آخر أيتام سومر

احتفاء بمنجز الناقد والأكاديمي المغربي بنعيسى بو حمالة تنادى جمع من الكتاب العرب والمغاربة وبعض الأجانب لكتابة بحوث ودراسات وشهادات عنه ،ضمّها كتاب صدر حديثاً في الرباط بعنوان(تأويل العين والروح).وقد استوقفني ما نشرفيه عن كتاب بوحمالة(أيتام سومر-في شعر حسب الشيخ جعفر) بجزأيه الضخمين ، فقد تناولته أكثر من خمس دراسات.كان كتاب بوحمالة ذا صدى طيب في التلقي كونه يزيل الفوارق المتوهمة بين نص المشرق ونقد المغرب أولاً، وينبه ثانياً إلى شعرية حسب الشيخ جعفر الذي يعد من أبرز شعراء الستينيات العراقية والعربية،والصامت الكبير في الفضاء التداولي ..صمتاً اختاره للعزلة والتأمل  ، باستثناء غزارة إصداراته الشعرية ،وترجماته عن الروسية التي عرَّفنا من خلالها بأشهر الشعراء الروس ،وأكثرهم تأثيراً في الحركة الشعرية في العالم.
يستند بوحمالة في وصف جيل حسب الشيخ جعفر بأيتام سومر ،كونهم قتلوا بالمعنى الرمزي الأب الشعري المجدد ،وهو السياب،عبر القطيعة مع نصوصه ،وبالضرورة جيل الرواد الذي يتزعمه.لقد انتهت مهمة التجديد .وشعر الستينيون باليتم وهم يشيعون تجارب الرواد الوزنية الحرة ؛لينطلقوا بالقصيدة صوب خطوة أبعد: التمرد والمغامرة الشكلية والتثاقف الحر مع تجارب متنوعة من ثقافات العالم.مؤقتاً كان لهم الصوت الصارخ في الفضاء الشعري حتى ينقسموا لاحقاً بين شعراء قصيدة نثر مبكرة ومؤسِّسة ، وشعراء وزن أكثر حرية من سابقيهم موضوعاُ وشكلاً.
يترتب على هذا اليتم تبدل المؤثرات ومصادر الشعرية.بالنسبة لزملاء حسب مهدي كانت المؤثرات امتداداً للرواد، ولكن عبر نصوص متمردة لم يسمح الرباط الإيديولوجي والزمن العراقي في الأربعينيات بتلقفها.كان شعراء الحرية هم نماذج الرواد.وبآستثناء انكباب السياب على نصوص ستويل وإليوت وبعض الرومانسيين لايمكن تسمية مصدر من خارج الدعوة للحرية والنضال ضد الإستعمار وحريات الشعوب.لكن حسب الشيخ من بين زملائه الستينيين توفرت له فرصة الدراسة الأكاديمية للشعر والأدب في موسكو.وهناك انشق عن زملائه على مستوى المؤثر واستيعابه، مع رافد موضوعي شهي سينهل منه كثيراً ،هو موضوع الغربة والشعور بالإقتلاع فتياً بعيداً عن عالمه الأول.
في واحد من هوامش حسب الكثيرة التي يختم بها ديوانه (الطائر الخشبي)يكشف عن ثيمة فاعلة في شعره؛ هي الحنين العذب والمعذب لموطن طفولته وصباه في الريف العراقي.يُتم آخر يؤهل حسب ليكون نموذجاً لأيتام جيله بجدارة.يقول عن شخصية المرثي في قصيدته(مرثية كُتبت في مقهى) إنه (فلاح من قرانا الجنوبية) وأن( تشبثه بالذاكرة هنا محاولة إمساك بالوجه الطفولي الذي كانه).حسب والفلاح المرثي أصبحا واحداً كلاهما له طفولة يحن إليها بعد فقدها.
الفقد والحزن الملازم له يأتيان- بوفق قراءة بوحمالة البصيرة لشعرية حسب- من كونه وجيله استبدلوا الأسطورة التموزية التي تشير للإنبعاث بعد الموت كما أشاعها السياب في الثقافة الشعرية ، بأسطورة أخرى هي الأورفية – نسبة لأورفيوس في الأسطورة الإغريقية- حيث يعود أورفيوس من  جحيم العالم السفلي بحبيبته الميتة يوريديس،  لكنه ينظر إليها قبل خروجه، خلافاً لشرط الآلهة ؛ فتختفي عائدة إلى عالم الموتى؛ فيتملكه الحزن و يحس بالخذلان،  ويتحول غناؤه وعزفه الساحران نشيجاً دائما وأسفاً ..وتلك خلاصة رؤيا حسب والستينيين: فرمزهم الأورفي لا يعود منتصراً  كتموز بل مهزوماً. وفي حالة حسب الشعرية تتعمق الهزيمة واللاجدوى والاستحالة، فيتيقن استناداً لقراءة بوحمالة  بأنه (لا مصير لقصيدته إلا في متاهات الفقد والغياب والإستحالة.)
إنه ليس حزيناً ساذجاً أو بلا سبب .لديه من المفقودات ما يكفي للفراق عن العالم والعيش في الإيهام الذي تتركه الأأشياء المفقودة.دوماً ثمة كنز مدفون في شعره وجرة مكسورة وجمال عصي على الإمساك أو الخلود.الموت رفيق منذ الطفولة والأحلام تعطي دوما أوهاماً تعز على التحقق.عربات تسير مذهبة كطيارات ورقية لا تمسكها يد الطفل وهي في عليائها، أو قعر بئر ومتاهات تضيع فيها الخطى وتتوهم العين مالا يتجسم مرئياً عن قرب.
