القاهرة معرض الكتاب 2021

نعيش في برج بابل نقدي..حوار لجريدة العرب-أجراه الشاعر والكاتب أزراج عمر

حوار أجراه الشاعر والكاتب  الجزائري الأستاذ عمر أزراج -جريدة العرب-لندن-20-4-2020

حاتم الصكر: نعيش في برج بابل نقدي وقصيدة النثر تعاني من الوهم

الناقد العراقي يؤكد أن من النصوص تنبثق لحظة الممارسة النقدية، وأن معظم ما يكتب وينشر في دواوين أو في وسائل التواصل الاجتماعي لا علاقة له بالشعر.
الاثنين 2020/04/20
أتيت إلى نقد الشعر من تجربة شعرية متواضعة

تراجعت وظيفة النقد وتقلص حضوره في الساحة الشعرية، وإن كان اللوم يلقى على النقاد فإن للشعراء دورا هاما في ذلك، فالمسؤولية مشتركة بين النقاد الذين لم يطور أغلبهم من عدته النظرية، فيما الشعراء بادروا إلى إلغاء النقاد بحجة التجاوز. “العرب” كان لها هذا اللقاء مع الناقد العراقي حاتم الصكر حول واقع الشعر والنقد اليوم.

الدكتور حاتم الصكر ناقد عراقي معروف أغنى المكتبة العربية بمؤلفات تربو عن عشرين كتابا مكرسا لنقد الشعر والفن والنظريات الشعرية والأدبية. من أحدث كتبه النقدية “أقنعة السيرة وتجلياتها”، و“نقد الحداثة”، و“البوح والترميز القهري”، و“بريد بغدا: درسات” وغيرها كثير.
في بداية حوارنا معه يحدثنا عن واقع وأبرز مشكلات نقد الشعر في العالم العربي قائلا “واقع النقد الشعري عندنا مرتبط دوماً بفاعلية القصيدة العربية. وفي سيرورة الحركة النقدية ما يؤكد ذلك، رغم ما يقابل به النقد من استعلاء أحياناً من الشعراء ومحاولة تهميشه أو تسفيه دوره. وتلك أهم مشكلات نقد الشعر في الثقافة العربية”.
يضيف الصكر “يتحدث البياتي في قصيدة عن مايكوفسكي فيشتم النقاد. لأن مايكوفسكي بدوره شتمهم (في غيمة في بنطلون). الستينيون ومن تلاهم من الشعراء صرخوا: نحن جيل بلا نقاد. تلك ظاهرة غير حضارية، لا تؤمن بالنقد، أو تريده نقداً يزكّي تجاربها فحسب. متناسين أنه عمّق وأرسى جوانب مبكرة في التجديد والتحديث، والدفاع النظري عن تلك المشروعات الأدبية”.
ويتابع الناقد “ثمة إشكالية أخرى تأتي من الفاعلية النصية ذاتها. فالشعر وفير عندنا و متراكم النصوص، ومدعَّم بميراث ذي حيوية. تلك الديمومة ذات ذخيرة تبدأ بالمعلّقات ولا تنتهي بأبي تمام والمتنبي ومشاهير النهضة والتجديد. وهذا يجعل وتائر التحديث الشعري أبطأ من التحديث في السرد مثلاً، حيث لا سلالة سردية تقف في وجه التنظير للسرديات أو تحديث خطابها، ويسقط بالتالي اتهامها بالاستعارة من الآخر. في ثقافات أخرى يخف عبء الموروث الشعري فتسهل النقلات التجديدية والتحديثية. هنا مطلوب من نقد الشعر أن يقف عند تخوم التجديد وحدوده. لذا ثمة مصدات كبيرة أمام التنظير للحداثة الشعرية، وأمام التجارب الشعرية بالضرورة. وهذا يمتد إلى الدرس الأكاديمي أيضاً”.

الجهاز النظري

 

