حاوره : صالح سويسي  -2005

حينما اقترحت عليه فكرة الحوار أجابني على الفور بتواضع العظماء مبدية رغـبة حقيقية في الإجابة عـن كـل أسئلتي مهما كان عـددها ، ثمّ إنّه أبدى جرأة و صراحة قلّ أن نجدها عند عدد كبير من الكتاب العرب .واحد من النقاد العرب الذين يتعاملون بلغة نقدية حديثة مع الأدب، فقد بدأ حياته الأدبية شاعرا ثمّ ما لبث أن أفصح عن وجه الناقد المتخفّي وراء الشاعر .فـي هـذا الحـوار مع ” الحقائق ” تحـدث الصكر عـن رحـلته مع الشعر وعلاقـته بالـفن التشكيلي ، و عـن قصيدة النثر و ” الكتابة النسـوية ” و الراهن الثقافي العربي …
الحقائق: كيف يتراءى لكم مستقبل الثقافة العربية في ضوء راهن سياسي واجتماعي يبدو ضبابياً؟
الصكر: السؤال يشخّص بدقة ضبابية المشهد العربي الراهن سياسياً واجتماعياً،وهذا كافٍ لتفسير اللحظة الثقافية الملتبسة التي كان قدرُها أن تواجه أكثرَ الأسئلة حرجاً وإشكالية ،في (ضباب ) الراهن الحزين .أسئلة من قبيل الصلة بالآخر ،والعولمة /العالمية،والحداثة،والتأصيل ،وسؤال الحرية الذي يتجوهر وتلتمّ حوله كل التفاصيل والمفردات الأخرى.ولا أفهم كيف يتسنى للعقل أن يخلق سياقاته وإبداعاته في هذا الضباب المصنوع من دمٍ وتراب .
لذا فان (مستقبل ) الثقافة العربية غامض ،متلوّن بلون المشهد الدموي -بالعنف والموت العربي الذي تفيض به الشاشات كل دقيقة- والتراب الذي تذرّه الخطابات التي تعيش خارج زمننا وخارج التاريخ ، وتتحدث عن غزوات وبيعات وإمارة وتكفير.
لكن القراءة الهادئة المحتكمة إلى حركة التاريخ وما جرى في الماضي لأيامنا العربية الغريبة يعلم أن روح العنقاء التي تطبَّع بها الإنسان وخروجه من أنفاق العتمة والتخلف والاستبداد والاستعمار ،ونهوضه كل مرة ،تعطي أملا ً بصحوة ثقافية تناسب ما يحدث في العالم من متغيرات.ولا أدر ي أذا كان ماجرى بأيدي المغول -مثلاً-يصلح أمثولة هنا ، فقد ساد الظلام تماماً لكنه لم يمنع عودة التنوير ولو ببطء بعد ذلك. وهذا بعض عزائنا وأملنا في الخلاص.
المشكلة أن العيش في الحاشية أو على هامش الحياة والعصر هي ضربٌ من الموت ، والثقافة في حقيقتها هي تمثيل للحياة والحرية والمستقبل ،فلا يستقيم لها أمر مع الجمود والحَجر والعسف والاحتلال. فرصة واحدة لثقافتنا بمعنى التجدد والإبداع والحياة أراها في ألاّ تدع أقدارها بيد السياسيين والأنظمة، فالسياسي والثقافي شأنان ووجودان مختلفان رؤيةً واستراتيجيةً ووسائل، مهما حاولنا تكييف الخطابات ولوي الكلمات وتعديل المفاهيم لتقريب الخطط والأهداف باسم الفن للحياة وغير ذلك ،فالحياة ليست مخلوقاً سياسياً يصطف على وفق المصلحة الآنية والتحالفات العابرة.وذلك لا ينفي الفكر أو الإيديولوجيا التي تنتمي لحاضنة فلسفية أو نظرية. وحق الكاتب والمثقف في الأصطفاف الفكري والاختيار.
وفي لحظة كهذه ،فريدة الالتباس والاختلاط والغرابة والعنف ،لنا أن نكرّس الثقافة في قنوات أخرى غير تلك التي شوَّهها الأعلام السياسي،كمجالات التعليم والتربية والفنون والآثار واللغات والسياحة والترجمة والمسرح الحر وغير ذلك مما يصل دون وصاية أو خضوع للتراتب الذي أوجده الإعلام الفضائي اليوم بإبعاده الثقافة إلى أسفل هرم الأولويات لصالح الهبوط الذوقي والدعاية والتزوير .