لقد مضى كل شيء.وهو يبحث عن قلبه الدفين (في المرايا/ في الزوايا /  في البقايا و:في المنافي والفيافي والقوافي الصدئة)لكن الروح همدت في القفص وغطتها العناكب.هكذا يرثي حسب الشيخ جعفر  عبر تأبين صلاح عبدالصبور حياته هو ، ويراها ملخصة في استحالة القبض على الخلود أو الإمساك – بعبارته التوضيحية في الهامش- بالجمال الهارب. وكذلك تلك السيدة السومرية  التي تتمنع  على الظهور   والتجلي رغم أنه ينتظرها (عارياً كالروح) في صقيع المدن بعيداً عن عشه الأول.
و لكنه يتوهم حضورها كلما سمع إيقاع خطى أو صوتاً:
كلَّ مساء كنت أصيخ السمع وأفتح بابي
لكني لا أسمع غير طيور البحروخفق الأجنحة البيضاء
:وداعا
لن تدركني
في الفجر أعود دخانا أبيض
تلك السيدة امرأة تسكن في جوف الصدف وفي محارة ، ثم يبتلعها الجحيم كحبيبة أورفيوس أو طائرة الطفولة التي ينقطع خيطها، مموهة عبر الإستبدال الخيالي بعربات الأساطير والألواح السومرية::
أبحث عن وجه التي أحبها، أتبع كل عربة
تجرها الوعول أو تطير فوق  المدن
أسأل كل عابر  ، أقطع خيط الزمن
لمحت من أثوابها شيئا بأيدي حرس يلتهمون الطين
وها أنا أهبط في قرارة الظلماء
وفي يدي ّكسرة خبزمن حقول الريح
وحفنة من ماء
وفي تعليقه على القصيدة في هوامش ديوانه( الطائر الخشبي) يسمي مراجعه في بحثه العبثي هذا؛ فيقول إن فيدياس النحات الإغريقي يمثل هنا ( محاولة الإمساك بالجمال الأزلي، ويمثل أبو نؤاس محاولة البحث عن  عن النشوة الأزلية)لكن كل بحثه لا يثمر فيجد نفسه كأورفيوس هابطاً لظلام الجحيم حيث الموتى ، يتشوقون خبزاً منه وحفنة ماء.
أما المرأة التي يقابلها عابراً في مخزن ، فلا تفارق ذاكرته ،ويتخيل لها وجهاً سومرياً في قصيدته( آخر مجانين ليلى)
اشهدوا:
إني آخر المتيمين بليلى الإذاعية، إني قيسها الملوح الأخير،تدنو
خطوة تنكشف الروح لديها مدنا مهجورة تحفر في عينيّ وجهاً سومرياً،
مرة واحدة في القرن تعطي من يديها ألقاً
يوقد مني حطباً هشاً، وكل ليلة تدركني…)
لقد سكنته الأسطورة والبحث عن شيء مهشم لا يعود لشكله أو هيئته كالفخارالمتكسر والزجاج المهشم.وهو يطور الأسطورة لتعبر عن حزن لازمَه منذ بواكير شعره. فاليتم الذي نقرأ صوره واستعاراته في شعره ،مجسد في ديوانه الأول (نخلة الله) وهي بآصطلاح الجنوببين وثقافتهم تلك  النخلة التي لا يُعرف زارعها أو مالكها وكأنها نبتت من نواة ملقاة صدفةً في مكان ما، فتبقى متاحة للجميع ولا يرعاها أحد .
يا نخلة الله الوحيدة في الرياح
في كل ليل تملئين عليَّ غربتي الطويلة بالنواح
فأهبّ..جئتكِ..غير أني لا أضم يدي
إلا على الظل الطويل، ولا أمسّ سوى التراب
ولإيمانه بأن البحث لا يحده زمن؛ فقد لجأ للقصيدة المدورة التي لا تنتهي أسطرها كجمل منفصلة ،بل تمتد لاهثة كأنفاسه، وهو يجري  عائداً  في رحلة عكسية ،يبحث في  تاريخ لا يمكن أن يتعين أو يتجسد ثانية، ويتركه كما وصف ذات مرة:
دخّن ودخّن ليس غير الدخان
واسأل بقايا الكأس في كل حان:
كيف مضى الماضي وفات الاوان؟
لقد أتاح له العيش عبر الأزمنة والدوران في الأمكنة النقرضة أن يقابل أسلافه.ففي قصائد هايكو قصيرة يتحدث عن حواراته معهم:، وفي قصائد أخرى  يستحضر الأسلاف الروحيين عبر عزلته التي وصفها في عمل أخير بالعزلة الطيبة ،فيخاطب أباحيان التوحيدي قائلاً في رباعيات العزلة:
لا (مؤانس) غير الجريدة والشاشة
الراطنة ..
خفّ عندي المتاع ..
فإذا آذن الطقس بالبردِ
أوقدتُ أوراقي الراكنة!
ملءَ أدراجها (حكمة) لا تُباع
صمت يودي بالذاكرة والذكرى والكتابة ، كل شيء إلى زوال إختياري كما فعل التوحيدي بكتبه.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*