صورة صندوق …لاتغلقه الذاكرة في ذكرى اختطاف ولدي عدي

 عدي بعدستي عمّان 2006

فإن ينقطع منك الرجاءُ فإنه       سيبقى عليك الحزنُ ما بقيَ الدهرُ

الخريف الجارح من جديد.التاسعة صباحا قبل عشرة أعوام …ياله من غياب كأوديسة من العذاب الأبدي! عقد من الألم الممض الذي يزداد ضراوة ولا يخف .الزمن يعمل عكس وظيفته فلا أنسى ولا هو يمنحني لحظة نسيان أو تناسٍ…هنا أعيد ما كتبته في ذكرى غيابه ذات سنة ..فلا جديد سوى ما يتراكم من غيوم الأسى واليأس والإحساس بالخسران.كيف إذن سأواجه ذكرياتي عندكا ا‘اينها بعد هذا الغياب؟؟؟؟؟

كانت الرسالة الأخيرة التي وصلتني من هاتفه النقال عند التاسعة صباحا من يوم السبت 28-10-2006  مختصرة جدا : ( صباح الخير . هسه تحركنا.) إذن فقد بدأ خروجهم من جحيم بغداد التي اشتعلت فيها أعتى نيران الكراهية والطائفية والقتل على الهوية في  تلك الأيام ، بعد  قرابة ساعتين ونصف لم يكن الهاتف يرد. مقفل أو في منطقة غير مغطاة. بدأ القلق يساورني . هو وأمه وزوجته وطفلاه زيد وريمه في حافلة عامة في الطريق إلى عمّان  ليسكنوا هناك .إنهم الآن قرب الأنبار . بين الفلوجة والثرثار . عند حدود الصقلاوية تحديدا ،ومجرمو القاعدة الذين تفرغوا لقتل العراقيين بديلا لمحاربة المحتل  يصولون هناك بلا رادع  ويقطعون الطريق الدولي مفتشين هويات الركاب لينتقوا ضحاياهم .

كان اليوم خريفيا  من أكثر الأيام التي تثير الشجن في النفس وهو أول أيام الأسبوع ، حتى الرب اختاره ليرتاح من الخلق، ولكنهم جاءوا الآن ملثمين  بدشاديشهم القصيرة ، خرجوا من خمس سيارات  أجرة –مسروقة غالبا-وبعد أن ابتعدت سيارة همر تحمل دورية أمريكية على الطريق ، تجنبوا الهمر ورصدوا الحافلة الملآى بالفارين من الجحيم والتهجير والقتل من العراقيين ، وبالأسلحة أجبروا الحافلة على التوقف، وبدأت غزوتهم ! بتفتيش جوازات الركاب. كان عدي قد ولد في الكوت –واسط يوم كنت مدرسا في إعداديتها عام 1972.واسط كانت كافية ليشير كبيرهم برأسه أن انزل. توسلات زوجته وأمه وصراخ طفليه لم تجدِ نفعا . فقط أسمعوهم أن الأمير؟ سيقرر مصيره وثلاثة شبان من الركاب أيضا.

توزع المخطوفون في صناديق السيارات  الخلفية. لماذا قبل التحقيق معهم وإدانتهم يعذبون هكذا :  لا يجيب كبيرهم  بل يدعو النسوة للصمت وكذلك الاحتشام  لأنهن  بحجاب الرأس ووجوههن مكشوفة.

يأخذ المجاهدون الحافلة فيداً وغنيمة ويتركون الركاب في العراء لدموعهم  ورعبهم. هكذا تختفي التاكسيات وتختفي حيوات ثلاث، بينها : ابني عدي الذي  لم نعلم عنه منذ تلك اللحظة شيئا.

سيفر الجناة من المنطقة كلها من بعد. .يكتشف الناس المدنيون أنهم جاءوا ليقتلوا أخوتهم فلفظوهم من بينهم .الخيط الوحيد الذي بقي لنا  هو هاتفه لان غبيا من خاطفيه ترك الشريحة فيه وعاد ليستعمله وردّ علينا فعرفنا عنوانه واسمه، لكنه اختفى منذ علم بمعرفتنا له ولخطورة المكان الذي يسكنه .