الحقائق: تتهمون الإعلام الفضائي بتكريس الهبوط الذوقي و الدعاية و التزوير… ألا ترون أنّ التّعميم غير وارد ذلك أن بعض الفضائيات على قلّتها تؤسس لمشروع ثقافي مغاير ؟
الصكر: التعميم خطأ منهجي وفكري أحاول- وأتمنى – ألا أقع فيه.وأنا لا أذهب إلى تعميم الاتهام بتزوير الثقافة وتسطيحها وخلق هبوط ذوقي عام وتهميش الثقافي الحقيقي والعميق على الفضائيات كلها، ولكن في أحسن الأحوال دعنا نسأل كم من ساعات البث تخصصها هذه الفضائية أو تلك للثقافة بجوانبها المختلفة-قضايا-تعليم -فنون-كتب -إبداع-تراث موروث شعبي……..؟النتيجة ستكون متواضعة بل لا تذكر إزاء المسابقات والأخيار والبرامج المنوعة والأفلام المعادة،وتغيب من حين لخر البرامج الثقافية على قلتها لصالح التوافه من الفقرات والبرامج السطحية التجارية الهدف.ياصديقي العزيز المسألة واضحة، فالأعلام لايريد أن يقود الرأي العام أو يخلقه بل هو يتبعه ويتفنن في تطمين أفق انتظاره-باصطلاح نقاد التلقي-.
الحقائق: تعتبرون من أكثر النقاد العرب الذين تناولوا قصيدة النثر العربية بالدرس والبحث، خاصة في ما يتعلق بالإيقاع ،إلى أي مدى – برأيكم- استطاعت هذه القصيدة أن تنتزع لها مكاناً لدى المتلقي العربي المجبول على الإيقاع؟
الصكر: في أحدث كتاب مترجم عن الفرنسية حول قصيدة النثر يقر مؤلفه ميشيل ساندرا بأن قصيدة النثر تثير أسئلة مخيفة لا لأنها تريد إلغاء التناقض القديم بين الشعر والنثر فحسب ، بل لأنها ترغم النظرية الشعرية على البحث عن طبيعة اللغة الشعرية ذاتها.
وإذا كان هذا الخوف والقلق يثار في مكان كفرنسا شهد ولادة قصيدة النثر قبل قرنين تقريباً،فان من حق المتلقي العربي أن يتردد في قبولها نوعاً شعريا، وهو أي المتلقي قد تكوّّن ونشأ في ظل مفاهيم راسخة وشعرية قوية ونماذج للشعر استقرت في أفق تلقيه واستقرت دون تعديل لعدة قرون.
لكن ذلك ليس رهانا نهائيا ً، فالمتلقي هو المستودع النوعي الذي تحتفظ الأنواع والأجناس الأدبية داخله أو عبره بهيئاتها وأشكالها، وتدافع عن وجودها بالأعراف التي تستقر في تصوّر المتلقي لها.
إن جوهر ما قامت عليه شعرية قصيدة النثر ونظامها الفني -ومنه إيقاعها-هو تقريب المتناقضات ،والبحث عن الشعر خارج تسمياته المألوفة ،وهي بذلك لا تنفي الشعر أو تُهينه كما يشاع في الحِجاج أحيانا، بل هي تنتصر للشعر عبر توسيع وجوده وكينونته وجَلبه من مناطق قصيّة تبدو بعيدة عنه أو غريبة ًََ في المفهوم الشائع للشعر، والمتكون على وفق ذائقة قديمة .
هذا الأمر حفزني للبحث عن إيقاعات بديلة تعطي قصيدة النثر موسيقاها الشعرية الخاصة وتخلق (الأثر) الذي تخلقه الأوزان والمستلزمات الموسيقية التقليدية.
هنا وجدت في السرد مثلا تعويضًا إيقاعيا يُغني القصيدة ويجلب لها موارد شعرية هائلة، أفلح في استثمارها جيل الحداثة الشعرية العربية.المتلقي إذن جسدٌ تدافع الأنواع من خلاله عن وجودها وهذا ما يعلمنا إياه تاريخ الأدب وظهور الأنواع الجديدة، فالمتلقي والمبدع نفسه يرفضها ويخوّنها ويسّفهها ،لكنها-وهذا ما حصل لشعر الرواد المعروف بالشعر الحر-سوف تُقبَل وتدخل في ذخيرة قراءة القارئ من بعد.
