*مقالي في العدد الأسبوعي -جريدة القدس العربي

التربية الشعرية في فوضى الوسائط

18 – نوفمبر – 2023
هل نحن مقبلون حقاً على ميتة جديدة في سلسلة الميتات الافتراضية: موت المؤلف – موت الناقد – موت النقد الأدبي؟ وهل حان وقت الإعلان عن موت القارئ، بما أنه ينشغل بذائقته وأحكامه، عبر وسائط لا تدع له وقتاً أو استراتيجية واضحة للقراءة؟
تلك وسواها أسئلة قد تكون اليوم من المسكوت عنه تداولياً. ولم يُكتب فيها سوى القليل الذي أذكر منه مقالة الشاعر منصف الوهايبي قبل سنوات وإشاراته الصريحة إلى احتمالات موت القارئ. فالظاهر الثقافي يشي بحِراكٍ كتابي كبير. مَعارض الكتب والإصدارات والجوائز والمهرجانات. ولكن أين رجع الصدى من ذلك كله؟ وهل ما يصدر من مؤلفات ومطبوعات دورية وصحف يمثل الحِراك المنتظر، قياساً إلى أعداد المتعلمين والقراء باللغة العربية التي يتحدث بها ويفكر ويكتب ويقرأ أكثر من أربعمئة مليون إنسان وإنسانة؟
لقد تضافرت عوامل عدة على انحسار القراءة كعمل فردي وتواصلٍ مع الرسالة التي تبثها المؤلفات إبداعاً ونقداً. وتَراجع ما يوزّع من المطبوعات، بل تضاءلت أعداد المكتبات العامة، وانزوى الدرس الجامعي منكفئاً على دائرة مغلقة من الباحثين المهنيين الذين تتلقفهم الوظائف والمسؤوليات الأكاديمية الروتينية، فلا يعبأ كثير منهم حتى بطبع أطروحاتهم. وصار تدريس الأدب في المدرسة العربية تقليداً فجّاً، يحاكي الماضي بقدسية وصنمية تترك نوعاً معيناً من القراء الذين تتجمد آفاق قراءاتهم وتواصلهم مع الشعر خاصة، عند الموروث والمكرّس، وإن امتدت دائرة معارفهم واهتماماتهم إلى عصرنا، فتذهب بهم وحسب، إلى الشائع والشعبوي والشعبي المتدني فكرة وأسلوباً. وربما نتج عن ذلك وبسببه، ما نراه اليوم من عودة إلى النظم التقليدي بالشطرين. وهنا تتجدد وتنشط آليات الخطاب الشفاهي المعتمد إجراءات التأثير الخطابي والصوتي، أو الارتهان بحدود البلاغة التقليدية، واللغة المتعالية ذات الرنين، والصور المكررة بصياغات مختلفة.
ولابد أن نستذكر هنا ما جاءت به الثورة الرقمية من تغيّر في وسائط التواصل، وطرق القراءة وكيفياتها بالضرورة.
فقد صارت الوسائط تضغط على وعي القارئ لتزوده بذخيرة جديدة ومختلفة، قوامها الشائع والطريف والمدوّي والقائم على المفارقة. ووسيلة التواصل لابد أن تترك أثرها في تشكيل البنية الشعرية لغة وإيقاعاً ودلالة، وتخضعها إلى مطالب المباشرة والفهم السريع.
وليس غريباً أن يشكو الأوروبيون أيضاً من هذا الانحسار القرائي بعد ما أسماه أمبرتو إيكو غزو الحمقى، ملخّصاً مآلات الخطاب الرقمي ودوافعه وتشكلاته.
وكان قد سبقه منظّرون كثر لذلك. فروبرت راي في مقالته «ما بعد الحداثية» في موسوعة الأدب والنقد، ينقل عن والتر أونج ما يراه من أن «العصر الإلكتروني ربما يعادل مرحلة ثانوية من الشفاهية. لا يعتمد فيها التصور والفهم على مجردات الكتابة، بقدر اعتماده على الحكايات المروية والصور التوضيحية ومغامرات الأبطال، حيث المؤثرات السمعية والبصرية تسلب من المتلقي قوة التركيز الذهني». كما نوهت الموسوعة بالفجوة الواسعة بين الكاتب والقارئ الناشئة بسبب عمليات الحفظ والتقويم للنصوص البعيدة تاريخياً وثقافياً عن القارئ المعاصر. وتعرّج على التربية الأدبية في المدارس التي تمد الطلبة بخبرة معيارية محدودة بحدود شفرات النصوص، كمواضع البلاغة والأدوات الفنية ومظاهر التقليد التي تجعل دلالات النص سهلىة المنال بحسب روجر فولر.
وإذا كانت تلك بعض جنايات ما بعد الحداثة والهبَّة الشعبوية التي فتحت الكتابة لكل فرد، والنقد لكل قارئ أيضاً، فإن انحسار القراءة في الشعر العربي لا تنتمي للعامل المابعد حداثي لسبب بسيط، هو أن أدبنا لم يستوفِ بعدُ مستلزمات مرحلة الحداثة ولم ينتقل إلى ما بعدها إلا بهذه الصورة السلبية التي كرستها المدرسة ووسائط الاتصال.
وبدءاً لا بد من القول إن القارئ ركن مهم في النظريات النصية وما بعدها. فبالمؤلف والنص والقارئ يكتمل المثلث النصي الذي تقوم عليه عملية التلقي والاستجابة. وبفعل القراءة يتحقق وجود النص الفعلي، بافتراض توفر القارئ على عُدَّة أو طاقة تتيح له الفهم والتأويل، واستكناه الدلالات التي تنطوي عليها الخطابات والنصوص، وعلاقة ذلك كله بالتغيرات الأسلوبية في النصوص والتحولات في خطاب الشعرية.
