في وداع فؤاد التكرلي..ما معنى كل ّ هذا..؟

                                                      في وداع فؤاد التكرلي
 
     كانت  بطلة قصة فؤاد التكرلي (امرأة الصمت) من مجموعته ( خزين اللامرئيات) تتأمل الشاب المشلول جواد أخ زوجها مقعدا بعد فتوته وحبه للحياة وممارسته للرسم فتداعت إليها أفكار سريعة حول الحياة فراحت  تقول لنفسها:( ما معنى كل هذا ؟حياة لا تستطيع أن تمنحها أي مبرر للاستمرار غير أنها تلبث باقية بإصرار.ما معنى هذا؟ أم  لعل علينا  بدل أن نتساءل، نفترض بأن من غير الممكن أن نجد معنى للحياة أو تفسيرا لها ، غير وجودها ذاته؟).
في آخر  ثلاث مرات  التقيت  فيها التكرلي بصنعاء 2004ثم بدمشق 2005وعمان 2006 كنت أراه يزداد تشبثا بالحياة التي أحبها وتجاوز الكوابح التي اعترضت طريقه  ليواصل الكتابة ..
في تونس قبل ذلك كان يشكو الغربة التي طالت وامتدت بعد مغتربه الفرنسي، من هناك كانت تحط علينا رسائله بالحبر الأخضر المزرق الذي لا يكتب بغيره شارحا أحواله ومشروعاته الروائية ومسهما في ( الأقلام ) التي أنجزنا على صفحاتها ملفا خاصا عنه..
في لقاءات العواصم العربية كنت أفارقه واثقا بقدرته على مواصلة العيش بهذه الكيفية ، وهو الذي اعتاد حياة خاصة فرضها انتماؤه الاجتماعي وعمله الدائم حتى التقاعد في القضاء، ولكن الثنائيات التي تحكمت في حياته ولدت هذه القدرة الهائلة على التوازن والكتابة والعيش في حياتين : محلة باب الشيخ الذي يعج بالفقراء والشطار والمتسولين والصوفيين ، والحياة المنظمة التي تهيأت له وتحدث عنها في سيرة الرجع القريب مؤخرا في ألف ياء الزمان، التمرد على المألوف في كتاباته والانضباط الصارم في يومياته، والعيش المرفه . ولكن المغتربات لا تهيئ ذلك دائما: ففي لقاء عمان الأخير رأيته يغالب التعب والمرض والانتقال إلى عاصمة أخرى وحياة جديدة لا تناسب عمره ووهن جسده ، كنا في مكتب صديقنا فخري صالح في جريدة الدستور هو وعبدالستار ناصر وأنا،  و الصيف يبعث أبخرة حرارته عبر الزجاج وحين طلبت أن نصور بعضنا مداعبا بانها ذكرى إذا عزّ اللقاء وتوزعتنا المدن ثانية، ضحك واستجاب بحركة من يديه وكأنه يقول كما تقول بطلة قصته : ما معنى هذا؟
هي ذات النبرة التي تحدث  لي فيها بصنعاء حين كان زائرا متسائلا إلى متى سننفق أيامنا بعيدا؟ وما معنى هذا ؟
كثير من يوميات توفيق –بطل المسرات والأوجاع تصلح لتكون أحلاما جنينية في نفس فؤاد الذي يقول على لسان أحد شخصيات روايته إن جيلنا الخمسيني كان مغبونا لأنه لم يعش كما يستحق ولم يحسن التعبير عن نفسه.
كان فؤاد بين رموز جيله الأكثر جرأة وولعا بالإيغال في دواخل شخصياته واستجلاء نزعاتها المترددة والحائرة..وبهذا كانت فرادته وسريان أعماله وشهرتها ..رغم طبقات القلق والشكوك والألم التي تغطيها وتحف بها.
وكأنه في حساب الزمن ظل يسأل عن المعنى والمصير رغم أنه بحساب الإنجاز ترك وراءه في سجل السرد العراقي والعربي ما سيضعه في مصاف المبدعين الذين لم يمروا في الحياة ضيوفا ، بل عاملين على تغييرها وتحريك سواكنها الراكدة.
رهافة فؤاد الإنسان وتواضعه وطيبته ستظل تلازم شخصية مبدع أضاف الكثير برواياته وقصصه القصيرة ومقالاته ومسرحياته ، وكذلك بحضوره رافضا الزيف والتسلط والدكتاتورية والاحتلال، ومقاوما بنماذجه البشرية المنتقاة الظلم والتعسف والعنف والاستغلال..
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*