وأحسب أن الترجمة -التي توصل الشعر لنا وتدعونا لقراءته خارج الاشتراطات الوزنية والنظام البيتي-ساهمت في جعل المتلقي يعاين تجربة قصيدة النثر بفضول،وهي حالة تنقله من بعد إلى القبول،غير متناسين أن النماذج المنسوبة إلى- والمحسوبة على-قصيدة النثر لا تخلو من كثير من التفاهة والركة والإدعاء والرطانة وسوء فهم وظيفة النثر في القصيدة .وهو أمر يصاحب الجديد والمستحدث دوماً،وفي شتى الأنواع.وذلك يضيف مبررا ً لضيق المتلقي وتردده.
الحقائق: تقولون ” إن جوهر ما قامت عليه شعرية قصيدة النثر ونظامها الفني – ومنه إيقاعها- هو تقريب المتناقضات ،والبحث عن الشعر خارج تسمياته المألوفة ..”إذن فهذا الشكل من الكتابة مازال يحاول افتكاك موقعه رغم مرور عقود على بداياته العربية ؟
الصكر: العقود التي تشير إليها لا تعدّ كثيرة في عمر الأنواع الأدبية والأجناس،وهذا ما يؤكده تاريخ بعض الأجناس كالرواية،والأنواع الشعرية والأشكال كما عرف بالشعر الحرّ مثلاً.فهي لم تلق قبولا واستقراراً في أعرافها وتقاليدها إلاّ بعد عقود. بل ما زال الكثير من الإشكالات المثارة حول الشعر (الحر ) قائماً على مستويات شتى: تداولية وأكاديمية ورسمية أحيانا.
الإشكالات الداخلية لقصيدة النثر والتي تخص تخلُّقها ووجودها كالإيقاع واللغة والصلة بالموضوع والسرد ، إلى آخره، ستظل مشرعة ومفتوحة .وذلك دليل غنى قصيدة النثر،وانسجامها مع خصائصها الأسلوبية والفكرية،فقصيدة النثر معنية بالأسئلة وإثارة قلق قارئها.انها لا تمنح يقينا،بل هي تقوم على بلبلة يقين قارئها، والبحث عن المغاير والمسكوت عنه.
هل هي نوع شعري مشاكس؟نعم. إنها هدامة بانية في آنٍ واحد ،وذلك أمر أكثر خطورةً من مجرد اقتراحها جمعَ النقيضين معا : الشعر والنثر .
الحقائق: يرى البعض أنّ الجيل الجديد من كتّاب قصيدة النثر لم يضيفوا شيئا بقدر ما انساقوا في تيار التقليد لما هو موجود ؟
الصكر:الجيل الجديد في الكتابة الشعرية الراهنة هو الجيل الثالث وراثيا وحياتياً إذا ما اعتبرنا جماعة شعر الجيل الأول وشعراء السبعينيات الجيل الثاني.لقد تغيرت مياه كثيرة من حولهم ،داخليا بانحسار الحماسة والتبشير والنموذج الفرنسي-لدى الجيل الأول ،ومحاولة الفكاك من تقليد الرواد النثريين والبحث عن مرجعيات جديدة -لدى الجيل الثاني.
الجيل الجديد يحق لنا تجييل كتّابه على انفراد،لأنهم بدأوا أصلاً دون تجارب وزنية كما هو حال أغلب شعراء الجيلين السابقين ، وصارت لهم مرجعيات لا تقف عند تجارب أدونيس وأنسي الحاج … فقد استجدت أصوات مؤثرة فيهم عربياً، وتعرفوا على شعراء غربيين لم يكونوا مؤثرين في سابقيهم،فضلا عن تراكم التجارب الكتابية وتنوعها ،ويحف بذلك كله تبدلات أسلوبية وشكلية ،فتجارب الشباب اليوم تتراوح بين القصائد القصيرة والقصيدة الواحدة الطويلة،إلى جانب الاستعانة المركزية بالسرد وتقنياته وإمكان وجوده في الشعر،وزجِّ السيرة الذاتية في القصيدة، والتخفف من المراجع الاستعراضية.هذا كله أعطى للغة الكتابة الجديدة طابعا مشاكساً ومتنوعاً-يوازي اشتباك الحياة العربية ذاتها واحتدامها في العقود الأخيرة-و نستطيع تقصي ذلك التبدل في الدراسات النقدية -النصّية خاصة.
ذلك لاينفي (التقليد) والإجترار الأسـلوبي، والإمتـثال للغة براقة أو بنى صورية وتراكيب صادمة موجودة في كثير من تجارب هذا الجيل . تحسّ أحيانا أن ثمة قصيدة واحدة تعاد صياغتها من طرف شعراء متعددين !!!! ولكن ذلك لا يلغي المنجز الذي تعكف عليه أصوات لها حضورها في مشهد الكتابة الشعرية العربية الجديدة.ولا يسمح بوأد التجربة بأي حال.