قصيدة النثر تظل تتأرجح بين شعر ونثر
قصيدة النثر تظل تتأرجح بين شعر ونثر

 
يرى الناقد أن الجهاز النظري اصطلاحاً ومفاهيم هو الآخر وجه لأزمة النقد. فالتلقف المنهجي عندنا تشوبه حماسة وحماسة مضادة. الواقعية جاءت من الغرب، ووجدت مؤيدين جعلوا الفكرة والإصلاح الاجتماعي في الشعر هدفاً، تصاغرت إزاءه المهمة الفنية للقصيدة والتلقي الجمالي لها. وهكذا كان المشهد بعد حركات النقد الشعري النصيّة، فالبنيوية، ثم مناهج التأويل والأسلوبية وسواها. قبول تام أو رفض تام. ولم يجرِ التعديل أو التكييف المطلوبَان لاقتراض المنهج وآلياته وإجراءاته.
للدكتور حاتم الصكر تجربة طويلة وثرية في حقل الشعر وقد أضاء لي حدود بنيتها النظرية ومحطاتها ومعالمها مبرزا “لا بد لي أولا من القول إني أتيت إلى نقد الشعر من تجربة ستينية شعرية متواضعة، لكنها تتمثل مزايا تلك القصيدة المنسلّة من عباءة الرواد: السياب تحديداً ثم البياتي. وعند انتقالي إلى الكتابة النقدية واستغراقي فيها كنت أتمثل الكثير من معطيات التجربة الشعرية. وهذا يفسر حماسي بين زملائي منذ منتصف السبعينات حتى اليوم بالاهتمام بالتطبيقات والممارسة النقدية. وجعلت التحليل النصي موضوع دراستي للماجستير. كانت تلك أهم دوافع ومحددات كتابتي النقدية”.
ويتابع الصكر “من النصوص تنبثق لحظة الممارسة النقدية، بما يجرني إليه النص ذاته. وكان حصيلة ذلك كتابي الأول ‘الأصابع في موقد الشعر’ الذي ربما لخّص عنوانُه استراتيجية قراءتي النقدية، ثم تأثري بالانطباعية، ودعوات النقد الجديد التي نقلها نقاد عراقيون وعرب عبر دراساتهم في الغرب- بريطانيا غالباً- كان النص هو الهدف. ابتعد النقد عن الاهتمام بسيرة كاتبه التي كانت المدرسة تهمّش النصوص وتسحقها من أجله. لكن الإفاقة التالية ستكون بدعوة دريدا لما يسميه ‘عدم الانحباس داخل النص’، وتفكيك المؤثرات الفاعلة في تكوينه. ومع البنيوية ترددتُ في قبول اعتبار القصيدة ‘نصاً مغلقاً’ لا تَفتح مغاليقَه إلا الممارسة اللغوية. أزعجني الفهم المغلوط عندنا لفكرة بارت عن موت المؤلف. فهو يريدها لحظة تكتيكية كالتخدير لمعاينة النص، لكنّ البنيويين العرب اعتبروه موتاً حقيقياً. بالمناسبة ستتوالى الميتات التي يشغف بها النقاد: موت المؤلف، موت النقد الأدبي، وأخيراً موت الناقد”.
ويتابع الصكر “التوازن المنهجي إذاً كان هو برنامجي النظري. وهذا سمح لي بالاستمداد حتى من وهج النقد القديم لدى الجرجاني في نظرية النظم، ومعنى المعنى، والدفاع عن الغموض. وفي حماسة غير منقطعة للتحديث توقفت عند قصيدة النثر، فتكرست دراساتي عن إيقاعها البديل الذي أعترف أنه مازال بحاجة لتحديد وملموسية عبر النصوص.. رغم أنه مما لا يُحد بالوصف بل يُدرك بالمعرفة. ما لا تؤديه الصفة هو عنوان أحد كتبي بصدد قصيدة النثر”.
أخيراً توافقت نظريات القراءة والتلقي مع منظور الصكر المتوازن. فصار للمتلقي دور مركزي في قراءاته. إنه يعيد تشكيل النصوص بذخيرته التي تتشابك من خلالها أفق قراءته مع أفق النص، وما يقدم له من توافق أو انخذال. حيث أيقن أن المشكلة في الأساس تكمن في فسحة التلقي تلك.

الأفكار والرؤى

إن متتبع النشاط النقدي للدكتور الصكر يلاحظ أنه منخرط في نقد الحداثة، أو لنقل الحداثية الشعرية العربية، ويعني هذا أنه يسلم بوجودها، وفي هذا الخصوص نسأله أن يحدد لنا قسماتها وعن مدى استعارتها من التجربة الغربية خاصة أم أنها نابعة من الجذر الثقافي العربي أم أنها ظاهرة تركيبية هجينة.
يقول “سيكون جزء كبير من إجابتي السابقة توضيحاً لما أريد قوله بصدد الحداثة العربية. شعرياً أقّر بوجود حداثة عربية فرضها التحول الثقافي والحياتي كالاندماج في الحياة العصرية ولوازمها، ولو على مستوى الطموح. فتلقفت الأساليب بطرق شتى. لكن النقد كنظرية وممارسة تلقف المؤثرات بطرق مغايرة. ولأن الأفكار والرؤى عندي أهم من المنهج. فقد وجدت أن ثمة اصطفافاً عريضاً في الحداثة يسبق التجسيد المنهجي لتلك الرؤية.. لا ننكر أنها استعارت شعاراتها وجلَّ أفكارها من الغرب. لكن الرؤية في قراءتي للحداثة العربية كانت ذاتية، بمعنى الشعور بالحاجة للعبور من التقليد إلى التجديد فالتحديث. وتلك اللحظة الحداثية في قراءة الشعر ونقده تمخضت عن التفاعل الذاتي والاستعارة المنهجية الغربية، بكون المناهج تشتغل على نصوص شعرية أيضاً رغم خصوصية كل تجربة في العالم”.

