الرسالة تنويعا على السيرة : أكتب إليك لأعود


رغم أن الاهتمام بنشر رسائل الكتاب والمشاهير تقليد قديم وربما سبق التنظير للكتابة السير-ذاتية ، يظل ما يعرف بأدب الرسائل بحاجة للدراسة وبيان صلته بالكتابة السيرية خاصة ،كونه تنويعا أو تفريعا على السيرة ؛ لما يُفترض أن تتضمنه الرسائل من شهادات ظرفية على ما يحف بكتابتها من علاقات بين المتراسلين أولا ،وبينهم وبين الواقع والمحيط وأحداث العالم ورؤاهم حولها من جهة ثانية.
ونحن نعني هنا بالرسائل التي تعد تنويعا على السيرة ما توفر فيها شرطان أساسيان يردان  في سياق الدراسة ؛ هما:
– أن تكون الرسائل بين أشخاص لهم إضافات في مجالهما ورؤى خاصة مؤشرة ومميزة ما يجعل المراسلة ذات قيمة ثقافية ومعرفية  تأخذها من ثقافة المتراسلين ومكانتهم في الحقول التي يشتغلون فيها.
– وأن تكون ذات بعد ثقافي وسيري يلتقي سياقياً بأدبية الكتابة من حيث أسلوبها وموضوعها.. وليست رسائل ذات مضامين عادية أو تقليدية لها بُعد فردي خالص.
وهذا النوع من الرسائل يؤرخ للحظة الكتابة أو يراجعها لتأتي محفوفة بالأحداث والمواقف التي تأخذ أهمية ما في مجال دراسة السيرة الذاتية لأن فيها مساحات من البوح والتعبير عن الذات وما تعانيه أو تلاقيه وتعيشه في يومياتها ذات الخصوصية إحتكاما إلى وعي كاتبها.
وثمة  مراسلات عديدة ينطبق عليها هذا التوصيف كرسائل مي زيادة مع كتّاب عصرها ومراسلات فدوى طوقان ونازك الملائكة التي درسناها في السيرة النسوية .ولكن رسائل محمود درويش وسميح القاسم أخذت في الثمانينيات مكانة خاصة لدى المتلقين حين كانت تنشر في أسبوعية اليوم السابع الصادرة بباريس.وتأخذ أهميتها مما يشوب موقف الشاعرين من قضايا وطنهما من اختلاف بسبب هجرة درويش وبقاء القاسم في الداخل المحتل.وهذا ما تبينه الرسالة الأولى التي كتبها  محمود درويش  من باريس مؤرخةً في 19-5-1986.
 
      سيرتنا على السطوح!
 