الحقائق: بالإضافة لممارستكم للعبة النقدية ، تغازلون الكتابة الشعرية، ماذا عن هذا الجانب الآخر من تجربتكم الإبداعية؟
الصكر: وصفكم هذا(المغازلة) دقيق رغم شاعريته!! فَصِلَتي بكتابة الشعر عِشقيَّة لا زوجية، بمعنى كوني شاعرًا غير مُكرّس -رغم دواويني الثلاثة المنشورة-يهبني حرية الكتابة المزاجية لا الوظيفية.هذا تفسير علاقتي بالشعر.أقرؤه بمحبة تفوق حب كاتبه نفسه أحيانًا- وهذه إحدى نِعَم وفضائل المناهج الحديثة – وأكتبه كما تُؤدّى الطقوس العشقية -بسرّية ورغبة -ولكني لم أبتعد عن الشعر حتى وأنا على سواحله وشواطئه.أعني أن نقد الشعر يجعلني قريباً منه ولصيقاً بنبضه ومتغيراته.
أكتب أحيانا ًما يدفع عن نفسي ألما ًيشف ،فتكثّفه القصيدة النثرية،وتجمَّع عندي ما أسميته في موقعي الألكتروني (الهبوط إلى برج القوس) ويلاحظ القارئ أن القصائد موسمية متباعدة الولادة :غرام لا أنفك عنه كما يبدو!نشأتُ _كأغلب الكتاب العرب_ على تربية شعرية، لا في كتابي الأول الذي قرأته صغيراً أو الأمثال الموقَّّّعة التي يرددها الوالد ، وأغاني المهد واهات الجنوب في تعب الأم وسهرها فحسب،بل في ذائقة جيل الستينيات الذي أنتمي إليه ثقافياً.وهو جيل كان الشعر فنه الأول، وحداثته مختبر الانتماء للعصر والجيل معاً.وهكذا تتحجم تجربتي الشعرية بانحيازي للتجديد ،ثم الإيغال في البحث عن أشكال ممكنة في الشعر ،إضافة إلى مسمياته المألوفة والمعروفة،و ليس في ما أكتب جديداً عما تألفه الكتابة الشعرية الحديثة اليوم ،لذا أخذ النقد بكونه كتابةً استباقية وطامحة ومستقرِئة أغلب جهدي واهتمامي.في الشعر لا أسال عن طريق أو محطة، فكل شيء محتمل ومتوقع كالزلزال والعشق والسفر الحر .
الحقائق: تعترفون بمقولة(( الكتابة النسوّية)) في ما يرفضها البعض الآخر، ألا ترون أنكم بذلك تكرّسون مبدأ التفرقة الجنسية الأدبية ؟ بمعنى آخر أليست الكتابة هي نفسها سواء كانت عند الرجل أو المرأة؟
الصكر:عملي في التدريس بالجامعة دعاني للبحث في الكتابة النسوية العربية – طبيعتها ،خصوصياتها،أزماتها ،محدّداتها وموانعها،الاكراهات المسلَّطة على المرأة بكونها كاتبة ومن نوع اجتماعي مهمَّّش – هكذا وجدت نفسي أخوض في اطروحات النقد النسوي ،وأتملى صورة المرأة في كتاباتها ،وحجم اجترارها لما رسخ عنها في المعتقد الجمعي والخطاب الأدبي والاجتماعي ،المصنوع من طرف ذكور بالمناسبة.
نظرياً وتطبيقيًا وجدت ما برّر لي الاعتقاد بوجود كتابة نسوية ذات امتياز وخصوصية،لا بمعنى المدح بل بالوصف فقط،فلي بدوري اعتراضاتي المنشورة على الخطاب النسوي النقابي خاصة والذي يكرّس العزلة ويمنح امتيازات -لا ميزات أو سمات فنية – لكل كتابة نسوية مهما صغر شأنها،ودون التدقيق في دوافعها وحقيقة التجربة الكامنة وراءها.ودون فرز الاستعراض الجنسي عن الوعي بنوع والدور الاجتماعي المفترض والمتحقق.وفي إحدى مؤتمرات الكتابة النسوية -في القاهرة قبل عامين- نوقش التجنيس الكتابي لإبداع المرأة وعارَضَته -وهذه مفارقة -أصوات نسوية مشاركة بحجة رفض العزل وطلب المساواة.