ثمة تساهل وضعف كبيران في نماذج قصيدة النثر المعاصرة. لغة هشة وتمثيلات غنائية أو تراكيب صادمة

ويضيف الناقد العراقي “وسيجد المتفحص ظلالاً من موروث النقد العربي الاستباقي في التجديد والقراءة النصية أو التأويلية. بهذا تكون ‘الهجنة’ وصفاً معرفياً لا يغض من قيمة الحداثة العربية. تبقى مشكلاتها الذاتية المتلخصة في كونها تستبق البنى الاجتماعية والسياسية بما أنها شاملة، فيظل نقصانها عندنا سمة بارزة فيها. وسبباً في اغتراب الحداثة النقدية والشعرية أيضاً. ولكن ذلك يجب ألا يعطل مشروعها الذي وجدت شخصياً أن حاجتنا قائمة للبحث عن ممهدات له، عرضت بعضها في كتابي ‘نقد الحداثة’”.
وردا على سؤالنا حول كيف يمكن تحديد عناصر بنية قصيدة النثر وهل لكل قصيدة بنيتها الخاصة أم هي سابقة لها، يوضح الدكتور الصكر “في كتابي ‘الثمرة المحرمة’ تعمدت الاحتكاك نصياً بمسألة هوية قصيدة النثر وبدائلها المقترحة. بيّنتُ ما أراه ممكناً من إيقاعات تتخللها داخلياً. هي لا تُرى كالتفعيلات؛ لذا نعتَها نقاد وقراء بأنها خرافة أو وهم. والفرق كبير بين تعيّنها نصياً ووصفها صوتياً. لأن قصيدة النثر أصلاً غير صوتية. وقد لا تُحَس كموسيقى الإيقاع الخارجي. هي دلالية؛ لذا استضافت السرد واغتنت شعريتها به”.
ويضيف الناقد “نميل بسبب عدم تعين مزايا قصيدة النثر إلى أنها شخصية، ينجزها كل شاعر، بل لكل شاعر قصيدة نثر. كما قيل لكل قصيدة بنيتها الخاصة- بناءً على ما شخَصتَ بدقّة في سؤالك- بحكم أنها المهيمنة في النص، وزاوية النظر والمعالجة الشعرية، وتبدل المراجع المؤثرة، والطابع الإشراقي فيها. ولا شك أن للّغة، والتوزيع الخطّي الهيكلي للنص، والدلالة، أهمية بينتها في كتابي ولا أستطيع إيجازها هنا. كما أن الوسائط التواصلية اليوم تتيح أنماطاً من قصيدة النثر يمكن تشخيص مزاياها النوعية”.

في برج بابل نقدي

 

اغتراب الحداثة النقدية والشعرية
اغتراب الحداثة النقدية والشعرية

 
في أكثر من مكان في كتابات الدكتور الصكر نجده يناقش قضية تسمية قصيدة النثر حيث لاحظ فوضى التسميات والبلبلة الاصطلاحية، وفي هذا الخصوص نسأله هل يتضمن هذا اعترافا منه بفوضى نقد الشعر في العالم العربي، وما هو نصيب رواد قصيدة النثر من هذه الفوضى؟
فيوضح أن النقد العربي عموماً عانى من المشكلة الاصطلاحية. خذ في ثقافتنا المعاصرة مصطلحات مثل “الشعر العمودي” و”الشعر الحر” و”القصة القصيرة جدا” وغيرها. لكنه يثير بلبلة اصطلاحية تؤثر في الإجراءات النقدية والقراءة معاً. نعيش بسبب ذلك في برج بابل نقدي تبنيه شتى التوجهات والتيارات. لكن أشده خطرا هو ذلك الخلل الاصطلاحي المتأتي من “المفهوم”.
ويضيف الناقد “لقد بدأت إشكالات قصيدة النثر أصلاً بتسميتها. إذ صُوِّرت شعريتها -وهذا سبب آخر من الأوهام التي تكتنف كتابتها- وكأنها قائمة على مؤاخاة الشعر والنثر، فاعترض التقليديون محتجين بعدم إمكان توليد قصيدة بهذا الشكل. وجرى إغراء المتحمسين لها باستضافة النثر مركزياً في القصيدة، وليس كاستعانة بنائية. الغربيون وحاضنة قصيدة النثر عندهم عانوا من تلك البلبلة أيضاً. والمترجمون لم يقدموا مقترحاً مقنعاً. والتعديلات العربية التالية للمصطلح لم يتم تداولها لخللها البنائي، مثلاً مقترح أدونيس ‘كتابة الشعر نثراً’”.
ويشدد الصكر على أن قصيدة النثر تظل تتأرجح بين شعر ونثر، كما تقول الأمثولة عن فتاة حلمت بأنها فراشة ولم تعد تعرف إن كانت فتاة حلمت بأنها فراشة أم فراشة حلمت بأنها فتاة. وهو ما أفاد منه أنسي الحاج في قصيدة له. وكان “حلم الفراشة” عنواناً لأحد كتب الناقد.
على ذكره للشاعر أنسي الذي يعد من أقطاب قصيدة النثر، نسأل الناقد حاتم الصكر عن رأيه الصريح والواضح بخصوص تجربة مجلة الشعر وما صاحبها من تنظير فيقول “لا يجدر بنا حقيقةً أن نتوقف كل مرة عند مجلة شعر وشعرائها ومقترحاتهم. ذلك التجمع كان خليطاً غريبا ضم شعراء وزنيين (فؤاد رفقة مثلاً)، وشعراء يكتبون الشعر الحر بالمعنى الأنجلوسكسوني متأثرين بوالت ويتمان وجبران وأمين الريحاني، ومبتعدين عن مقترح قصيدة النثر. يسمي جبرا إبراهيم جبرا منهم: نفسه والماغوط ويوسف الخال وتوفيق صايغ. فيما كان أدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا يحرثون في تربة بِكر هي قصيدة النثر”.
 

