صلاح الأصبحي :عن حاتم الصكَر الذي جعل النقد تفاحة يانعة-


الأربعاء 2-08-2017 – جريدة العربي
صلاح الأصبحي
   
 
 
يكتب النقد وكأنه يكتب نصاً إبداعياً أو يقول فكراً وفلسفة، يكتنفك الحنين والشوق له أكثر من مرة.
كثير من النقاد العرب المرموقين، والأعلام المشهورين، الذين عملوا محاضرين في جامعة صنعاء وبعض الجامعات اليمنية في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، ومنهم من بقي إلى الألفية الثالثة، لم يكن لهم وجود في الأدب اليمني، بينما كان للأستاذ الدكتور، حاتم الصكر، الناقد العراقي الفذ، أثر جسيم وحميم، وصلة متدفقة بالأدب اليمني شعراً وسرداً ونقداً، عكست النور والعمق النقدي الذي بجعبته. لقد أظهر هذا الناقد الفكر النقدي بحلة بهية ومذاق فريد، أقبل عليه القراء والمهتمون والمختصون بنهم بالغ وشغف كبير، كأن لم يتذوقوا نقداً قبله أبداً بهذه الشهية وبهذا التميز، الذي منح نقده الإعتناق والقداسة من قبل القراء العرب في الأوطان وفي المنفى، منذ أن شق طريقه إلى الوجود في السبعينيات وحتى اللحظة.
منذ أن استوطن هذا الناقد العاصمة اليمنية صنعاء لتمثلها وطناً ومنفى في آن واحد في تسعينيات القرن العشرين، محاضراً أكاديمياً قبل أن ينال شهادة الدكتوراه في العام 1998م من جامعتها، لم يكتف بهذا الدور ولم يبق على هذه الشاكلة، وإنما فتح الباب واسعاً ليكون شعلة تنوير، ومنبع ارتواء للأدب اليمني. لم تحجبه عن صنعاء وأدبائها غربة الدار أو حدود الواجب الوظيفي، بل إن مثقفاً نهماً كحاتم الصكر سرعان ما عقد صلته مع الأرض والإنسان، مع الإبداع والجمال، مع الحياة العامة والحياة الأدبية يمتزج بها حد التماهي، متفنناً في نبش الأغوار وتفحص القدرات، إذ صار مطمحاً لكثير من الشعراء والساردين الذين اتخذوه نوراً لتجاربهم، ومنبعاً لوعيهم، فكان أهلاً لذلك، طالما أن اشتغاله واسع الأفق وعميق المطلع، وطالما أنه متمرس بفنون الأدب والنقد بكل مظاهرها وتجلياتها العربية والعالمية، وموسوعي في قراءاته واطلاعاته.
لستُ هنا بصدد أن أكتب في مجال نقد النقد، كتفرع من النقد يناقش ويدرس الطرق والأساليب والآليات الخاصة بكل ناقد، لكنني أحلم بأن أقترب عن كثب من ناقد عربي بحجم حاتم الصكر، ذلك الخط المميز واللون المنفرد في كتابة النقد أولاً، وكذلك أن أشير ولو تلميحاً إلى الدور الفاعل والحيوي الذي صنعه بحق أدبنا اليمني ثانياً، كحق وفضل في أعناقنا من الجدير أن نشيد به ونتذكر جهوده التي لا تخفت، وآثاره التي لا تتلاشى، وأن أقيس حجم الخسارة والفراغ الذي تركه حينما غادر صنعاء وعجزنا عن أن نملأه.
