القصيدة ونوعها الشعري.
فإذ تتناقص أبيات القصيدة بمقص الشاعر المنتبه لإيقاع عصره فيتقلص حجمها، تتزايد أعداد النصوص المقتصدة المكثفة والمختزلة مكتوبة بطريقة الهايكو. وكأن الإيقاع الذي يؤطر الحياة بالجديد قد تسلل إلى الخطاب الشعري ذاته، فانعكست الرغبة بالإيجاز على المتون النصية ذاتها. إيقاع الحياة المتشكل من مستجدات ضاغطة على الزمن المتاح والمستثمر… ليست سرعته كما قد نتوهم دليل تحضر أو تمدن، فلا سرعة في يوميات مدننا وحياة ناسها.
وإذا كانت العرب تبالغ في الحث على طلب العلم ولو كان في الصين (ما نوع العلم الذي ابتغوه؟) فإن الشعراء جعلوا شعارهم المتواطئين عليه: اطلبوا الحداثة ولو في اليابان. لا يبعد المكانان الشرقيان المقترحان في الطلب عن بعضهما البعض. بل لعل طلاب الحداثة في اليابان قدموا – شعروا أو لم يشعروا – مقترحاً لتعديل معادلة المثاقفة، حين تحضر الثنائية الأزلية: نحن و/الغرب، لتصبح نحن و/الشرق، هذه الوجهة التي تغافلنا عنها وأغفلناها. كما أنهم جسدوا ما حلم به منظّرو قصيدة النثر الأوائل من أن قصيدة النثر تعتمد الإيجاز والكثافة في شعريتها.
هبت رياح الهايكو. وتعالت أصواتها. وانجرف كثير من الشعراء من كتاب قصيدة النثر صوبها.
إنها ببساطة تلغي معضلة الإيقاع التي لم يتم جلاؤها بشكل كاف في التنظير النقدي والأبحاث. لكن الهايكو الشعري يقدم حلّاً، حيث تصبح الفكرة مشغّلا للأبيات الثلاثة في نصوصها. وتحل الخاتمة كمفاجأة أو خلاصة أو عَود على بدء النص واستهلاله، وتحمل في ثناياها – بجانب الدلالة – الإيقاع الخاص بالنص الهايكوي.
لقد رفض شعراء قصيدة النثر العرب الأوائل مقترح الكثافة والإيجاز كشرطين قدمتهما سوزان برنار لتصورها عبر استقراء نماذج فرنسية من قصيدة النثر، ولم يلتزموا بذلك. كانوا يبشرون بأفكار برنار (أعني هنا أدونيس وأنسي الحاج خاصة) لكنهم يملأون دواوينهم وكتبهم الشعرية بقصائد مطولة. بل ربما كتبوا قصيدة واحدة في كتاب شعري.
والذي يجب تسجيله لكتّاب الهايكو العرب أنهم حرروه من طقس التعبد السطحي للطبيعة، ورصد جزئيات مستلة من مظاهرها لتكون المادة الوحيدة للهايكو.
حضر الذاتي في النصوص الهايكوية، والكثير من الأفكار حول الحياة وشروطها الإنسانية والعاطفة والخيال أيضاً. وتنوعت مصادر شعرائه، والمؤثرات التي تحكمت في تجاربهم.
وثمة سبب يبرر اللجوء إلى الهايكو وهو أن أغلب النماذج الحداثية والمجددة ذهبت إلى مظان غربية.. وهذا يصح في تقييم شعر المهجر والشعر (الحر) وقصيدة النثر أيضاً. ولم يُعتمد الشرق واليابان منه كمرجع مؤثر في الشعر خاصة، ولشحّة المترجَم من أدبيات الشرق إلى العربية.
لقد كانت تجارب الهايكو العربية طفرة نوعية في شكل القصيدة وبنيتها لا تقاس إذا ما راجعنا الكتلة النصية العربية في القصائد التي وصلتنا عبر تاريخية الشعر العربي الذي بدأ بالمطولات كما نقلتها لنا المعلقات العشر وقصائد الحماسة، ومع وجود الأرجاز القصيرة والمقطعات والأبيات المفردة أحياناً، إلا أنها لم تمثل في الشعرية العربية تحولاً نوعياً، بل كان قِصر بعضها كالأرجاز مدعاة لتهميشها. فقد جرى ذمّ الرجز كبحر ذي إيقاع خاص، وانزوى في المناسبات والمدونات التعليمية.
2-
لم يعش أحد من كتاب الهايكو العرب تجربة حياتية أو روحية عميقة مع جذور الهايكو. ولا يكاد أغلبهم يعرف طبيعة الحاضنة التي نشأ فيها. ولعل كتاب الشاعر والمترجم محمد عضيمة (كتاب الهايكو الياباني- ترجمة وتقديم مع كوتا كاريا) يبرز المثال الصحي لاستيعاب الهايكو والتدقيق في شعرية نصوصه. لا يعني ذلك أن نطلب من الشعراء الهايكويين أن يعيشوا مثل عضيمة في اليابان، ويتعلموا لغتها الشاقة كما يقال في تصنيف استيعاب اللغات نظراً لطبيعتها الصورية ونظامها المعقد، ولكن أن يتمثلوا بعض ما في مناخاتها الأولى من فرضيات وجماليات، وتقنيات أيضاً.
يورد عضيمة مقترحات وأمثلة لكتابة الهايكو عملياً مما استقرأ من أشعار. منها مثلاً: تقديم وصفين ثم الإعلان عن الموصوف، و طريقة: كما لو..، ويالَلـ..والخاتمة بـ(لا) وسواها.
