الشاعر وطبائعه الأربع:عن كمال سبتي

 
 
 
 
 
 القصيدة في موقف الاحتجاج
 
ينصت كمال سبتي إلى ما تقوله طبائع الجسد الأربع كما يشير عنوان ديوانه الأخير (الثامن في إصداراته منذ عام 1980), لكن القارئ سيجد مرجعاً آخر ينصت له الشاعر هو نداء قصيدته التي فرضت طبائعها, وسحبت عناصر الخطاب الشعري إلى بؤرتها, وهو ما سينصت له القارئ أيضاً وتمتثل له قراءته بالضرورة.
وإذا كان العنوان ( صبراً قالت الطبائع الأربع) يوحي بأن الجسد هو الذي يهدئ هيجان طبائع الشعر, فإن العكس هو ما سيتحصل من القراءة المزودة بذاكرة وخبرة سابقة عن عمل الشاعر الذي _ بوجود نادر بين شعراء جيله السبعيني_ لم يحتكم إلى الممثالة والاجترار الأسلوبي, بل ركن منذ تجاربه الأولى إلى ما في القصيدة الحديثة من انفتاح على السرد, وما في قصيدة النثر خاصة من إيقاعات بديلة..
لقد كانت انتقالة  كمال سبتي المبكرة إلى قصيدة النثر جزءاً من رؤية تنامت لديه وتبلورت عبر خسائره  واحتراقاته الشخصية وتجاربه في ظروف غير شعرية تماماً, كالجندية الإجبارية, والخروج الاضطراري من الوطن, والعيش في المنفى, وما يتولد عن ذلك من مفردات حياتية انعكست في شعره, وكرست منحى قصيدته السردي, والكتابة الشعرية المستفيدة من امتدادات النثر وتوسعات المخيلة وتنويعات الإيقاع .. فكان ديوانه السابق (آخرون قبل هذا الوقت) اشتغالاً على مؤاخاة الزمن بالبشر, والأيام بالأشياء وكأنه يقترح على قارئه موقفاً(ظاهراتياً) لا يغدو فيه للأشياء وجودها المستقل, فكل شيء هنا _في قصائد الديوان الأربع الطويلة وذات الهيئة السطرية لا البيتية_ متشكل بما يسقط عليه الشاعر من وعي وشعور فالغابة, والجسد, والشتاء والبحر, والقارب_ وهي الكلمات المفاتيح المواجهة للقارئ في مطلع القصائد الأربع ما هي إلا موجودات خاصة بالشاعر لا سواه, لذا فلا غرابة أن تبدأ قصيدة الديوان الرئيسية والتي اتخذ عنوانها عنواناً للديوان (آخرون قبل هذا الوقت) بعبارة (الشتاء قرب البحر) مزاوجة بين زمن شجي ومكان شاعري, يؤطرهما الشعور بالحزن الذي يُؤكده سطر القصيدة الأول حيث (دموع الساحل) والسطر الثاني ( النعش) و( العجوز التي ترسم عكازاً..).. فالبحر هنا دال مكيَف شعرياً أي أن وجوده الشعري مصنوع بمخيلة الشاعر ورؤيته الملونة بالسواد..
ومن انفرادات كمال سبتي بين شعراء جيله الخاضعين_ افتراضاً_ للمؤثرات والمرجعيات الثقافية ذاتها, تدعيمه لنصوصه باختيارات مما توفرت عليه ثقافته المتنوعة, إذ تتصدر قصائده اقتباسات متنوعة المصادر: الحلاج والجواهري وبيانات ثوار 1920, وتمتلئ الحواشي والهوامش التي يحرص على تثبيتها آخر القصائد بتفسير تلك الاقتباسات التي تتدرج لتصبح جزءاً من عملية (تناص) ضخمة
 
