في رحيل غونتر غراس

ما ينبغي أن يقال..  

في رحيل غونتر غراس                                                                                 

 

فرصتان تهيأت لي فيهما مقابلة غونتر غراس هما زيارتاه لليمن مشاركا في نشاطين ثقافيين :

( في البدء كان الحوار) و(ملتقى الرواية العربية الألمانية).كان مجيء غراس الأول إلى اليمن  في ديسمبرعام 2002 محفوفا بأصداء حيازته نوبل الآداب عام 1999.الرجل لبى دعوة اليمن وحضر في العاصمة صنعاء رافضا دعوات من عواصم عالمية عديدة.شيء تفسره نزعته في المخالفة للسائد والصور النمطية التي يشيعها الغرب. وتهيمن على ثقافته.بجانبه كان محمود درويش وأدونيس وعبدالعزيز المقالح، وحوله طاولة حوار ضمت عشرات المثقفين العرب واليمنيين أرادها أن تكون حول الرقابة وأثرها في حرية الكتابة.عرض ببساطته المعروفه تجربته مع الرقباء بسبب ما تتميز به رواياته من مواقف جرى الاحتجاج عليها اجتماعيا وقال إن رقابة المجتمع هي أشد وقعا وخطرا من الرقابة الرسمية.وذكر بسخرية كيف كانت نساء عائدات من التسوق يلعننه ويرمين عليه الفضلات لما اعتبرنه خدشا للحياء في رواياته لاسيما سمكة موسى و طبل الصفيح.

من أجل حرية الكاتب

في لقاء للوفود المشاركة  في ندوة الرواية مع رئيس الجمهورية لم يقرأ غراس شيئا إلا بعد أن اشترط أن يستمع الرئيس لطلب تقدم به.كانت قضية الروائي اليمني وجدي الأهدل معروفة بعد روايته (قوارب جبلية) إذ فرضت عليه السلطات حجرا ومنعا تمكن أن يفلت منه إلى الخارج.عرض غراس قضية الأهدل، وقال( إنه يجب أن يعود لوطنه .إنه كاتب وأنا لا أعرفه لكن من حقه أن يكون في وطنه.)  تقرر العفو عن الأهدل الذي سيمنع لاحقا عدة مرات من السفر! لكن غراس أعلن فرحه لسبببين كما قال: لأنه أفلح في إعطاء الحرية لكاتب كي يعود لوطنه دون مساءلَة قانونية ،وثانيا – وهذا ما قاله مصحوبا بضحكة مدوية -لأنه استطاع لأول مرة  في حياته أن يقنع رئيسا بإصدار قرار لكثرة مشاكسته للسلطات .

سمكة موسى بلغات عديدة

تمكن زميلنا الدكتور علي منصورأستاذ اللغة الألمانية من الحصول على موافقة غراس على ترجمة كتاب (سمكة موسى تتكلم بلغات عديدة) الذي يضم مقالات لأبرز مترجمي غراس للغات العالمية ومنها العربية، حيث كان المترجمون يحضرون بشكل دوري، ويستضيفهم غراس ليتحدثوا عن تحديات الترجمة وتجاربهم مع نقل روايات غراس إلى لغاتهم.ومن الجميل أن الكتاب صدر عند زيارة غراس الثانية مساهما في الملتقى الروائي العربي الألماني.

كان غراس يختم أسبوع اللقاء بمترجميه بأن يطبخ لهم حساء سمكة موسى بنفسه.سمكة موسى التي كانت عنوان روايته الصادرة عام 1977 بحجم ضخم ومحتوى  فريد ،حيث يحصل فيها كل شي عن الطعام والنساء والحضارة والاقتصاد. خمس سنوات قضاها غراس في كتابتها وبأسلوب تجريبي متنوع الهيئات: حكاية شعبية وشعراوتلاعبا حرا بالألفاظ يصر عليه غراس في شتى أعماله، ويربك مترجميه الذين قال لهم بعد أن استمع لشكواهم :إنه سيظل  يكتب بأسلوبه هذا ويزعجهم ويواصل وضع المشاكل في طريق ترجمتهم لأعماله! وهكذا شأن روايته طبل الصفيح 1959 – ترجمها حسين الموزاني إلى العربية- وما أثارته في أسواق الكتب في البلدان التي ترجمت الرواية إلى لغاتها.