لقد عايش بورخس تجربة الهايكو الياباني خلال زيارة مع زوجته ماريا كداما، وكتب قصائده السبع عشرة التي تعد بداية لاقتراض معاصر للهايكو في شعر أمريكا اللاتينية. ويمكن مراجعة ذلك مفصلاً في كتاب الدكتور محمد آية لعميم «قصيدة النثر: في مديح اللبس» الذي ننقل عنه فقرات عن تأثر بورخس بالهايكو الياباني.
كان بورخس يبحث عن الجوهري في كل شعر، كما تقول زوجته ماريا كداما، فوجده في الشعر الياباني خاصة. هذا الشعر الذي يحاول الإمساك بأسطر قليلة مشذبة بعناية، التقاءَ الزمن بالفضاء في نقطة واحدة. اختصار شديد مسند بخاتمة مضغوطة جداً (مكثفة؟).
الشعر الهايكوي كما تلاحظ كداما لا يوجَّه لكي يُسمع بل أيضاً لكي يُرى.. لكن هذه اللوحات الفنية في الشعر الشرقي فُقدت في النقل الغربي للهايكو. وكنا نخشى أن تفقد في الهايكو العربي. لكن ما تم إنجازه بأسلوب الهايكو أثبت تحرر الشعراء من صنمية النموذج وكتابة نصوص عابرة لنمط الهايكو المتوارث عن قدامى اليابانيين.
3-
تعددت مصادر شعراء الهايكو. وتحضرنا هنا أعمال مؤثرة في الكتابة الهايكوية، لاسيما تلك التي تقدم نماذج من كتابات الشعراء بلغات مختلفة، للوقوف على مزايا الهايكو وما جرى له وعليه من تحديث وإضافة.
ولقد كانت الحرب مناسبَة جاذبة لكتابة الهايكو. ليس من متسع في الشعر للانتظار والدخول في تفاصيل ما يحدث كما في السرد، بل هي الومضة والاستجابة بردة فعل عنيفة على ما يرى الشاعر، فيقطر من ذلك الجحيم قطرات تجسم للقارئ ما يجري في مشهد الحرب.
لقد احتكر الطغاة والعنصريون والمستبدون والمحتلون مشهد الحرب دوماً. لم تعش فرضية الحرب العادلة والإنسانية، فما نراه منذ قرون هو بطش بالشعوب وقهر لها وسلب لحرياتها. يكون الفاعل في دراما الحروب دوماً هو القوي المنتصر الذي يبطش ويتمادى، فلا توقفه أعراف أو قوانين أو أخلاقيات.
وقد سجل الشعر صوراً للحرب عبر الهايكو بمشاهد لها أثر كبير في قارئها، منها عمل الشاعر العراقي والمترجم آزاد اسكندر «هايكو الحرب – آثار الرصاص من أنحاء العالم» حيث وصف عمله بأنه (ثأر شخصي صغير من الحروب ومقترفيها).
كان آزاد من جيل الشعراء الذين عاشوا جوانب من تفاصيل الحروب في العراق، فقال: (غيرت الحرب حياتي مرتين، ونفتني مرتين، مرة إلى بلادي الأم ومرة منها، مرة طفلاً ومرة شاباً).
لذا حاول أن يبحث في الهايكو عن رصد مقرب للحرب: البشاعة والقسوة والموت المجاني، أو الوقوف على حافة هاويته، ورؤية الخراب والرعب في كل زاوية.
ذهب إلى تجارب متنوعة من العالم، لم يستثن فلسطين والعراق ولبنان عربياً، لكنه اختار أشعاراً من الهايكو في أرجاء العالم، منطلقاً من اعتقاده بأن ما من مكان في الأرض لم يشهد ويلات الحرب ولم يعانِ من تداعياتها.
لكن مأزق الهايكو يكمن في كونه شعراً قليل الكلمات، عليه أن ينقل الألم الكثير الذي تسببه الحرب.
هنا تضيق العبارة حيث تتسع الفكرة. ولكن الشاعر يلخص بروحية الهايكو وبساطته ما يجعل قصر النص امتيازاً، فتكون قطعة الهايكو بأبياتها الثلاثة إشارة بليغة لما ينتظر البشر من عدوانية الساديين والمحتلين.
تمثلات تجد لها الأعين تجسيداً عبر الموت اليومي الذي تدبره آلة الحرب الصهيونية في غزة، وتقتلع كل ما يدب من حياة بهمجية تفوق الخيال.
في الهايكو الحربي سنلتقي بتمثلات أيضاً لما جرى على أرضنا المنذورة للعذاب.
هذه ريتا عودة، من فلسطين:
«مخيم لاجئين
تسأل أباها:
ما معنى كلمة لاجئ».
فبموازاة المطر الصيفي، لا تمتلئ سماء بيروت إلا بسقوط قنابل عنقودية.
«هنا مطر صيفي
في لبنان
قنابل عنقودية».
وعن بيوت بغداد التي تُقصف، نقرأ:
«بغداد
في فناء بيت قُصف
زهرة خوخ تزهر».
وليس من بيت ثالث في الهايكو التالي. تماهى الشاعر مع المشهد، ففقدت قصيدة الهايكو بيتها الثالث في موقع الانفجار، وظل منها سطران أو بيتان:
«وُجدت في مكان الانفجار
قصيدة هايكو من سطرين».
وشاعر كرواتي يلخص لنا مشهداً تكرر في مجازر غزة المتلفزة. الفاعلون مختلفون، لكنهم من نسل أخلاقي واحد، كما أن القتيلة ودميتها في الحالين شريكتان في المصير:
«بِركة دماء شحيحة
قتيلتان في القصف
الطفلة الصغيرة ودميتها الكبيرة».
مصائر لا يمكن ان تنساها الذاكرة البشرية، مهما تجاهلها العالم الذي يتفرج الآن على ما يجري من مجازر، من دون أن يرف له جفن

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*