تصاحب قصائده وتحف بسياقاتها النصية, فيذكر مراجعه في تلك الحواشي ويتوسع في الإحالات ليؤكد حضور النص المستلف أو المجلوب إلى نصه.. ويؤازر ذلك إهداءات القصائد الملفتة للاهتمام والداخله كموجّه قوي لقراءة القارئ, وكذلك حرصه على تثبيت تواريخ قصائده وزمن الفراغ من كتابتها بدقة فائقة.. وفي قصائد ديوانه الأخير يتطور حضور النص الأول داخل قصيدته ويصبح جزءاً منها أي أن المقتبس لا يتصدر قصيدته أو يتراجع إلى حواشيها المستفيضة بل يدخل في نسيجها ولا يكتفي بدور العتبة أو الموجّه, فتكون الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأشعار القديمة والأقوال المضمّنة جزءاً من بنية القصيدة ذاتها.. فنجد في قصائده مثلاً هذا اللون من التناص مع قولٍ لأبن رشد:
قال ابن رشد مرةً في خبر السماء
إن السماءَ حَيَوان ٌ طائعٌ
وصاحب العقل
يقوده كما يشاء
 
فجملة( السماء حيوان طائع) من أقوال ابن رشد في (تهافت التهافت) كما يوضح هامش بسطرين أسفل الصفحة شارحاً( الإشارة إلى العقل الأول في الفلسفة الرشدية)…
وكذلك تبدأ قصيدة أخرى عن جابر بن حيان:
جابر قال في كتاب الرحمة: الإكسير سرّ الله..
هذان مثلان من عديد المواضع التي كشف فيها الشاعر تناصاته وسمّى مراجعه وأفسد على القارئ متعة اكتشاف آلية التناص وعمله بالعودة إلى ما يسميه نقاد التلقي (ذخيرة القراءة).. وسنلاحظ أن بعض هوامش القصائد تفوق أبياتها أحياناً (بيتان من بحر الطويل يضع لهما الشاعر ثلاثة أسطر في الهامش ليشرح عمله في عروض البيتين)..
بالنسبة لي أمتلك شخصياً تفسيراً لذلك بحكم متابعتي لتجربة كمال سبتي نقدياً منذ ديوانه الأول (وردة البحر) فهو ذو وعي بلغة القصيدة يزيد عما يتطلبه نظمها وتأليفها (أو شعريتها في المصطلح النقدي الجديد) وبذلك يخلق ما يمكن تسميته (ميتا- قصيدة) أي أنه يسند لنصّه وظيفة مزدوجة: توصيل تجربته في النص بنيةً وإيقاعاً ودلالة, ومراقبة النص عند الكتابة. وهو ما ينتج عنه استطرادات وتبسط مع القارئ وإكراهات لغوية ودلالية توجّه القراءة, قسرياً, وهي جزء من (قلق) الشاعر الفائق وخوفه من فقدان التوصيل والتواصل مع المتلقي بحسب نياته ومقاصد قصيدته.. وأدلل على ذلك بالأسطر الخمسة التي همش بها على قصيدة( المأموم) والتي كرسها- أي الأسطر الهامشية- للتعليق على قاعدة نحوية خاصة باجتماع الزمن المستقبل وصيغة الاستفهام..
 
