بياض نوارس موجة (الصكر)-عبدالرزاق الربيعي

 

 

الشاعر:عبد الرزّاق الربيعي- مسقط

              

قبل أن يجمعنا مكان عمل واحد صيف عام 1981 هو (دار ثقافة الأطفال)، كنت قد قرأت نصوصا شعريّة نُشرت باسم (حاتم محمد صكر) في مجموعة مشتركة حملت عنوان ( نوارس الموجة الآتية)، طبعت ببغدادعام 1974، بحروف متآكلة، وأحلام شعريّة عريضة، بعد سنوات قليلة من ذلك التاريخ اختفى معظم المشاركين بها، بينما تحوّل الشاعر (حاتم محمد صكر) إلى ضفة النقد، ليصبح واحدا من أبرز نقاد الحداثة الشعريّة في العراق، والوطن العربي، مع ذلك ظلّ الشعر بالنسبة له ملاذا، كما وصف في مجموعته الشعريّة الأخيرة (ملاذ أخير) التي أصدرها قبل سنوات عديدة، لينصرف كلّيّا إلى النقد، مع أنّ روحه ظلّت ترفرف في سماوات القصيدة،

ولكن فضيلة (نوارس الموجة الآتية) أنّها جعلت اسم (الصكر) راسخا في ذاكرتي، فواصلت متابعتي لما ينشر في الصحف اليومية، والمجلات الثقافية من مقالات نقديّة كانت تطفو على حروفها لغة الشعر، ورغم أننا كنّا نقطن مدينة واحدة ببغداد هي ( مدينة الحريّة ) إلّا أنّنا لم نجتمع فيها أبدا، رغم العلاقة الوثيقة التي ربطتني به ثقافيّا، وإنسانيا، وجدانيا، جعلتنا نلتقي في (دار ثقافة الأطفال) بشكل يومي، والمؤسسات الثقافية، ومقر اتحاد الأدباء، و(المرابد) الشعرية، والندوات، والفعاليات التي تقام في العراق، وخارجه في عواصم عربيّة عديدة لكنّ قاسمناالمشترك الأعظم، مكانيّا، ظلّ في إطار ذكرياتنا في أحاديثنا، وأصدقائنا المشتركين.

وكان لقائي الأوّل به خلال عمله في (دار ثقافة الأطفال) التي كانت تجمع نخبة رائعة من الأدباء العراقيين ، وبعد أن التحقت بالعمل بها في صيف1981 ، كنت كثيرا ما أرى غرفته لا تخلو من ضيوف من داخل الدار وخارجها، فكانت مكان تجمع الأدباء الأصدقاء  من الوسط الثقافي ، و العاملين بها، وكان خلال تلك السنوات قد دأب على نشر مقاله الأسبوعي المعروف ” تخطيطات بقلم الرصاص”، في جريدة” الجمهورية”، الذي يأتي مزينا بتخطيط للفنانة هناء مال الله التي تعمل معنا في الدار، وتقيم في (الحرية) أيضا، إذ تجمعني بها حافلة واحدة كانت تنقل العاملين بالدار، وكثيرا ما كان يوجّه، في مقاله، الأنظار لأسماء شعرية  شابة، وكتب جديدة ، ويثير نقاشات حول ظواهر ثقافية، وقضايا نقدية، ولا أنسى فضله في نشر أول نص شعري لي في “الجمهورية” التي كان يشرف على صفحاتها الثقافية الناقد ماجد السامرائي، لأواصل النشر بها لاحقا، ذلك النص لفت أنظار العديدين ومن بينهم الشاعر عدنان الصائغ حتى التقينا بعد شهور من نشر النص، وكذلك لا أنسى للصكر الذي كان داعما للشعراء الشباب أنه كان وراء نشر أول نص لي في مجلة “الأقلام” عندما كان رئيسا لتحريرها، مثلما فعل عندما ترأس تحرير مجلة” الطليعة الأدبية”، بعد انتقاله للعمل في دار الشؤون الثقافية، ولم تنقطع لقاءاتنا، حتى مغادرتي العراق، وفي (صنعاء) اجتمعنا ثانية خلال السنوات 1995 -1998، وكنا نلتقي بشكل يومي في جامعة صنعاء، وخارجها في مركز الدراسات، والبحوث اليمني، ومكتبات صنعاء، ومقاهيها، ومراكزها الثقافية برفقة الصديق الشاعر فضل خلف جبر، وكنّا نلتقي بعد انتهاء عملنا لنتوجّه للمكان الذي يجمعنا بالدكتور عبدالعزيز المقالح، وسليمان العيسى، ود. شاكر خصباك، ومحمد عبد السلام منصور، وخالد الرويشان، ود. عبد الرضا علي، ود. علي جعفر العلاق، ود. سعيد الزبيدي، ود. إبراهيم الجرادي، ود. رشيد ياسين، ود. عبد الإله الصائغ، ود. عبد علي الجسماني ، وكريم جثير، وأسعد الهلالي، ود.علي حداد وآخرين اعتدنا على لقائهم إما في مجلس المقالح الأدبي بمركز الدراسات اليمني، أو في منزله، أو منزل أحد الأصدقاء، وبعد أن ينفض المجلس نواصل نحن الثلاثة، الصكر، وفضل، وأنا، جولتنا اليومية المعتادة بين المكتبات، والمقاهي، ثم نودّع بعضنا على موعد للقاء في اليوم التالي، وفي المناسبات، والأعياد، والعطل كنّا نتوجّه إلى عدن حيث يستعيد الصكَر ذكرياته بها خلال عمله بها مدرّسا أواخر الستينيات، أو إلى الحديدة حيث نستمتع بالسباحة في البحر الأحمر، أو زيارة الأصدقاء د. علي حداد، ود. سعد التميمي في محافظة إب، وكان يملأ لقاءاتنا بمداعباته التي تنشر المرح في المكان الذي يرتاده، وحين يكون بعيدا يغمرنا بعاطفته، ودفئه الإنساني، يتفقدنا بشكل مستمر، باذلا كلّ ما يستطيع لمن يحتاج، بحسّه المرهف، وبساطته، وتواضعه، وتلطيفه الأجواء، وملاحظاته على ما نكتب، وقد نلت من اهتمامه الكثير، أسوة بشعراء جيلي، (شعراء الظل) كما أسماهم، و(جيل الحرب)، فتناول بمجسه النقدي أكثر من اصدار لي، ولا يمكن أن أنسى “البورتريه” الشعري الذي رسمه لي، ونشره بجريدة القدس العربي أواخر التسعينيات ضمن مجموعة من “البورتريهات” التي رسمها لأدباء، وأصدقاء، ومدن، وقد حمل البورتريه اسم “خطى كلكامش” إذ كثيرا ما كان يصف خطواتي في السير لاتّساعها بهذا الاسم، وأهداه لي:

