أيقونة النقد العربي الحديث-د.محمد عبدالرضا شياع

 

 

حاتم الصكَر أيقونة النقد العربي الحديث

 

د.محمد عبدالرضا شياع

 

يضع الدكتور حاتم الصكَر سر نبوءته المعرفية في جفون النتاجات التي يقرؤها، وإذا أردنا معاينة هذا السر، ركبنا ماء النهر الذي فاضت به رؤى الكاتب وكلماته، فنعرف الأرض وما بُذر فيها، لكن من دون نفاذ إلى الأعماق البعيدة، وإن وصلنا إلى هناك؛ لأن الصكَر يحيي فينا أحلامنا الصافية لبلوغ مديات المعنى، مثل مسافر يعانق أول مرة ضفاف مدن غارقة بالضوء وبالأناشيد، وعلى المسافر هنا أن يرتب أحلامه، ويستنهضها من جديد، لتكشف عن هُويتها على أنّها أحلام يقظة، أنجزتها تطلعات قارئ عاشق يحفل بالنص وبتفرده.

هذه التأمّلات المتكاثرة رافقتني كثيراً وطويلاً وأنا أقرأ الدكتور حاتم الصكَر في كتاباته الممهورة بضوء اللهب الذي اختارته إنجازات الكتّاب والمبدعين ليضيئها، فأحياناً أقرأ للدكتور الصكَر من دون أن اغترف من نهر كتاباته، مكتفياً بالدهشة وبالانفعال، ومن ثَمّ بالابتهاج الذي صنعته لذة القراءة. هكذا حدث ذات مساء عربي وأنا أعيش الغربة الوجودية منتظراً عبور البحار إلى حيث نظن غروب الشمس وشروقها في آن، كان يرافقني فيها (حلم الفراشة) كتابه المثير عن قصيدة النثر، والذي تفاجئنا صفحاته الأولى بالكيفية التي تغدو فيها الفراشة امرأة، عبر تماهٍ حُلْمي بمثله تغدو قصيدة النثر شعراً، فكنتُ مسافراً بين صفحاته منتشياً مستعيداً أحلاماً منطفئة قد توهجت تواً وكأنها دليل انتقالي من سطر إلى آخر، وعندما انقضى المساء، وجدت شمس الكتابة تفيض بين يدي، لكنني لم أحمل منها شيئاً، فكانت القراءة مداداً لسماء أخرى، أخذتها ممهورة بشعاع ذاكرة لم تمنحني منها نصاً مقتبساً، لموضوع نقدي إلّا بعد حين. هذه واحدة من آثام القراءة العاشقة لحلم العبور إلى صوت الصكَر النقدي الذي يشبه نهار العارفين.

يقرأ الصكَر موضوعه بدراية واعية من دون ذاك التعالي الذي نعاينه عند بعض الكتّاب الممهورة كتاباتهم بصوت الذات الطافية فوق موضوعها، على الرغم من أن الذات الكاتبة المتجلّية في إنجازات الصكَر حاضرة بقوة وفاعلية، ولكنّها ذات موسومة بحرارة حضورها المعانق للنص بعشق يضيئه، ولا يتعداه، لكنني لا أستطيع هنا أن أقدم نموذجاً، لأن النموذج ماثل في جلّ ما كتب الدكتور حاتم الصكَر. هذا ما يجعلني أكتشف سر الضوء في روح ما ينجز، وإن كان موضوع الكتابة أحياناً جرحاً تنفتح عليه عين القراءة وجعاً وصمتاً؛ حيث هناك في طرقات الوطن المشيّدة بالموت وبالخوف كانت فاجعة الذات تسيّج مداها.

يمنح الدكتور الصكَر قراءه نار المعرفة ودفئها مهما كان نوع الموضوع وجنسه، فلم يكف الكاتب عن ملاحقه الإنجاز الإبداعي العربي شعراً ونثراً، بل تعداه إلى الفنون الإبداعية الأخرى؛ حيث له حضور به يستنطق الفنون التشكيلية وينطقها بدراية العارف بمظان هذا الفن في تجسداته المتعددة والمختلفة، حتى إننا نستمع لصوت اللون لا صداه في قراءاته لأثر مهم مثل إنجاز الفنان شاكر حسن آل سعيد الذي جعلنا نحيا إيقاعاته مثل رحلة مباغتة في جبال الفن ووديان التصوف التي نرتادها عبر الكلمات المصوغة بإرادة راءٍ بوعي الدكتور حاتم الصكَر.

آخر مصاحبة لي في كتابات الدكتور الصكَر كانت لذاك الضوء المبثوث في مساحات شاسعة من الزمن الدافئ المكتوب بصوت الناي الذي ينفخ فيه الرعاة مجتمعين في صوت واحد، هو صوت الشاعر عيسى حسن الياسري، والذي جعل فيه الصكَر الزمن الشعري زمناً حركياً وإن كان قادماً من زمن تشيّد مدياته الصورة السايكولوجية البدائية، كونها صورة رعوية. بيد أننا بالتقاء الشعر وقراءته نكون أمام الزمن اللانهائي الذي يكون فيه الفراغ الروحي الهائل الممتد من بيت الطفولة إلى بيت المنفى، زمن حياة واستعادة وعي، حتى إننا نرى أن حلم الشاعر ينفذ إلى حلم قارئه، فيشكّلان معاً صورة الوجود الشعري العريض والعميق، يحمله إلينا نص الدكتور الصكَر، والذي يبرهن باطّراد على امتلاك ناصية الكتابة بوصفها فعلاً متحققاً في النظرية والإجراء.

أرى أن الدكتور حاتم الصكَر قد أصبح أيقونة النقد العربي الحديث، لكن هذا لا يعني أنه يشتغل في دائرة الإنجاز المعاصر فحسب، بل هو راحل أبدي في آفاق الأرض المغروسة بفسائل الإبداع المكتوب باللغة العربية، والذي لا يقيّدها الزمن الخطي، فالصكَر يمنح الذاكرة قدرتها على الاستعادة، الاستعادة التي تعيد الكلمات إلى عروشها، وذلك عندما يعمد إلى خلخلة منظومة الحواس نقديّاً؛ حيث فعل القراءة الذي به تكون العين مجس الإدراك البشري، هذا ما نراه ماثلاً في (البئر والعسل) الكتاب الذي أضاء فيه الكاتب النصوص التراثية بالمناهج النقدية الحديثة، ولقد صاحبتُ هذا الكتاب في أزمنة مختلفة منتشياً بما أقرأ، فهنا والآن نعاين القدرة النقدية العميقة التي يتميّز بها الدكتور الصكَر ظافراً متحكّماً بتوجيه الاشتغال في الانتقال من التلقي إلى الاستجابة ثم القراءة التي يكون فيها النص إنتاجية، هي دعوة إلى الحياة وإن كانت أسبابها عالقة في أجفان الصمت.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*