ثنائيات جبران  وتجلياتها النصيَّة: قراءة استعادية

 
 
ثنائيات جبران  وتجلياتها النصيَّة: قراءة استعادية
 
 
لماذا القراءاة الإستعادية؟
سؤال يواجه محاولة العودة إلى متون أو نصوص ومدونات كان لها في زمن إنتاجها  من المزايا ما أكسبها البقاء في الذاكرة  وخزين القراءة من جهة ، وديمومة أو تواصل حضورها في حياة نصوص لاحقة لها وممارسة تأثيرها في المشهد المعاصر. .
قد تبدو القراءة الإستعادية لبعض المهتمين والقراء ضرباً من النكوص إلى الماضي – حتى القريب منه-  أوهروباً  من مستلزمات الثثاقف العصري ومواكبة التحولات عبر أبنيتها القائمة  ودوافعها وملامحها النصية. لكن ذلك لا يقدم فهماً  للإنجازات الروحية والثقافية التي تملك ما يجعلها ماثلة لأن يكرَّ عليها الدارسون بالتحليل وتبين ما يظل منها في لاحقاتها من النصوص ، أو في الأقل التعرف على ما جعل منها في تلك الأهمية.
وتعتمد القراءة الإستعادية لإنجاز مهمتها  على مدوّنات لها تأثير في سياقها وامتداد خارج عصرها حيث يتواصل أثرها أو تلقيها عبر معاودة القراءة أو تلمس مظاهر -أو جوانب تأثيرها – في أفراد النوع الذي كتبت فيه وفي خصائصه ومزاياه الذاتية..
إن  القراءة الإستعادية للثنائيات التي هيمنت على حياة  جبران خليل جبران الفكرية تتيح ، التعرف على المشغّلات الإيديولوجية أو الإعتقادية ، والقناعات الذاتية لجبران وسط الضخ الثقافي في عصره، وأمكنة نشأته ونمو وعيه من جهة، وملاحظة انعكاساتها أو تجسداتها الشعرية والنثرية في أدبه المنشور من جهة أخرى.
ولبس أكثر وضوحاً في تعقب ذلك كتابه ( النبي ) كونه عمله الرئيس ومحفل انشغالاته الفكرية ومحورها.
لقد مضى  قرن من الزمن  منذ شرع جبران خليل جبران في كتابة مؤلَّفه الذي سيصبح من أكثر كتب القرن أهمية.فقد بدأ عام 1919 بكتابته وانتهى منه بعد أربعة أعوام؛ ليظهر منشوراً في أيلول – سبتمبر من عام 1923 .كتاب سيتم نقله إلى قرابة خمسين لغة.ويحظى بمكانة خاصة في الأدب المكتوب بالإنجليزية ،ويكون مادة للدراسة في المدارس الأمريكية فترة طويلة.
كتابٌ حلم جبران بكتابته ليكون عمله الرئيس .قال مرة عنه :((حلمتُ بكتابة (النبي) طيلة ألف عام)).مكنّيا بذلك عن كونية الكتاب ودلالة أفكاره على وجود الإنسان ومصيره، وانشغاله بتأمل علاقات البشر وارتباطاتهم ومواقفهم .لذا أخذت الموضوعات المنفصلة جانباً كبيراً منه، بل كانت ضمن تبويب الكتاب وخطته. فجاءت فصوله موزعة في موضوعات توحي بروحانية عالية، فيما يضمر دنيوية تهفو إلى الحرية الشخصية، كونها اللبنة الأولى في بناء الحرية الإنسانية العامة.
وتأكيداً لكونية الخطة أو البرنامج التأليفي لجبران في (النبي) ، عمد إلى تقسيمه في أبواب صغرى يخص كل منها موضوعاً محدداً، لاجئاً لإنجاز ذلك إلى محاورة الجمهور للمصطفى- شخصية الكتاب الرئيسة- وسؤالهم له عن مغزى الأمور التي يريدون رأيه فيها.وأسند جبران السؤال في كل فصل إلى شخصية غير مسماة بل موصوفة فحسب، لها صلة بموضوع السؤال….
وقد حرص جبران على الإتيان ببناء نصي محكم لكتابه ، يطّرد في فصوله ويتعمق من خلالها خطابه الذي ينبني على عناصر تمثل هيمنة الثنائيات على فكره، إحتكاماً إلى قناعة تقف خلف كتاباته عموما ، ومؤداها وجود الشيء ونقيضه معاً في الحياة ، وعلينا أن نرى ذلك وندركه، ولا نرهن رؤيتنا في جانب واحد.
سنمثل برأيه في العلاقة الزوجية  المبثوث بطريقة كتاب ( النبي) من حيث التعالي اللغوي على المفردات العادية، وجدّة الأفكار وجرأتها ، والأسلوب النثري القريب من الشعر في تركيزه وصوره وتمثيلاته،والخطاب الفوقي الذي ينتظمها لتتحقق صفة الكتاب الغيبية وطابعه الحِكَمي والنصحي، فضلاً عن  سلسلة التأملات القريبة من الفلسفة في الكتاب.