قصيدة النثر أصلاً غير صوتية
قصيدة النثر أصلاً غير صوتية

 
ويضيف “كانت التسمية جناية ستشيع وتبلبل الموقف الاصطلاحي، بجانب تقييد الكتابة بشروط سوزان برنار التي تم تلخيص أفكارها بشكل مبتسر وسطحي. ولم تبلور المجلة موقفاً واضحاً حول الصلة بالتراث. فهناك دعوات للتجاوز والانقطاع، بجانب قيام أدونيس بقراءة جدية مؤثرة لتراث خاص داخل التراث. وكذا بالنسبة للغة ورفض تقاليدها، فيما يبلور أنسي مثلا تجربته على الانزياحات والمفارقات اللغوية وظلال معانيها وأخيلتها. وفي الصلة بالشعر الغربي ثمة بودليريون ورامبويون ومؤثرات أخرى”.
ويلفت الناقد إلى أن التأسيس والريادة هما ما يظل لمجلة شعر. هذا أمر ليس هيّناً. لكن على مستوى الكتابة الشعرية توقف مدُّها وتشظت الجماعة سريعاً واتخذ كل منهم طريقاً. كان ذلك لصالح الدم الجديد في جسد قصيدة النثر.
من الملاحظ أن قصيدة النثر تعاني من مطبات كثيرة حاليا حيث أن معظم ما يكتب وينشر في دواوين أو في وسائل التواصل الاجتماعي تحت يافطة قصيدة النثر هو مجرد رصف للكلمات ولا علاقة له بالشعر، وبخصوص هذه القضية يلاحظ ناقدنا الصكر أنه “ينال كتابة قصيدة النثر ما ينال الحداثة من ‘أوهام’ وأبرزها وهم الشكل، حيث يعتقد بعض كتابها أن إضافة القصيدة إلى النثر ليس خطأ اصطلاحياً شاع وصار واقعا تداوليا. هم يظنون أن كل نثر يمكن أن يكون شعراً في فضاء قصيدة النثر. يتندر شاعر شاب بأنه فشل في كتابة الشعر الموزون، لكنه التقى من يخبره بزوال هذا الشرط بظهور قصيدة النثر فجاء ليكتبها، وكأنه صار مؤهلاً للوظيفة”.
ويقول حاتم الصكر “ثمة تساهل وضعف كبيران في نماذج قصيدة النثر المعاصرة. لغة هشة وتمثيلات غنائية أو تراكيب صادمة تلصيقاً وادعاءً، وتقليداً وامتثالاً لما يشبه الموضة. أما الحديث عن فقر لغوي وركاكة وأخطاء فهو يزعج الشعراء للأسف، ويردون بأنهم ضد نواميس اللغة السائدة. هذا فهم قاصر لشعارات الرفض والتجاوز والتغيير. لأنه ينسف الأسس الفنية للقصيدة. لكن ذلك يجب ألا يكون مبرراً للتشكيك، أو عدم منح قصيدة النثر الفضاء الكافي للتطور والرسوخ، مع تعدد مناخاتها وبروز أسماء ومرجعيات وتجارب جديدة، تناولتُ كثيراً منها في كتبي الأخيرة”.