مع عبدالوهايب البياتي-عمّان

البياتي من الرؤية  الواقعية إلى الرؤيا الخيالية

 
 
تحظى الحركة الشعرية العراقية المقترنة بالتجديد في عقد الأرٍبعينيات من القرن الماضي باهتمام الباحثين والنقاد بكونها المحاولة الجذرية الأولى لتغيير إيقاع القصيدة العربية ،واقتراح النظام السطري بدل البيت الشعري، وتعدد التفعيلات بدل وحدتها الثابتة ، وانفتاحها على الثقافة العالمية، وتقنيات الكتابة الشعرية الغربية باستضافة الرموز والأساطير إلى موضوعاتها المرتبطة أساسا بواقع جديد سعى الشعراء لخلقه ، معترضين على الأنظمة والسياقات الاجتماعية السائدة والثقافات ومنها اللغة وإجراءات الفنون المتنوعة وتأثيرها ببعضها.وإذا كانت تلك المحاولات الريادية للسياب ونازك والبياتي قد ارتبطت بمرحلة التجديد ؛فقد أسهمت بفتح طرق الحداثة للكتابة الشعرية اللاحقة، وباعدت بينها وبين التقليد الذي أشاعه شعراء النهضة في جسد القصيدة ،وتسببوا في جمود دمها وفقدان حيويتها.
والبياتي رغم تأخر انضمامه للحركة التجديدية في لحظة انطلاقها التاريخية استطاع أن يؤمن لقصائده مكانة خاصة تُناظر أو تُقابل رومانسية البدايات السيابية وكتابات نازك الملائكة ،ما دعا ناقدا وأكاديميا هو الدكتور إحسان عباس إلى عدّه رائدا للتجديد الشعري في كتابه الصادر عام 1955 (عبدالوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث) ووصْفه له بأنه يمثل المزاج أو الأسلوب الغربي في الكتابة الجديدة ،فيما يميل السياب إلى إنجاز معمار باذخ لغة وبناء وصورا، ولهذا انقسمت الذائقة الشعرية إلى سيابيين وبياتييين يتبع كلاً منهما فريق من الشعراء والباحثين.
وتأتي دراسة الباحث الأستاذ مصطفى الرادقي لتؤكد ما أنجزه البياتي خلال مرحلة مهمة من تطوره الشعري الذي بدأ بتحقيق الرؤية الواقعية تأثرا بالتيارات الماركسية الشائعة ،واقتران الأدب بالشعب والتعبير عن الواقع ،وشيوع مقولة الالتزام، وانعطف إلى مرحلة الرؤيا التي تستكشف المستقبل عبر تعضيد الموضوع ومضامينه الممكنة في النص الشعري بالأساطير والرموز.وذلك ما تنبهت إليه الدراسة في فصولها الممتثلة لمنهج الباحث الذي سماه في تقديمه  وهو المنهج الموضوعاتي الذي دشن تفاصيله وقعّد له ريشار
وآخرون ،ووصفه  الباحث كمقترب عبر من خلاله إلى نصوص ديوان من أهم دواوين البياتي هو( الكتابة على الطين) مستقصيا استخداماته الرمزية والأسطورية.
وقد تنبه الباحث إلى ما تحمله عتبة العنوان من مفارقة وكونها موجّها  مؤثرا من موجهات القراءة، فالرمزي والأسطوري لدى البياتي قد يوحي بالتعارض مع النزعة الواقعية التي طبعت شعره في مختلف مراحله وانطبع أسلوبه بها.كما تنبه إلى مفارقة استخدام المنهج الموضوعاتي المهتم بالخليّة  المولّدة أو الجذر المعنوي الذي تتفرع عنه مفردات -وصور ومعاني- النص.لكنني وجدت الباحث قد وفق كثيرا بين تلك المعطيات عبر إجراءات القراءة والتحليل.وطبق ملاحظة غريماس الهامة حول صلة الموضوع بالبنية الشعرية حين دعا إلى أن تكون غاية الدراسات الثيماتيكية عامة هي دراسة الموضوع جزءا من التركيب الفني وليس العكس.لذا وجد الباحث أن البياتي يشتغل على أسطرة وترميز موتيفات وثيمات القصيدةبكونها جزءا حيويا يتشكل عبره البناء النصي .وهذا ما تؤكده الدراسات التحليية للنصوص المختارة من ديوان (الكتابة على الطين).فالمعاينة النصية وإن كانت بهدف تعقب ظهور الرموز والأساطير في النص لكنها احتفت بطرق تشكل تلك المواد كتراكيب نصية تدعم الموضوع  وتزيد من فاعلية تأثيره في المتلقي وضمان تشاركه في الإحساس به.