يقول في مسألة الزواج مثلاً مخاطباً قراءه وكـأنه يعطيهم موعظة روحية (أحبّوا بعضكم بعضاً، ولكن لا تقيّدوا المحبة بالقيود.. قفوا معاً، ولكن لا يقرب أحدكم من الآخر كثيراً: لأن عمودَيْ الهيكل يقفان منفصلَيْن، والسنديانة والسروة لا تنمو الواحدة منهما في ظل رفيقته) .لقد بدأ بطلب المحبة ونصح بالوقوف معاً رجالاً ونساء، ثم استدرك في الجملتين ،فجاء التحذير بعد الإقتراب كثيراً، وعدم تحديد المحبة بقيود، في تلميح واضح إلى الزواج كنظام اجتماعي سائد، أو خلية أساسية في تكوين الأسرة. وفي موضع آخر يواصل استدراكاته مبرراً ذلك بملمح جمالي قوامه استمرار النبض الإنساني في تلك الفسحات بين الأفراد، كما في أمثولة القيثارة التي تتباعد أوتارها لتنجز نشيدها، والشجر المتباعد عن بعضه ليتيح فسحة الحياة والجمال،  (( ولكن فليتخلل التئامكما فسحات /حتى تتيحا لرياح السموات أن ترقص بينكما) وإذ أتاح للزوجين أن يشربا ويأكلا معا أوصاهما مستدركا (بألا يشربا من كأس واحدة / ولا يجتمعا على  رغيف واحد / وألا يجعلا الحب قيدا) ،ممثلا للإنفراد واستقلال الذات بالقيثارة (فإن أوتار القيثارة مشدودة على افتراق/وإن خفقت جميعا بقلب واحد..ولتنهضا متكافلين/لكن دون أن تتلاصقا /فإن أعمدة المعبد على انفصال تقوم / والسنديان والسَّرو لاينمو بعضها في ظل بعض) وقد كشف جبران في كثير من مذكراته ورسائله عن تخوفه من الرابطة الزوجية رغم روحانيته .وقد يرجع ذلك في إحدى التأويلات الممكنة إلى تمثله لشخصية المسيح التي عدَّها نموذجاً في التضحية والبحث عن الحرية والعدل والتفرد.
تهمنا في هذه اللحظة من دراستنا أن ننوه إلى تحكم الثنائيات الضديَّة في فكر جبران.فقد قرن شخصيتين في نموذجه الأعلى الذي لا يكف عن ترديد مقولاته.وهما المسيح ونيتشه.وقد لاحظ الشاعر خليل حاوي في دراسته  عن  شخصية جبران وإطاره الحضاري أنه (( رسم صوراً ليسوع محاكاة لما يرغب هو أن يكون عليه.. صوراً توافق عقيدته لخاصة))إنه انصياعاً لتأثره بفكرة الإنسان السوبرمان – المتفوق-  لدى نيتشه يقول ((ما عاش يسوع مسكيناً خائفاً..لم يمت شاكياً ، بل كان عاصفة هوجاء، ثائراً وصلباً متمرداً، ومات جباراً)) .
وفي الحب تسللت الثنائيات إلى مواقفه.فهو يرافق ماري هاسكل التي أحبها و رفضت الزواج منه وظلت صديقة ترعاه ، لكنه عشق جسد ميشلين ،وتمنى لو كانت لها روح ماري. وقد كانت تلك التجربة امتحاناً لروحانيته وتطهره الظاهري.ولعل عزوفه عن الإقتران بإمرأة من بعد هو الحل الذي استراحت له نفسه؛  خلاصاً من ثقل تلك الثنائية التي لم يكن من سبيل لتهريبها أو دمجها نظرياً، كما فعل في ثنائية يسوع وإنسان نيتشه القوي.
إن وجود تأثرات واضحة في (النبي) بكتاب نيتشه (هكذا تكلم زرادشت)  وتشابه شخصية المصطفى بزارا كسارد لدى نيتشه ،جعل بعض دارسيه يؤشرون إلى تناقض آخر؛ لأن جبران أعلن مراراً تأثره وإعجابه بوليم بليك وقصائده الروحية القريبة من التصوف.
وفي الموقف من حضارة الغرب نجد معاناة أخرى لجبران ضمن ثنائية الشرق والغرب ،إذ استطاع عبر المدن التي عاش فيها غريباً، والبشر الذين رآهم هناك أن يتوصل إلى رفض تلك الحضارة الغربية.وتحول من منتقد لشعبه في الشرق وكسلهم عن النهوض والتقدم، إلى مسكون بحنين جارف لأجواء نشأته في الشرق وحياته في كنفه. لقد خاب ظنه بالغرب الذي حلم به وتمناه، ووجد في مدنه وحضارته وحشيةً جعلته يحن بشدة إلى روحه الوادع وسلامه الفطري، وتمنى لو يقترنا معاً في مكانٍ ما غرباً أو شرقاً.