(..وماقيمة أن يتبادل شاعران الرسائل؟) يتساءل دويش في مفتتح الرسالة الأولى وكأنه بهذه الواو يحكي عن شيء سابق بينه وبين سميح القاسم ولا شك في أنه يشير إلى الوعد الذي بينهما ليتكاتبا وقد تأخر ذلك فبادر درويش بالسؤال معترفا بانه تأخر عامين عن وعد المراسلة:( لقد اتفقنا على هذه الفكرة المغرية منذ عامين في مدينة استوكهولم الباردة . وها أنا ذا أعترف بتقصيري, لأنني محروم من متعة التخطيط لسبعة أيام قادمة, فانا مخطوف دائما إلى لا مكان آخر) يشير درويش هنا إلى إقامته الباريسية وقلقه المصاحب لهاوعدم استقراره ما سيجعله يغادر بعد ذلك.
في رسالة درويش الأولى يبين الصلة بين الرسائل والسِّير. يحذر درويش صديقه القاسم من أن القراء شهود على ما سنقول؛ لذا يوصيه بأن يراعي ذلك.ومادام الشاعران  قد اتفقا على نشر رسائلهما فلن يكون لناشر او مؤلف من بعد أن ينشرها في سياق غير ما كتبت فيه.وتلك أبرز مزايا الرسائل وهو سياقيتها أو محيطها الذي كتبت فيه زمانا ومكانا ومادة.وقد وعى درويش ذلك بحس الشاعر والكاتب معا. فيقول في رسالته:( هنا نصمم الكتاب و نضع له الرسائل. لعبتنا مكشوفة. سنعلق سيرتنا على السطوح, أو نواري الخجل من   كُتاب المذكرات بكتابتها في رسائل.
إنتبه جيدا, لن تستطيع قول ما لا يقال. فنحن مطالبان بالعبوس, مطالبان بالصدق والإخفاء ومراقبتهما في آن . مطالبان بأن لا نشوه صورة نمطية أعدتها لنا المخيلة العامة , مطالبان بإجراء تعديل ما على طبيعة أدب الرسائل, أبرزه استبعاد وجوه الشهود وجمالية الضعف الإنساني, فكيف نحل هذه المعضلة التي يحددد بقاءها الفارق بين الرسالة والمقالة ). لقد وضع درويش يده على معضلة الصورة النمطية للكاتب لدى متلقيه وما تبرزه السير والمذكرات والرسائل من خفايا لا تطابق تلك الصورة المتخيلة للكتاب لدى قرائهم.  السيرة ستكون معلقة على السطوح أي على صفحات الصحف عند نشرها ولا مناص لهما إذن من التعديل والمراجعة والحذر من قول ما لايقال . وتلك كلها من أهم ما يشوب كتابة السير الذاتية من عوائق,تشمل ( أدب الرسائل ) الذي يحدده درويش هنا، ويضع حدا فارقا بينه وبين المقالة. وأهم مأزق هو الصدق في سرد الوقائع والمواقف والرؤى ، وفي الآن نفسه إخفاء ذلك إذا ما تعارض مع السائد عن شخصية المتراسلين.الصدق والإخفاء يتقابلان بشكل جدلي هنا لا مجال لتجاوزه.
والملفت في الرسالة الأولى أن درويش يتطرق بجرأة وصراحة إلى واحدة من أكثر المسائل الخلافية حوله في الداخل الفلسطيني، والمتعلق بهجرته مطلع السبعينيات واستقراره خارج فلسطين المحتله ؛معللا ذلك بالضيق الذي صار يشعر به من وطأة الاحتلال..ولكن رفاقه يرون غير ذلك؛ لذا فهو يشير هنا إلى المسالة مصارحا سميح والقراء أنه ليس بنادم على قراره.وبمجاملة واضحة هي من بعض مزايا أدب الرسائل يقول درويش للقاسم (لا أمدّ حنيني على جسر فردي. فكن أنت جسري الصلب, .. لجدل ” الداخل والخارج ” عافية التواصل. عِضني عن غيابٍ لأفرح : مادمتِ هناك أنا هناك ) والعبارة الختامية هذه هي ما وصفناه بالمجاملة الأخوية التي تعج بها الرسائل قبل احتدام النقاش بين الشاعرين.فدرويش يبرر غيابه للقاء سميح في الداخل بقوله لسميح بأنه:مادام هناك فهو هناك أيضاً . كما يرى في الكتابة عبر الرسائل ما يلبي حلمه بالعودة ثانية للمكان الذي يظل الحنين إليه هاجسه الأول.فيقول لسميح:(. سأكتب إليك . . . لأعود . فما زال في وسع الكلمات أن تحمل صاحبها وأن تعيد حاملها المحمول عليها إلى داره ) وتأويلنا هذا سيجد مصداقيته بمراجعة سياق العبارة في الرسالة الأولى التي جعلناها محل دراسة الرسائل المهمة والملفتة بين الشاعرين.
 