قارئ  كما ل سبتي سيقع في موقف استغراب ودهشة, إذ كيف يتمرد شاعر على نسق القصيدة التقليدية الموروثة, ويجترح إيقاعات بديلة وهيئة شكلية جديدة, ثم تستوقفه قاعدة نحوية تحتمل الجواز؟
هذا القلق المتأتي من حرص على الصياغة والتركيب وضمان وصول الدلالة وما يحف بها من إيقاعات تنعكس في مظهر آخر لمسته لدى الشاعر أيام إقامته ببغداد, إذ كان يحرص على تصحيح بروفات قصائده بنفسه قبل نشرها في المجلات والصحف وفي الدواوين أيضاً.. وهو قلق يصل إلى حالة ( الفوبيا) أي الرهاب المفضي إلى خوف مفرط من الخطأ وهو خوف وجدته لدى شاعر من جيل آخر هو محمود البريكان الذي وصل به الخوف  والقلق حدّ التوقف طويلاً عن النشر..
……………………………………………
وثمة ما سيكشف طبائع القصائد في قراءة عمل كمال سبتي : إذ تتخفى حداثته الشعرية وراء صياغات تعتمد المفارقة كموقف ورؤية.. فهو يختار (الوزن) إطاراً لقصائد الديوان كلها.. وكأنه بتراجعه هذا إلى الوزنية – بعد تجارب طيبة وكثيرة في كتابة قصيدة النثر- يريد أن يطلق احتجاجاً ذا دوي على ما يحدث في اللحظة التي يصوغ فيها نصوصه.. وقد يتذكر القارئ( لمناسبة هذا الصراخ والأنين المناسب للوزن والتقفية في الديوان) أن (اللبوة الجريحة) وهي إحدى المنحوتات القديمة في  وطن الشاعر_العراق_ ومن أشهر أعمال ما بين النهرين الفنية, تفتح فمها صارخة بينما السهام تملأ جسدها الذي ظل جميلاً رشيقاً رغم الألم..
هنا سوف يتناظر صوت القصائد الصاخب والمدوي والمعبر عن الألم مع صراخ كائن المنحوتة القديمة.. وسيكون للعنوان وظيفة أخرى: إذ أن الجسد هذه المرة وعبر طبائعه الأربع أو عناصره المكونة هو الذي يقول للقصيدة: صبراً.. ويحاول تهدئة هيجانها اللغوي والتصويري.. واحتشادها المعرفي حيث عرض كمال سبتي أطرافاً متباعدة المصدر من ثقافة غنية يمتلكها وكان الديوان بقصائده المتفرقة مناسبة لظهورها.. وهذا يجعل النص غنياً بالإشارات والإحالات التي تشرك القارئ في عملية الاستذكار والتناص..
وسنلاحظ استفادة كمال سبتي  من خبرته المبكرة في إدخال السرد ضمن النسيج النصي وقد وجدت لهذا الحضور السردي في شعره ثلاثة مظاهر بارزة هي:

  1. التنضيد الخطي والتشكيل السطري للديوان بحسب الجملة الشعرية مهما امتدت وتوسعت وليس بحسب البيت الشعري المحدد بالدلالة القريبة والتركيب المستقل رغم تأطير الهيئة النصية بالوزن الحرفي في القصائد كلها, فنقرأ مثلاُ :

( صبر مضى صبر سيمضي وهي طعمٌ ما تمطّقه اللسان)
إذ تتنضد جملتان نحويتان وجملة ثالثة (اسمية) دون عطف أو وقف.. وهذه بعض الإشارات أو العلامات الهاربة من هيئة الديوان الوزنية تؤكد تبني الشاعر لحداثة أسلوبية أكيدة.

  1. عرض مفردات وكِسَر من السيرة اليومية لحياة الشاعر.. ورغم  شحة ما تبوح به السيرة الشعرية في العادة, إلا أنها, كمظهر سردي في قصيدة النثر العربية المعاصرة, تشي برغبة الشاعر في استحضار النثري بشتى كيفياته وهيئاته الممكنة.. فنقرأ في قصيدة ( تلك السعادة غائبة) جزءاً من يوميات رتيبة في المكان: اسبانيا (القريبة) و( أرياف البلاد الواطئة) و(البلاد البعيدة-العراق).

وفي الزمان (الأزل, الصباح, الليل..) وفي الأفعال والأحداث( الفطور, رحلة السوق اليومية, المشي في الطريق, جلسة الكأس) وكذلك في قصيدة تليها هي ( أيامي) التي تؤكد مقاطعها الأربعة تلك الرتابة المتمثلة بتشابه أيام الشاعر.
ولا يعني ذلك أن القصيدة هنا تريد أن تقوم بدور توثيقي لما هو حياتي حتى في مراثي من فقدهم الشاعر في وطنه البعيد من أخوة أو أصدقاء وظل لهم في الذاكرة صور تنقلها القصائد في هيئة بورتريهات مطولة ومقرّبة أيضاً لكنها مصاغة بفنية ترفع أصحابها إلى فضاءات شعرية فيكون لهم وجه شعري يتجاوز ملامحهم وهيئاتهم..

  1. الحوار الذي تشتغل من خلاله اللغة لأداء وظيفة سردية في الأساس فتنشغل اللغة عن الوصف أو أحداث السرد, وعن إنجاز الفضاء المجازي للقول الشعري, بتقمص أصوات القصيدة ورؤى الساردين أو المشاركين في الحدث عبر مونولوجات داخلية وحوارات خارجية بالإسناد المباشر القريب من النثر(قال- قلت..) أو بالاستبطان والتداعي أحياناً.. وهي حواريات تأخذ مساحة واضحة في بنية النص.