“إذ يمشي

يتخيّل إنه يعبر نهرا لا مرئيا

بخطى (جلجامش) المضاعفة

ولحيته العنكبوتية تؤطر وجهه الحزين

تنيرها في الليل قصيدة

يلمّ في أوّل الصباح

رمادها عن البساط الوحيد في غرفته

فتصعد بصعوبة بالغة

الى فمه المحاصر

بالحزن

وسواد لحيته الكثة

فيضيع نصفها

في الطريق الى قامته

ويمشي

متوقيّا أسماكا ميّتة

في نهر لا مرئي

يجري في صحراء وحدته”

 

وبقينا على هذا الحال طيلة سنوات اقامتي في (صنعاء) خلال السنوات 1994-1998، ثم غادرت (صنعاء)، لكنّ حبال التواصل ظلّت ممتدّة، من خلال الاتصالات، والرسائل، واللقاءات في المناسبات الثقافية التي تجمعنا في شتى الأماكن، وكان آخرها في مهرجان الشعر العماني عام 2012، قبل مغادرته اليمن إلى مهجره الحالي “أمريكا”، وقبل ذلك كان قد دُعي ليكون عضو لجنة تحكيم جائزة السلطان قابوس عام2006 حين اختيرت  مسقط لتكون عاصمة للثقافة العربية، ولكنّه اعتذر قبل موعد السفر بسبب اختطاف ولده (عدي) من قبل مجموعة من الظلاميين، على الحدود العراقية-الأردنيّة، لأسباب طائفية، وكان في طريقه لمغادرة العراق نهائيا، لكنّ يد  الغياب، والتغييب كانت أسرع ،فاختطفته، ولم يرحم الظلاميون دموع أمّه ،وزوجته الحامل ، وأولاده الصغار، وظلّ غياب (عدي) الجرح الناغر لقلب الصكر الذي ظلّ ، رغم مرور أحد عشر عاما على الجريمة، ينزّ دما، ويهيج الجرح كلّما أرخى الليل سدوله، وظلّ  ليل الصكر طويلا مثل ليل(امرئ القيس)، وهو ليل   إنسان مجبول من طين العراق، وعذاباته، وطيبة تربته، مثلما يواصل ،نهارا، أنشطته في الكتابة، والحياة، حافرا اسمه في تاريخ النقديّة العربية، كاسبا محبّة جميع من عرفه من أدباء، وطلبة تتلمذوا على يديه، ومتابعين ، وأصدقاء غمرهم ببياض روحه الذي يشبه بياض نوارس موجته الآتية من حيث يمكن أن يكون….

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*