مؤنس والياس: ليست مكاتيب بل رسائل ضرورة
بالانتقال إلى رسائل روائيين من الأردن هما مؤنس الرزاز والياس فركوح ستواجهنا تعديلات مهمة على أدب الرسائل.ليست من طراز نموذج درويش وسميح المعد للنشر أصلا قبل المراسلة، ولا نموذج رسائل غادة السمان وغسان كنفاني المستعاد من طرف غادة بعد أعوام من استشهاد غسان، وكتابها الأخير 2016 عن مراسلاتها مع أنسي الحاج ، ولا قيام طرف ثالث كما هوشائع بنشر الرسائل وجمعها-  رسائل السياب مثلا التي جمعها الناقد ماجد السامرائي أو رسائل علي جواد الطاهر التي جمعها ونشرها  الدكتور عبدالرضا علي. هنا ثمة ما يلفت دارس الرسائل وقراءها أيضاً.فأحد المتراسليْن وهو مؤنس غيبه الموت المفاجئ مبكرا.ورسائله  لإلياس ظلت مطوية لديه حتى قام بنشرها بعد   أكثر من ثلاثة عقود من كتابتها وحوالي اثني عشر عاما  من غياب كاتبها.والأمر الثاني الملفت هو فقدان رسائل إلياس وعدم نشرها بالهيئة التي بعثها بها لمؤنس.إنه يستنفر ذاكرته ليعلق على ما كتبه مؤنس من عواصم عاش فيها أو أقام لفترة. ولهذا صارت المراسلة هنا متقابلة : كتابة موثقة في الرسائل ،وقراءة تعقبها بسنوات عوضا عن إجابات كتبت عليها ولم يتسن نشرها لفقدانها أو وجودها لدى مرسل الرسائل الأولى.لذا وجدتُ أن عتبة العنوان بالغة الذكاء، كما أنها معبرة عن سياق المراسلة بشكل وافٍ.فالعنوان يركز على عبارة: ليست مكاتيب، واضعا إياها بين مزدوجين للدلالة على أن ما سيضم الكتاب ليس ممارسة عادية لمكاتيب بالمعنى الشائع المستدل عليه من العبارة الشائعة.كما  يثبت اسمي المتراسلين: مؤنس والياس.وتحت اسم مؤنس ثمة عنوان  فرعي هو: وثيقة ذاك الزمن وتحتها تثبيت لتاريخ هو: 1976- 1981وأسفلها تخطيط لمؤنس .ويقابله على اليساراسم الياس فركوح، وتحته عنوان فرعي : قراءة هذا الوقت،وتحته تاريخ 2013- 2015وأسفلها تخطيط لالياس فركوح .وبهذا يتشارك المتراسلان في عائدية المحتوى رغم غياب احد طرفي المراسلة وفقدان رسائل الثاني .لكن حضور المتراسليْن مشترك وتأليف الكتاب يتم بالمشاركة الغيابية والحضور المدون لمؤنس وغياب الرسائل والحضور الراهن لإلياس. اثنتان وعشرون رسالة وستة أقسام للكتاب المنشور عام 2016 ولكن تعليقات إلياس على الرسائل تحاول أن تسد فراغ غياب رسائله لمؤنس. وبعودة لعتبة الغلاف والعنوان نجد أن العنوان الفرعي يقابل بشكل ذكي ودقيق بين حالين عبر كلمات العنوان الفرعي الثلاثة.لدى مؤنس:(وثيقة)  تكتسب وثائقيتها ومرجعيتها من كونها رسائل موقعة من كاتبها الأول.مشار إليها لبعدها الزمني باسم الإشارة للبعيد: (ذاك).والبدل هنا هو (الزمن).بدلالته الماضية ومروره وما يحمله من معان مضافة تنطوي على الابتعاد والفراق والإيغال في الغياب.بينما نجد في عنوان الياس الفرعي كلمة (قراءة) وصفا للفعل الذي يقوم به الياس بعد نشر الوثيقة-الرسالة.وبكل ما توحي به القراءة من استيعاب للمقروء وتأويله وتحليله والتعليق عليه. أما الإشارة لظرف القراءة فيتم باسم الإشارة للقريب(هذا) متبوعا بالبدل وهو( الوقت) بدلالته الظرفية وتخفيف حمولته الزمنية .فتكون المقابلة مجردة كالآتي:
 
مؤنس:   وثيقة- ذاك – الزمن
إلياس:  قراءة – هذا – الوقت
وبهذا يكسب أدب الرسائل تنويعا جديدا قريب الصلة بالسيرة ،حيث يسرد مؤنس كثيرا من يومياته اللافتة ،لاسيما تلك المتعلقة بحياته في بغداد ،وتحول صلته بالمكان تبعا لوضعه الأسري وما جرى لوالده من موقف السلطة تجاهه.
بينما تعيش تعقيبات واستطرادات وتذكرات إلياس على اللحظة الراهنة، فيتم إسقاط وعيه أثناء قراءة الرسائل بما يتشكل حاليا وفي هذا الوقت كما ينص العنوان الجانبي.فتزداد أهمية الرسائل غنى لما تجليها التعليقات اللاحقة من مواقف ورؤى.وتختلط مفردات السيرة الثقافية والسياسية بالسيرة الإجتماعية والأوضاع التي يعيشها المتراسلان أثناء المراسلة وقراءتها بضوء الراهن الذي يصفه إلياس بأنه الزمن الداعشي ولحظة فقدان الحرية والحقيقة والحياة بالضرورة…….
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*