ثقافيا تبدو المسألة أبعد من ذلك وأعمق ،وهذه عودة لسؤالك، فثقافياً تعاني المرأة اكراهات مضاعفة تتعقب ملفوظاتها وتحيلها إليها أخلاقياً،كما ان وضعَها أو دورها الاجتماعي تحديداً،يعاني من تهميش دستوري وعائلي وعُرفي وتاريخي وديني.وهاأنت تسمع بالأمس مجلسا ًنيابياً منتَخباً-في الكويت-يرفض إشراك المرأة حتى في التصويت لا الترشيح ! أما وجودها كجسد وذات فلا حاجة للتدليل على تغييبه من الحياة وكذلك مصادرة إرادتها وممارسة العنف والعسف عليها بشتى السبل،وحتى في المستوى اللغوي فالمؤنث هو الضعيف دوماً.والأنوثة هي الضعف والتهمة .
من هنا صرنا نعتقد بأن ما يصدر من ملفوظ أدبي أو فني نسوي هو متأثر بالضرورة بهذه الأكراهات والمحددات القاسية،ما يستلزم قراءته بخصوصية يتيحها النقد النسوي الذي أطمئن لتشخيصاته وإجراءاته محتَرِِزاً مرة أخرى بأن تجنيس الكتابة النسوية لا يعني إعطاء المرأة الكاتبة وكتابتها امتيازاً وتفوقاً، بل هو إجراء للمساءَلة والقراءة فقط.وأية قراءة بمقترب نسوي ستكشف اللغة المتخفيَة وراء الخطاب والوعي بالنوع الاجتماعي ودوره-لا التصنيف الجنسي :ذكر /أنثى، وهو مبحث يندرج ضمن النقد الثقافي الحديث الذي يرصد ذلك حتى في كتابات الرجل بوعي أو لا وعي .
الحقائق:لديكم اهتمام بالمشهد التشكيلي،من خلال عديد الكتابات والمتابعات النقدية،ماذا يمكن أن نعرف عن هذه الاهتمامات ؟
الصكر: قلت لك إنني من جيل الستينيات ثقافياً، وهو جيل امتزجت في خلايا دمه ومكوناته السياسة بالأدب والفلسفة والسينما والمسرح والتشكيل والأساطير والآثار…..وفي جو بغداد المفتوح ثقافيا ًأثناء دراستنا الجامعية وبعدها أخذتُ أتابع المعارض والندوات والصحافة التشكيلية ،كما أن بغداد تنفرد بين العواصم العربية بنُصبِها وجُدرانياتها وتماثيلها وساحاتها ومتاحفها المتنوعة، وهي تخلق انتباها مبكرا لوجود الفن في جماليات المدينة وحياة أهلها، وذلك شدّني كمشاهد ومتابع أولا ، ثم كان التراث الرافديني القديم سواء بأساطيره أو فنونه مؤثراً آخر،وهكذا نشأت اهتماماتي وتطورت ثم تبلورت خلال عملي في تحرير مجلة( الأقلام) التي يشهد الزملاء والقراء أنها -خلال عملي في إدارة أو رئاسة تحريرها-أولت التشكيل اهتمامًا كبيرًا بالمتابعة والنقد والدراسات واللقاءات وقراءة اللوحات التي تتصدر كل عدد في أغلفته الخارجية والداخلية.
ثم كان لقائي بالفنان الراحل شاكر حسن ال سعيد وندواتنا الأسبوعية في مركز الفنون ببغداد ضمن تجمّع أسميناه(مؤسسة الخطاب الجمالي) وضَمَّ نقادا وفنانين وأدباء ، كنا نحرص ال سعيد وأنا على استمرار وتنظيم برنامجه أوائل التسعينيات، ولاحقاً وجدت على مستوى التلقي الجمالي مشكلات مشتركة بين قراءة الشعر وتذوق عمل تشكيلي.فعكفنا على دراستها من هذه الزاوية فضلا عن ان العلاقة الممكنة بين الشعري والتشكيلي ومظاهرها أخذت نصيبًا من اهتمامي.شاركت بهذا الدافع في ندوات تشكيلية-منها عندكم في المحرس بتونس قبل عامين- وفي عمّان بالأردن ومسقط وصنعاء،كما كتبتُ دراسات ومقدمات لمعارض تشكيلية عدة ، وجمعت بعض دراساتي تلك في كتاب أتأمل نشره قريباً.
التشكيل والرسم خاصة شعر بلغة ثانية يمنحك مساحة من المتعة الجمالية والإحساس البصري بالجمال بكيفيات متقدمة وراقية وهذا ما يجذبني للفن وللحداثة الفنية البصرية خاصة بما أنها بحث عن جماليات مشَظّاة في المكان والنفس والفضاء في آن واحد.

عن جريدة “الحقائق ” لندن