صور سيناريو  الخطف المرعب  لم أرها بنفسي ، ولكن ظل منها وجود عدي في صندوق سيارة  ، وصرت كلما أعاين صندوقا أحس بالألم يعتصرني وأتخيله في ظلام الصندوق مندهشا مما جرى له وهو البرئ من أية تهمة أو شبهة ، وأفكر : ماذا كان يمر في باله ساعتها: ولداه؟ أبوه وأمه؟ زوجته؟طفله الثالث الذي سيأتي بعد شهر؟ السلام الذي حلم به ودراسته التي كان يحلم باستكمالها؟ أخواه المغتربان في المنافي ؟

الآن وبعد محاولات أمل فاشلة:  لم يبق لنا سوى سراب يمنحنا إياه وجود  أسماء متشابهة في سجن ، خبر عن موقوف في معتقل،  شيء ما عن أسرى بلا عناوين ربما سيخرجون ، أو  لعله اختلط بخاطفيه أو أجبروه على العمل معهم أو الموت..

ما يؤرقني الآن هي الصور : مسلسل خطفه منذ ظهور الجناة من وراء النبتات على جانبي الشارع وتوسلات عائلته وظلام الصندوق.

عذاب الصور التي أستخرجها من الذاكرة والسماع على مضض هربا من الألم أذهب إليه بنفسي غالبا قبل النوم : أتقلب على الفراش فتواجهني الصور: صندوق التاكسي هو القرار الذي تنتهي عنده ضجة الألم : ظلامه وتكور جسد عدي داخله ووساوسه وخوفه تعيدني لصورته صغيرا : لقد ولد قبل أوانه بأسابيع في شتاء قاس بمدينة الكوت واضطررنا لنلفه بالقطن شهرا وقاية بسبب نحوله وضآلة وزنه. ثم ببغداد في حاضنة اصطناعية يبدو جسده الصغير عاريا من وراء زجاجها وكأنه يلتف على نفسه بسلام لا يعلم أنه بعد أربعة وثلاثين شتاء ستذروه عواصف الحقد الأخوي البغيض.

تقول سوزان سونتاغ في كتابها المكرس للصور الفوتغرافية عن الألم والموت ودمار الحروب (الالتفات إلى ألم الآخرين)-ترجمة مجيد البرغوثي((إن الصور تُشيّئ ،تحوّل حادثةً ما أو شخصا إلى  شيء يمكن امتلاكه، والصور نوع من الكيمياء أيضا،ولذلك كله تلقى التقدير كتعبير شفاف عن الواقع)). وتضيف معوّلة على عمل الذاكرة الفردية بأن الذاكرة لا تكون إلا هكذا؛ فالصور تساعدنا على إدراك وتركيب الحاضر والماضي القريب. فيغدو بين أيدينا في لحظة أسره، بإمكان  اقتناصه بالعدسة.

صور يصنعها الذهن والذاكرة لا تقل عن تلك الاقتناصات الضوئية: وها

هي صور عدي  الحقيقية لا الذهنية  تؤازر طاقة التذكر، صورته  في حديقة المنزل و صغيرا خلف مقود السيارة ، ثم في مراهقته بشارب خفيف وبنية نحيلة ، صورته عسكريا ، أو في بدلة عرسه ..صور في عمان ودمشق وبغداد.. ولكن الصندوق سيقفلها جميعا ويتسيد الذاكرة..فكأنه الخزانة والإطار والعنوان .

الآن كلما كبر أحمد صغيره المولود بعد خطفه بخمسة وثلاثين يوما تهزمني نظراته وأسئلته الحائرة وسط وجود آباء زملاء الروضة أو المبنى.

كيف نجوتُ من ألمي وتغلبت عليه؟ من أجل نظرات أحمد خاصة .ولأهزم الدشاديش القصيرة : بالحياة التي يكرهون والفن الذي يحاربون والكتابة التي يجهلون.

كيف سأهزم صورة الصندوق المغلق على جسد ابني؟ ومتى ينفتح لأستطيع أن أحدق في الصناديق المغلقة  ولا أخشاها حتى  في الصور؟

هذا ما أوقفت من أجله ما تبقى لي من حصة حياة  .

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*