في الشيخوخة ..وبالحبر الأخير: ما ينبغي قوله

وفي الشعر كان غراس مشاغبا .قصيدته النثرية -ما يجب أن يقال-

فجرت  ضجة سياسية وإعلامية حادة . تبدو القصيدة مباشرة وتقريرية ، وخطابها سياسي لا شاعرية في مفرداته وصوره.كانت أشبه ببيان شخصي عن صمت طال في الغرب على جرائم الاحتلال الإسرائيلي ، والغريب أن لا أحد ممن أزعجهم قول ما لايقال  صوّب باتجاه القصيدة فنيا. بل كان مضمونها هو الهدف ، وتسفيه مستواها الفني  لايرد  إلا مجرد ذريعة لاستكمال الهجوم على المحتوى الصادم للثوابت الغربية بصدد مبررات  الحروب وجدواها ..

لكن ما قاله غونتر غراس يمثل بداية المراجعة لتلك الثوابت حول ما يدور في العالم لا سيما الحروب ،وإمكان قيامها في أية لحظة.فها هو يتساءل في مفتتح القصيدة: لماذا  ألزم الصمت ؟ لماذا أكتم طويلا؟ والحرب هي مدار القصيدة  و ترد فيها إسرائيل الدولة – وليس اليهود- كوجود ممكن لأن تنبعث منه شرارة الحرب القادمة والمدمرة كما يصف غراس.وتبعا لذلك يكون السؤال مبررا: لماذا نكتم-وضمير الجمع هو الغرب الذي ينتمي إليه غراس –  و لا نطالب بلدا  يهيئ قوته  لحرب قادمة يمهد غراس لذكره بتردد ،لأنه  يعرف ما سيترتب عليه( فحكاية معاداة السامية جاهزة)  كما يقول ،والرهاب الفائق من ذكر ما تفعله المؤسسة العنصرية يجعل الجميع يشاركون في الصمت الذي خضع له  غراس نفسه ،صمت يصفه بأنه (أكذوبة مدانة.) يسأل غراس مستبطنا ومستبقا القارئ : ولكن لماذا بقيت صامتا حتى الآن؟

يعطي غراس مبررات كثيرة تتركز في سياسات وطنه وسمعته، لكن المسكوت عنه واضح وهو سبب الصمت الطويل.

يذكر غراس في قصيدته أنه سيقول ما يجب أن يقال (في الشيخوخة ..وبحبره الأخير) كناية عن سنّه حيث تجاوز الثمانين،( وما يجب قوله /قد يصبح غدا متأخرا) فثمة جريمة محتملة، والإنسانية لا تحتمل المزيد من الحروب التي تنفق إسرائيل عليها هبات الغرب لها ومعوناته .

يأمل غراس كما نأمل بأن (يتحرر الكثيرون من صمتهم) مادام قد أعلن وبصراحة أنه( لن يصمت بعد الآن). منتقدا ما يسميه(نفاق الغرب) . وإذ يختم نصه يتوقع غراس ما سيقال، فيذكر أنه لا يعادي أحدا ،ويريد للبشر أن يعيشوا بلا عداء ( في تلك الأرض المبتلاة بالجنون) فيكون الخلاص للجميع ،و لنا نحن أيضا كما يقول عن مواطنيه..الذين شاركهم   في صمتهم، فدعاهم لمشاركته بقول ما يجب أن  يقال.