وقد كان النقاد متفائلين كثيراً في افتراض وجود آفاق قراءة تتطابق أو تتعارض مع أفق النصوص وقصد المؤلف. وكان أكثرهم حلماً وطموحاً عبد القاهر الجرجاني الذي افترض أن للقارئ مكانة لا تقل عن مكانة منشئ النص الشعري. وأن عليه أن يغور في أعماق النصوص، ويبذل جهداً في الإحاطة بالملفوظ يوازي ما بذله الشاعر في اقتناص الصور والأخيلة.
إن القارئ كما ترى نظريات القراءة والتلقي يجب أن يتطور، مثلما يتغير ويتطور موقع – أو أفق – الكاتب والنص. وللقارئ حصيلة نصية من تراكم أنواع النص الذي يختزنه ويتعرف على تقاليده الفنية، فيمارس من ثم مهمته الجمالية في فهمه وتفسيره وتأويله، واستكمال بنيته بناء على الاعتقاد بوجود ثغرات أو فجوات يملؤها القارئ؛ لأن النص لا يقول كل شيء،لوجود إكراهات في الفن الشعري ذاته باشتراطاته الخاصة، وبفعل الحمولة الرمزية والعلاماتية للنصوص أيضاً. هنا يجد القارئ لذة قراءته ومتعتها، التي تنبه لها النصيّون من النقاد العرب في التراث. فعبد القاهر مثلاً يتحدث عما يحسّه متلقي الشعر من لذة حين يصل إلى المعنى. وهو يقصد (معنى المعنى) أي المتخفي في عمق النصوص، ووراء معانيها القريبة أو الأولى.
ولا شك أنه يقصد (الدلالة) كمحصول جمعي وتركيبي شامل لمعاني النص. ويضيف لمحة جمالية ذات أهمية إذ يربط اللذة ومتعة القراءة بالجهد الذي يبذله المتلقي، والذي يريده موازياً لما يبذله منشئ النص نفسه كما أسلفنا. كما يواصل دفاعه عن غموض الشعر وبُعد مراميه المُحوجة للتأمل والتعب في الإحاطة بها، ممثلاً لذلك بمتعة الصياد حين يعثر على لؤلؤة في الصَدَفة بعد أن أجتهد وأُجهِد في اصطيادها.
إن ذلك يحتم تزود القارئ أيضاً بما يؤهله لقراءة فاحصة ومدققة، ومتناغمة مع ما يكتنزه النص من جماليات ورؤى ودلالات.
إن القراء طالما كانوا يضيقون بالشعر وحداثته خاصة. ويوجهون للشعراء أشد الملاحظات التي تقرن الكلام الشعري بالهذيان، لأنه لا يخضع للمقاييس التي وقرت في نفوسهم بسبب التربية الشعرية التقليدية، والتمسك بتعريفات الشعر الضيقة التي تسجنه في اشتراطات تعسفية، كالوزن والقافية. وبذا يقوم بالمقايسة على ما قدمت له تربيته الشعرية مجتمعياً ومدرسياً، فيرفض الجسم الغريب على الشعر كما يراه، ولا يجد في التحديث الشعري جدوى أو مبرراً للقبول. كما نقرأ بمقابل ذلك ما للشعراء من ملاحظات على القراء، وتشخيصهم لنقصان معرفتهم وقصور ذائقتهم. لكننا نلتفت في الغالب إلى ما يقوله القراء عن النص وشاعره وناقده، لا ما يراه الشعراء ونقادهم حول ضعف تواصل القارئ وتفاعله، وضعف مؤهلاته.
إن الإطلالة العامة على مشهد القراءة والتلقي ترينا مشهداً حزيناً. فالوسائط تصنع النموذج الشعري. والشفاهية المتجددة موازاة لتردي الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية تعيد لنا تلك الشفاهية الإلكترونية هذه المرة، وصعود الغنائية، وتعميق انعزال الشاعر عن قارئه الذي صنعت له التربية والوسائط نموذجا آخر، من تداعياته استشراء الشعبوي وانجراف القراء إلى اعتماد فهم آخر يتراجع عما اكتسبته الكتابة الشعرية العربية من حداثة وتنوع أسلوبي وتغيير في الخطاب.
لقد تراجعت مطبوعات ثقافية متخصصة كثيرة وتوقفت، وانتقل بعضها إلى الفضاء الرقمي ليكسب ما يمكن كسبه من قراء العصر الإلكتروني الشفاهي الجديد. ولكن الشكوى قائمة وصريحة.
أين القارئ؟
يتساءل أغلب ذوي المشروعات الثقافية المتقدمة والشعراء. وإذا وُجد هذا القارئ فما أولوياته؟ أيكون كحال ما تخوَّف منه الغرب في تقديم مادونا على ملتون في الدراسات الأدبية مثلاً؟
وفي الثقافة العربية المعاصرة يعتلي المشهد شعبويو الخطابة والطرافة والغنائيات السطحية، معبئين الفضاء الافتراضي بالفقاعات، ومستخدمين التقنيات الرقمية في صنع التخلف المرتدي هذه المرة لبوس التحضر والمدنية، مواصلين سيرهم فوق جثث القراء الذين تتخيلهم النظرية الأدبية شركاء مع المبدعين في تحقق ملموسية النصوص وحضورها الفعلي.