إن المفارقة  الحقيقية تكمن في ما انتهى إليه شعر البياتي من عزلة عن (جمهوره) الذي يعوّل عليه كثيرا ،ويعدّه هدف القصيدة ومصيرها.كثيرا ما نافح البياتي في بدء حياته في الشعر عن الفقراء والمقهورين، وطالب بالعدل المفقود،حدّ أن تمنى لو( يُمنح الشحاذُ عرشَ الشاه) لكنه اعترف في لحظة شعرية: حزينة ودراماتيكية بأننا( فقراء- يا قمري- نموت/ وقطارنا أبداً يفوت).هكذا أكملت النهاية حزنا لم تره القراءات السياسية التي انهمكت -وهي تتهافت على شعره – في سلخ الهدف المرحلي والقريب فأشاعته، ليتراجع بذلك حزنه العميق الذي سيظهر بشكل جلي في احتكاكه ثم باستدعاء الأساطير الكونية عن حيوات البشر ومصائرهم الصوفية وأدبياتها وسيَرالمتصوفة ومعاناتهم ،وفي الرهان على أن شعره مثَّل الاستجابة الحقيقية للمؤثر الأوربي وتجلياته في النص الشعري تكمن مفارقة أخرى ،فهو لم يواصل تعقب الحداثة الأوربية واكتفى منها بالاقتراب من كل ما هو شعري في  تفاصيل الحياة حتى العادي والمألوف. ثوري ومتصوف ،مجدد ومحافظ ،مقيم ومسافر، تلك بعض عناوين البياتي الدالة على ديناميكية حياته. بحثُه  الدائم عن الحرية جعله يصطدم بمدنه الفاضلة، فكتب عن جدار برلين الذي يتمدد حتى بعد انهياره ، وعن (مدن بلا فجر تنام )متدثرة بأغطية الحضارة التي لا تخفي عريها وبرْدها، وعن طغاة جعلوا العالم أشد بشاعة وضيقا وبؤسا.وعن مزورين يبيعون( نسورهم) ويوغلون في الجريمة.وسط هذه الحفلة الصاخبة من المفردات التي فاضت بها حياة البياتي وقصائده يلتمع الوعد العصي الذي يرفع شعره عن الأرض ليحدق في عين الشمس وينتظر المستحيل،ذلك الذي لخصه بعنوان أحد دواوينه: يأتي ولا يأتي.
لقد ركز الباحث دفاعه عن المواءمة بين الواقعي والأسطوري بالقول(أن تطوراً قد حصل في الوعي الشعري للبياتي ، بحيث أصبح يؤمن بأن ما يضمن للشعر قوته هو انفصاله عن الواقع وليس غرقه فيه واستنساخه بطريقة حَرفية لا حياةَ فيها .( فالشعر – كما يقول البياتي نفسُه – إبداعٌ للواقع وليس انعكاساً له ). وهذا التشخيص يمكن تلخيصه أيضاً بانتقال البياتي من (الرؤية) الواقعية المرتهنة بالحدث وانعكاسه وردّ الفعل شعريا عليه ، إلى (الرؤيا ) التي تستجلب معها الأسطورة والرموز لتقوية مضامين النص، وتعلي من هدفه ليغدو متناً متجددا لا يبلى مع الحدث العابر الذي ترهن الواقعية التقليدية نصوصَها به.
إن دراسة الأستاذ مصطفى الرادقي قد أنجزت أكثر من هدف سواء بالاحتكاك النصي بشعر البياتي، أو تحرير النظر إلى الموضوعاتية كمقترب دراسي وإجرائي، بجانب المهمة الأكبر وهي البحث عن ماهو واقعي وأسطوري في واحد من أهم دواوين البياتي وشاهد على تحولات وعيه بالكتابة الشعرية.وأحسب أن الاهتمام بالأسطوري والرمزي واتحادهما في التركيب الشعري لم يكن مفاجئا، بل سبق إليه السياب كما أشار الباحث وخليل حاوي ،وإن اختلفتُ مع الباحث في وصفه لحاوي بأنه(اكتشف)اسطورة تموز، فيما أرى أن السياب هو السباق زمنيا لذلك وبوعي جعل منها أداة تركيبية وجزءا من بنية النص لا مجرد ذكر أو إشارة عابرة. وأود الإشارة إلى أن تأثير الجنود البولونيين في الثقافة العراقية إبان الحرب الكونية الثانية لم يكن له جانب يذكر شعريا بل انحصر كما تشير مذكرات الفنان جواد سليم وتعليقات جبرا ابراهيم جبرا  وشاكر حسن آل سعيد وبلند الحيدري في التشكيل خاصة ،وبعرض بعض الأفلام والقطع الموسيقية.
لقد أضيف الكثير لمكتبة الدراسات الشعرية بهذا البحث  المنهجي المعمق للأستاذ مصطفى الرادقي ، وبتوجيه مشرفه الناقد الدكتور بنعيسى بوحماله المهتم بالشعر و مناخاته في المشرق والعراق خاصة والذي درس في بحث أكاديمي للدكتوراه شاعرا عراقيا بارزا هو حسب الشيخ جعفر.وستكون توصلات البحث محل اهتمام في القراءة الفاحصة المتعقبة لتجليات الواقعي والأسطوري في النصوص التي درسها الباحث، بعد أن ألقى الضوء على السياقات الثقافية التي رافقت حركة الشعر الحر في بداياتها، وكذلك سياقات النشأة والثقافة والمؤثرات لدى البياتي كشاعر من أبرز رواد التجديد في القصيدة العربية

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*