هذا الإعلان عن هتك الصمت أثار شهية المعادين للمراجعة وقول ما يجب أن يقال!فراحوا يعيدون ما اثاروه حول ماضي غراس في سيرته (أثناء تقشير البصل)  الصادرة عام  2006

في زيارته الثانية في يناير 2004  سيفتتح غراس في قصر السلام  مدرسة  باسمه لتدريب الحرفيين على العمارة الطينية التي سلبت إعجابه في تريم -حضرموت. عمارات شاهقة من الطين بجماليات مميزة تجعلها تبدو كناطحات سحاب. ذاك جزء من اهتمامه بالضمير الجمعي وجماليات البساطة الشعبية ، بل أصر أن تكون أمسيته الشعرية في سمسمرة  النحاس المشهورة في السوق القديم بباب اليمن.وفي الطابق الأول منها حيث  الأغنيات والقصائد والرقصات .كان غراس فرحا كطفل ومبتهجا بما يرى. وكان التخفف من الرسميات والأضواء قد بعثت في نفسه نشوة قال إنه لا يحسها إلا في أماكن كهذه تنبض بالمحبة والبساطة والتلقائية.

بعد عامين سينشر أثناء تقشير البصل- وهي أجزاء من سيرته الذاتية واعترف أنه تطوع في فرقة خاصة في الجيش النازي خلال الحرب رغم أنه لم يشارك في أية معركة.تلك كانت فرصة خصومه السياسيين وقارئي أدبه سياسيا والمتضجرين من مساندته لحرية الفلسطينيين وشجبه للغزو الأمريكي للعراق رغم حرصه على حريات الشعوب وحقها في الحياة. وقعنا  عام 2006بيانا دعت إليه الشاعرة العراقية أمل الجبوري المقيمة ببرلين والتي ساهمت بشكل فعال في استضافته في اليمن.كان ذلك ردا بسيطا لمواقفه من قضايانا .

تقشير غراس .
كان مجاز البصل في عنوان السيرة ذا دلالة، فالسرد يتم كما يتم تقشير البصل: كل غلاف يؤدي إلى غلاف آخر، أو قشر يخفي قشرا. وكان رولان بارت قد شبّه الوجود النصي بذلك معتبرا النص أغلفة تؤدي إلى بعضهاعندالتحليل..
السيرة تعرضت بالضرورة لأحداث حرجة ومهمة في تاريخ ألمانيا والعالم. لكن ما استوقف قراءه ونقاده تلك المعلومة التي أخفاها ستين عاماً: انضمامه أواخر الحرب العالمية الثانية إلى الفرقة النازية وهو في السابعة عشرة من عمره ولفترة وجيزة لم يخض فيها أي قتال، كثيرون اعتبروا الأمر شجاعة، وفنيا كان غراس يقشر بصل حياته كما يحلو له مستجيبا لشرط الصدق الذي اشترطه منظّرو السيرة الذاتية أو افترضوا وجوده بحدود كافية على الأقل.
وأخلاقيا يقول غراس إنه حسم أمرا أثقل كاهله سنوات طويلة إذ كان يذكر دوما أنه خدم في القوات الجوية. وهو في اعترافه يبرأ ضمنا من الذنب ولا يكرسه أو يدافع عنه، مما جعل تجريمه والدعوة حتى لسحب نوبل منه وانتقاده بشدة أمورا تتعدى حرية الفكر نفسها، مما دعا كتاباً من بلده والعالم للدفاع عن موقفه الأخلاقي،.
لقد تجاوز منتقدوه ما قاله حول انتقام الفرنسيين من السكّان المدنيين وما سماه إذلال الشعب الألماني وفظائع الجيش الأحمر بعد الحرب وتعرض أمه للاغتصاب في قبو الدار.
لقد تم تقشير غراس هذه المرة. ولكنه هو نفسه غير راغب في تقشير المزيد من أغلفة حياته التي توقف سردها عند نهاية الخمسينيات.

حياة حافلة لم يعشها غراس عابرا. (1927-2015) تلك كانت حصته من الحياة التي يقول إنه عاشها مشاكسا مختلفا ومخالفا ولكنه أحب  بكل طاقته الحياة  التي وصف عالمها بالجنون.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*