يقول جبران  في رسالة إلى ميخائيل نعيمة ((إنه وجد في مدن الغرب ناساً بنفوس متحجرة وأفكار عتيقة بالية..))  ويصف مدينتهم بأنها مدينة التقاليد..ويقابل ذلك حنينه إلى وطنه.يكتب إلى مي زياده عام 1925 قائلاً((سوف يجيء يوم أهرب فيه إلى الشرق.إن شوقي إلى وطني يكاد يذيبني.))وكان نعيمة قد شاركه في هجاء مدن الغرب الجديدة فقال عن نيويورك إن قباب مبانيها دمامل الأرض ، ونهرها من الكهرباء على ضفتيه جبال من الرخام، وغابات من الحديد هو جمال تلك المدن !!
وقد جسّد ذلك في سرده لأحداث ( النبي) حيث  يرمّز تعارضات قسوته على بلده وحبه له .
كان المصطفى  يهم بمغادرة أورفاليس المدينة التي عاش فيها وحدته وعزلته اثني عشر عاما هي مثل  أربعة فصول متغيرة المناخ متنوعة الأحداث، ولكن كواحد من أبناء المدينة التي منحته أمنها وخرج أهلها من حقولهم ومعاصرهم وبيوتهم متوسلين أن يبقى بينهم ، فيما هو ينتظر السفينة التي تحمله إلى وطنه ؛ فيلبث بينهم فترة يجيب على أسئلتهم منحة منه ووفاء لما قدموه له،ويكون التناص الآخر هنا مكانيا بين وطنه المرتقب ومهجره الذي سيهجره، وكأنه يتمثل حياته بين أمريكا حيث سكنه ولبنان حيث وطنه.وهذه إحدى تمثيلات الفكر الثنائي لدى جبران الذي يستحق دراسة كاشفة عن تاقضات شخصيته التي أورثته عذاب السؤال والبحث عن الخلاص من خلاله.
لقد انعكس ذلك الصراع في لغته وخطابه، فهو موزع بين النثر والشعر بلا حد فاصل؛ فلا نكاد نجزم بالهوية الإجناسية للكتاب الذي ينشره.كما يتضح في عرضه لأفكاره ومشاعره صراع بين التفلسف من جهة والشاعرية من جهة أخرى.كما بين لغته الأم التي يعود للكتابة بها شعراً ونثراً، والإنجليزية التي أتخذها وسيلة تعبير في أهم كتبه.
ويمكن العثور على وجه آخر لتلك الثنائيات في مرجعيات الكتابة لدى جبران والمؤثرات التي خضع لها.وهي ممثلة في أسلوبه بدرجة شديدة الوضوح حيث اشتبكت مصادره الممتدة بتعرج والتواءات وزوايا حادة بين نيتشه والمسيح والتصوف الإسلامي، والشعر والفلسفة المجردة.
لقد كان جبران يعيش حياة متخيلة تسللت من الأدب والكتابة والفكر إلى المعايشة والسلوك والممارسة اليومية.إنه يصف نفسه بنبأ كاذب أو ضباب..ضباب يغمر الأشياء ولكن لايتحد وإياه.انا ضباب – يقول لمي زياده- وفي الضباب وحدتي وفيه انفرادي،ووحشتي وجوعي وعطشي.
وتلك محنة جبران الذي ردد مرة:
انكساري ..يا انكساري..ياسيفي البراق ودرعي المصقول
فالإنكسار الذي أحسه في حياته لم يعد ضعفاً، لكنه تحول بحسب انتظام خطابه الموسوم بالثنائيات وتناقضاتها إلى درع يقيه الضعف..كما هو سيفه الذي يجابه به الأخطار.
وهكذا صار الشرق عدواً وتابعاً ، والغرب  قاتلاً وملاذاً،والنبي وحيداً وقائداً،والمجنون حراًوحكيما، والضباب عدماً وولادة، والموت مأساة وانتصاراً.ولديه حل أو إجابة لتلك التناقضات الثنائية التي واجهته طلباً لاختيار او نداء لم يطلقه.الحل لإشكالاته مع الوجود هو افتراض تعايش المتناقضات تحت مسمى صوفي هو وحدة الوجود:  حيث لكل شيء وجوده المتنامي المنحدر من أصل يلجأ إليه في عَوْد أبدي ،كما تعود نقطة الماء إلى بحرها.
لقد ظل جبران بانتظار مالا يأتي  مردداً:
((  أنا دائما بانتظار ما لا أعرفه، ويخيل إليّ في بعض الأحايين أنني أصرف حياتي مترقباً حدوث ما لم يحدث بعد))
وتلك ذروة ثنائيات جبران حيث يعيش حياته فنا وشعرا وكتابة، ثم يشعر بأنه ما يزال غير قابض على حلمه، مترقباً  ما لم يحدث بعد …..