في البدء، ليس بخاف على أحد مسألة التذمر والضيق الذي يخلقه النقد الأكاديمي المنهجي، النقد الذي يستند بشكل رسمي إلى النظريات والرؤى الحداثية من البنيوية والأسلوبية، ونظرية التأويل والتفكيك والتلقي، ونظرية النقد الثقافي والكثير من الأطر النظرية التي تُتّخذ كسند رئيسي في دراسة الأدب وقراءته، وهي في مجملها تثير الضغينة والسأم من قبل الأدباء أولاً والقراء ثانياً، وأحياناً من قبل المتخصصين بالنقد؛ لشعورهم بالجفاف والتصحر والغلظة التي تثيرها هذه الدراسات، ويبلغ بهم الملل حد إصابتهم بالصداع لو سمعوا بهذا العلم. ولا حرج في أن نقول إنه ساد النقدَ في الآونة الأخيرة، ومن هذا المنطلق، الكثير من الهجر والغربة والتقلص في الأوساط الأدبية والمنابر الثقافية والكتب والمجلات المهتمة بهذا الشأن، وبات النقد يبني له مسكن خارج الواقع الأدبي في حي مهجور خاص بالنخبة.
ولعل الأسباب كثيرة، لكن من أهمها، كما ذكرت، تحويل النقد إلى شيفرات ورموز في عملية التحليل. وفي هذه النقطة الحرجة، يصنع حاتم الصكر وجوده، ويبعث إشراقاته، فيطلّ كنجم ساطع وبريق لامع يستعيد للنقد جمهوره، ويسترجع له بعضاً من مكانته، وهو الملم بكل المناهج والنظريات، والناقد الحصيف الحريص والمنهجي الذي لا تعبره تلك النظريات والمدارس النقدية بمتاهتها وضجيجها، الناقد الذي لا يضيع في أقبيتها، الناقد الذي يحكم قبضته عليها، الناقد الذي يمتص صلفها وسخطها ويقدمها كتفاحة يانعة، الناقد الذي يستخدمها ويسير على نهجها لكنها لا تحوله إلى آلة أو مجرد تابع، وإنما يشعرك كم أنها جميلة ولذيذة، كم أنها عميقة وناضجة، في عمقها جمال، وفي نضجها دواء. على مدى عقد ونيف من الزمن صار الناقد حاتم الصكر رافداً مهماً من روافد الأدب اليمني
في حديث لي مع الصديق الناقد والشاعر، محمد البكري، قال: حاتم الصكر الوحيد من النقاد العرب الذي تقرأ له نقداً منهجياً لكن بمتعة فائقة وعمق متوغل ومعرفة بلا نهاية. وهو محق في ذلك، فكلما قرأت بحثاً له أو كتاباً نقدياً تجني الكثير من الثمار للحاضر والمستقبل. يكتب النقد وكأنه يكتب نصاً إبداعياً أو يقول فكراً وفلسفة، يكتنفك الحنين والشوق له أكثر من مرة. ومن هنا، فالصورة الحقيقية للنقد التي جاء بها حاتم الصكر تُعدّ نقطة مهمة في مسار النقد العربي؛ لأنه منح النقد روحاً وإحساساً تفقدها ذاته عند غيره، وكساه بلغة عذبة ومشرقة دافئة وحنونة لا يشكو صقيع البنيوية ولا عراء التفكيك ولا تشرد التأويل، وَهبَه ثقة بالذات، وخفة بالدم، وملمح فتوة، ومنظراً بهياً. وبهذا الإنجاز، يُعدّ عمله النقدي متجاوزاً للتعثر المصاحب له خارج حاتمه، ولا أظن أنني من أشعر بذلك وحيداً، بل يتبعني قراء كثر يماثلونني الرؤية والرؤيا لهذا العملاق.
وبالعودة لدوره في الأدب اليمني حيث لم يختصّ بفعل الكتابة وحدها، وإنما امتد به الأمر إلى أن يقيم صداقة حميمية وإبداعية وروحية وعلاقات مفتوحة مع كل الشعراء والروائيين والقصاص، وسرب من الباحثين الذين وجدوا فيه أفقاً من التواضع وكوناً من الحنين والقربى، فلعلّ تلك الفترة التي أقام فيها في اليمن تُعدّ المرحلة الذهبية التي ظهر وأظهر فيها الأدب اليمني ألذّ ما عنده، ولذا فقد استقامت الكثير من التجارب والمواهب الأدبية اليمنية، وخرجت إلى النور على يده بما يملك من ليونة وسعة في الاطلاع وصدر رحب يحتضن ذلك الإبداع، فبذل ما بوسعه من أجله. 
