نزهة بحزام ناسف: قاموس الرعب اليومي

((نحن العراقيين / التابوت بأطرافه القصيرة يوحّد أكتافنا/… نحن العراقيين /نتوسد الأسلحة ونتغطى بعجين العبوات /نحن العراقيين /دودة نائمة في رمّانة العالم.))
تلك الأبيات مجتزأة من ديوان الشاعر العراقي كاظم خنجر(نزهة بحزام ناسف) 2016 الذي أعده شهادة اخرى تعضد إمكان القصيدة – لا الرواية فحسب- استيعاب المشهد الدموي اليومي في العراق وتقديم تفاصيله ومفرداته، لا بالتسجيل الفوتغرافي أو الهيجان العاطفي ، بل بتحويل ما يجري إلى واقعات فنية لها وجودها الشعري داخل القصيدة، والذي لا يرتهن بالواقعة في تسلسلها الحدثي في الخارج.الديوان يعِدنا بنزهة ؛لكن ما سنراه هو سلسلة من فواجع، أصبحت علامات تشير إلى عالم يتشكل في الخارج.الرصاصات تغطي الوجه على الغلاف.وإمعانا في الكشف عن هوية الخطاب في الديوان يعيد الشاعر بالأبيض والاسود صورة الرصاصات ويضع لها عنوانا لافتا: ختم الكتاب.فتلك هويته أو شهادة حياته.يتوفر الديوان على عناصر القتل اليومي في العراق.ما يحدث من إرهاب أعمى يمحو السلم الأهلي و يسلب التعايش بين الأفراد، ويضع احتمال الموت  في برنامج العراقيين كل دقيقة وفي أي مكان.يكفي أن نراجع عناوين القصائد لنتأكد من وصف الديوان بأنه قاموس للرعب اليومي وسيرورة العنف ومظاهره اللافتة ؛ ومنه: (عاجل: العثور على مقبرة جماعية بالقرب…) و(جثث) و(إرهابي) و(قطع الرؤوس) و(سكاكين) و(رايات سود) و(سيارة مفخخة) و(ملثمون )و(ذبح) و(قصف) و(حصار) و(شظية) و(طلقة) و(تفجير) و(أصابع ديناميات  قصيرة) وسواها.لكن هذا الاحتشاد العنواني والموجه القوي للقراءة لاينقل الوقائع أو يهتم بتوثيقها.إنه ينقلها إلى جو فانتازي يتلبس القراءة كالكابوس، ولا يدع فاصلا بين الحالة وتمثّلها.إن كاظم خنجر اسم جديد في الشعرية العراقية الحديثة لكنه يواكب بديوانه هذا ما يحل بالوطن وما يبدد أمنه وسلامه. يضيف الشاعر دوما إلى المشهد العادي لمسة الخيال التي تجسمه أو تغرّبه أو تجعله نوعا من تلك الفانتازيا المقيمة في الذهن. الشاعرهنا و بقصيدة نثر سردية  ومقتصدة بلا ترهلات او إطالة يستوعب المشهد ويحتويه؛ فلا تغدو لمفردات الرعب معادلاتها اللغوية أو الحدثية ،بعد أن أدرجها الشاعر في تسلسل شعري جديد وبنى لها تراكيب يغلب عليها الانزياح ؛كوصف أصابع الديناميت بالقصيرة! وكذلك بالإيهام حيث يحضر الموتى بشكل هستيري: أعضاؤهم لا تخصهم بل هي مجموعة عشوائيا يوحدها الغياب فقط.يعود الشاعر أو الراوي في القصيدة بكيس جمع فيه ما قيل له إنه بقايا جسد أخيه الميت:
( يقول التقرير الطبي بأن كيس العظام الذي وقعت على استلامه  اليوم هو ((أنت)) ولكن هذا قليل .نثرته على الطاولة.أعدنا الحساب : جمجمة بستة ثقوب ، ثلاثة أضلاع زائدة، عظم ترقوة واحد، فخذ مهشمة،كومة أرساغ وبعض الفقرات. هل يمكن لهذا القليل أن يكون أخاً؟)
الموتى متشابهون في هذا المشهد الكابوسي.ثمة من يرتّب الجثث، يمنحها الأعضاء لتكتمل ، لقد هشمتها آلة الموت.اخترع القتلة ما يمحو صلة الأعضاء ببعضها ،وظل الموت يوحدها، ولا جدوى من ( ترتيب الجثث).إنها تختلط بسواها ليكتمل الرعب والأسى.ولا حدود أيضا للمأساة ؛فهي تقترب ليكون الضحية أخا أو صديقا؛ لكنها تتسع من الفرد إلى الجمع.في نص بالغ الدلالة هو(نحن العراقيين) يقدم كاظم خنجر بورتريتا جمعيا بعد أن حاول تقديم رسوم شعرية للقتلة والضحايا وتفاصيل لرؤوس مقطوعة وسكاكين ومفخخات وأحزمة ناسفة أدخلها الإرهابيون لا لمذخورنا اللغوي بل لقاموس حياتنا المهددة أيضا.هنا تتكرر لازمة (نحن العراقيين) ليتبعها وصف أو سرد فيه من الغرائبية ما يمكن تصنيفه كسخرية دامعة أو أليمة:
((نحن العراقيين /نصنع أبواب بيوتنا من الحديد لنصدأ خلفها/ نحن العراقيين/ نقلع سنواتنا المسوّسة كل يوم/ ونصطف في مقبرة جماعية..)) ولا يفوت الشاعر أن يعمق عبر جزئيات المشهد تلك الخسارات والخيبات حتى ليتوسل الضحية بالقاتل:((عفوا أيها القاتل/نسيت سكينك في عنقي)) و لا يبقى سوى مشهد الخراب((أفتح عينيّ كبيضتين مكسورتين على تلّ من الأحجار)).
كاظم خنجر يرعبنا بصوره المنتزعة من واقع مفجع؛ لكنه يمتعنا- وهذه مفارقة غريبة- بما تخير لها من بناء شعري ولغوي، ينبئ بصوت رصين في جحيم الوطن وفردوس القصيدة.
 
 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*