…………………………………………
التاريخ عنصر معرفي ضاغط في تجربة كمال سبتي, ومعرفية هذا المصدر الواضح في الديوان تأتي من قراءة متفحصة للماضي, وتصل إلى درجة التماهي به خطاباً ولغة.. وهو ما رصدته قراءات متعددة لشعر كمال سبتي, لكن الذي يهمني هنا هو ( حضور) التاريخ كأحداث ووقائع وشخصيات ودلالات بكثافة تغطي القصائد وتجعلها مندرجة في (تاريخية) خاصة لا سبيل لقراءة القصائد إلا من خلالها..
في لغة كمال سبتي وتناصاته وفي العنونة وعتبات نصوصه الأخرى, وفي أنساقه وسياقات قصائده لا خيار لنا باستبدال الحضور التاريخي بمدلولات معاصرة مثلاً أو معاملة ذلك الحضور كترميز ساذج يعطينا ما يساويه في حياتنا أو عصرنا..
ويقوي ذلك الاستحضار الواعي والمكثف للتاريخي في إطار الشعري هنا, ما أسميته بالتماهي مع التاريخ كخطاب, فعنوان قصيدة مثل ( قال في البسيط) تنقل القارئ مباشرة إلى تقنية الدواوين القديمة التي تغفل عنونة القصائد وتدرجها في الغرض أو الوزن الشعري.. كما يأخذ هذا الاحتفاء بالتاريخ مظهراً آخر هو كثرة التناصات من الموروث الثقافي والشعري.. وكأن الشاعر بعودته العكسية إلى الماضي, حتى وهو يكتب شعراً تقليدياً موزوناً ومقفىً بشطرين, يريد ملاطفة أو مداعبة هذا الواقع الضاغط على وعيه وشعوره وإحساسه, فكأنه يشاكسنا بمفارقة تتلخص بالعودة الوزنية  ويلزم نفسه بما لا يلزم سواه كما فعل المعري قديماً في لزومياته محتجاً على العالم ومعترضاً على تشكلاته ومؤسساته, وكما حاول بطريقة
 
أكثر تشدداً وتقليدية الشاعر حسب الشيخ جعفر في تجارب السنوات الأخيرة.. ولكن كمال سبتي يجد في هيجان الأحداث نفسها ما يبرر كل احتدام شعري وهيجان لغوي وصوري ومشاكسة شكلية بالنقيض الذي هجره أسلوبياً في تجاربه الشعرية السابقة, ووجد له هنا مراجع أخرى وأسلافاً قدامى من الشعراء..
أما (بلاد) الشاعر التي كتب فيها احتراقاته وخسائره ودوّن ما تتعرض له فإن قراءة الديوان على اعتبار وجودها, سيقود إلى ملامسة المنفى والماضي عبر ما يحدث لهذه البلاد في الحاضر من خراب وموت يومي..
ولعل أبرز ما يمثل هذا الموضوع قصيدة(بلادي) ذات المعالجة المريرة والدامعة بدءاً من العنوان.. ومفتتح القصيدة الذي يلخص رؤية الشاعر لمحنة وطنه:
بلادي التي سوف تُذبح باسم الجميع
بلادي التي أنجبتني فقالوا
لقد جئتِ شيئاً فريا
بلادي التي شردتني
ولم تكُ, قالوا, بغيّا
وهذا ما يتأكد في قصائد أخرى مثل (المجزرة) التي تسمي ببلاغة واختصار دعاة الموت وكتائب الحرب منطلقة كذلك من آية قرآنية كأنما لتعضد الملفوظ المتنزل من علياء الكلام وفضاء المجاز ولكن قبل ذلك كله من نار التجربة التي وجد كمال سبتي نفسه داخل لهبها في الوطن والمنفى في آن واحد..
_______________
.كتبت المقالة وقرأها كمال قبل أيام من وفاته  بهولندا عام2006
. كمال سبتي :  صبرا..ً قالت الطبائع الأربع, دار الجمل- كولونيا-  2006 م
 
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*