فعلى مدى عقد ونيف من الزمن صار الناقد حاتم الصكر رافداً مهماً من روافد الأدب اليمني؛ إذ تنوعت كتاباته وكتبه حول الأدب اليمني، وخاصة أنه كان مبتغى للجيل الشاب الذي يستمد منه قوته، ويستوحي من ظلاله عناقيد صعود وأزهار طموح، ليس لكونه الناقد الوحيد الموجود في اليمن، وإنما لقدرته الفائقة على استيعاب المشهد الثقافي بكل تفاصيله الشعرية والسردية، حيث اقترب عن كثب من الجيل الصاعد وأخذ بيده، ناقداً ثاقباً وفاحصاً مجرباً وصديقاً ناصحاً، يقوّم التجارب الشابة بحسب معطياتها المختلفة، بما يدفع بها نحو الثبات والاستقرار بروح مبدعة تنبع من وحي الوعي والمعرفة والشغل الفني، بل تجده قد احتضن هذا الجيل واستطاع بقدرته النقدية الأصيلة أن يؤسس لجيل مبدع متعمق.
له أكثر من كتاب خُصّص للأدب اليمني، كـ«قصيدة النثر في اليمن – أصوات وأجيال» الصادر في العام 2003م، و«انفجار الصمت: الكتابة النسوية في اليمن – دراسة ومختارات» (2003م)، وعشرات الأبحاث ومئات المقالات المتوزعة بين الصحف والمجلات، والتي أُدرج بعضها ضمن مؤلفات أخرى له بحسب السياق الذي ورد فيه، وكذلك الأوراق النقدية في المؤتمرات والندوات التي أقيمت في اليمن في تلك الفترة، حيث كان الصكر مشاركاً فاعلاً ومرجعاً خصباً لكل من يريد دراسة الأدب اليمني. ولعل جهده في الأدب اليمني يتطلب دراسة مكتملة في إطار رسالة علمية يحصيه عدداً، ويكشف أثره المتوهج على أدبنا، ويستخلص أسلوبه وآلياته النقدية. 
ومن الناحية الشخصية، حينما صعدت من تعز إلى صنعاء في 2010م، كان من أهم أولوياتي اللقاء به في صنعاء. وبالفعل، تواصلت به مبدياً شغفي ورغبتي في لقياه، وكان ذلك الصوت العذب الذي رحب بمشاعري وتحمس لها، واتفقنا على نقطة الإلتقاء في ديوان الدكتور عبد العزيز المقالح يوم الثلاثاء، ولكن لسوء حظي أن ظرفاً طارئاً يومها أعاقه عن المجيء، ومرت الأيام بعدها دون أن نلتقي حتى غادر اليمن.
في الختام، يمكنني التعبير عن أسفي للفراغ الذي اتسع في الساحة اليمنية إبان غيابه، والذي كان الجيل الشاب في أمس حاجته له، مع العلم أنه لم يقطع صلته باليمن أرضاً وإبداعاً وهو في المنفى، وكم قد قرأت له مقالات يبدي فيها ثناءً وذكراً حسناً لليمن أرضاً وإنساناً، لدرجة تشعرنا أن اليمن كان لها الشرف أن يقيم فيها مبدع ومفكر وأكاديمي وإنسان عظيم بحجم حاتم الصكر، ذلك الحاضر الذي لا يغيب، والغائب في الحضور. فلكم تعلمتُ منك البقاء على ضفاف ذكرى الغياب، ومطالعة نجوم الأمل بخيوطها الحالمة بعودة الغائب المفقود. أحسست بدبيب الفقد ووخز لحظات التذكر حين تقتلع الروح وتقذفها في جحيم الفراغ

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*