قرن العزلة

 
قرن العزلة
في الأسطر الأخيرة من ملحمته الروائية (مائة عام من العزلة) يتحدث ماركيز عن مصير مضمر لقرية الخيال (ماكوندو) كما تنبأ به مخطوط ملكيادس، ضمن أحداث قرن كامل غير مرتبة حتى اللحظة التي غدت فيها ماكوندو(إعصارا  مخيفا من الغبار والخراب يذروها غضبُ عاصفةٍ ..لأنه كان مكتوبا أن مدينة المرايا أو السراب تجتثها الريح من الأرض وتنفيها من ذاكرة الإنسان…فالسلالات التي قدَّر لها القدرمائة عام من العزلة لا يمنحها القدر على الأرض فرصة أخرى). وفي تفسير تنبؤات المخطوط نكاد – نحن القراء الشرقيين – أن نطابق واقعنا الغرائبي  بتلك التوقعات.لقد قيل الكثير عن غرائبية وعجائبية أحداث الرواية وسواها من أعمال ماركيز وواقعيتها السحرية كما تصنفها القراءات النقدية: اختلاط الواقع بالمثير والغريب من الأحداث التي تهبها بنية الرواية وإطارها الخيالي وجودا سرديا يتميز بالإمكان والقابلية للتحقق.لكننا في الشرق المنكوب بعواصف مجازية تهب عليه طوال قرن أيضا نميل لتزكية غرائبنا وعجائبية ما يجري في أوطاننا.ليس الخيال هو المسؤول هذه المرة عن ما يحدث .إنه الواقع المؤلم والمأساوي بكل تفاصيله.غرائبية كانت تجعلنا كلما قرأنا ماركيز نسرّ في نفوسنا أمنية خلاصتها أن يتعرف على ما يجري في أوطاننا؛ ليرى ما هو أبعد  من الخيال المرصود في أحداث رواياته وطبائع شخصياته. هذه الأرض التي أضاعت قرنا من الزمن وعاشت سلالاتها عزلة مركبة في أوطانها ، لن يهبها الزمن فرصة أخرى ؛فلقد قدر لها أن تعيش هكذا في تيه واقعها ومرارة حاضرها.بهذا نفسر هروبنا إلى الذاكرة لنرى كِسرا من زمن جميل مرَّ ولم يتجاوزه الحاضر، بل عاشت ثقافاتنا ومجتمعاتنا في قلب الشرق
نكوصاًغريبا تراجعت فيه الأذواق وخفتت نداءات التحديث ، بل انتعشت المهملات الجمالية التي يِفترض – بالاحتكام لمبدأ التعاقب والنسْخ التطوري- أنها تتلاشى، فعادت القبلية هوية متقدمة على سواها ، وازدهرت صناعة الموت بتبشيرمتطرف لم يكن له حضور قبل عقود، وانزوت حرية الأفراد وفي مقدمتها المرأة التي يعد الموقف منها والرؤى حولها مقياس التقدم والعيش في العصر، لا في العزلة المبتغاة من شعارات المد الأصولي المتنامي وتنويعاته الفنية والجمالية المتخلفة ،ونبذه للحريات، وخنق المواهب،وتهميشه للآخر وثقافته . يأخذ الادب حصته من النكوص بشكل إحياء للأشكال  التقليدية والموضوعات التي تجاوزتها الحداثة في زمن صعودها والاقتناع ببرامجها ، في وقت تختفي فيه الجماليات البصرية من فضاءات مدننا ،وتتضاءل السينما صناعة وفكرا، وتختفي المسارح، وتتراجع التوعية السمعية ممثلة بالموسيقى والغناء، ولايعود للمجلة دورها القديم قبل قرن العزلة الذي دخلناه بخسائر لا تحصى ثقافيا.ولا يستقيم لكتاب أو مطبوع فضاء مناسب ليغدو مؤثّرا .
السلالات المورّثة والوريثة معاً تسهم في استكمال العزلة في غبار وخراب شبيه بما تتنبأ به مخطوطة ملكيادس، والقدر يهيء للسلالات مصيرها: لا فرصة لها بعد قرن العزلة إلا الغوص والغرق في العزلة ذاتها…

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*