حاتم الصكر : الشعر يفاجئ ويتحدى معجزة الإحياء والإقامة- أجراه الشاعر حميد العقابي-مجلة نصوص

الصورة للشاعر والكاتب الراحل حميد العقابي
حوار أجراه الشاعر حميد العقابي لمجلة نصوص التي يشرف على إصدارها
ما يميز الناقد الدكتور حاتم محمد الصكر عن مجايليه من النقاد العراقيين هو أنه كرّس الكثير من جهده النقدي لمتابعة ميدانية للشعر العراقي ، وهو على الرغم من كونه شاعراً ينتمي إلى جيل الستينات الذي وقف أغلب شعرائه موقفاً سلبياً من شعراء الجيل الذي تلاهم ( ما سمي بجيل السبعينات أو الشعراء الشباب ـ آنذاك ـ ) إلا أنه وقف موقفاً منصفاً في أغلب الأحيان ) مما كتبه الشباب ، فمنذ افتتاحية العدد الأول لمجلة الطليعة الأدبية التي كتبها الصكر وحتى الآن نجده قد أخذ على عاتقه مهمة تقييم تجربة شعراء السبعينات وقد أصدر كتابا ًخاصاً عن شعرهم ضم نقداً وأرشفةً ومختارات لبعض شعراء الجيل ، وهو كتاب  ( مواجهات الصوت
القادم )
الصادر عام 1986 .
 
توجهت إليه بأسئلة ( عبر البريد الإلكتروني ) فأجاب عليها مشكوراً ، ولأني لا أرى أن هذه الأسئلة والإجابات تشكل حواراً أو مقابلة ، لذا فأني هنا أدرجها ضمن باب ( آراء ) .
حميد العقابي
– من الملاحظ أن الناقد عندنا يبدأ مسيرته الأدبية معتمداً على موهبته وذائقته? لكنه سرعان ما يتحول إلى ( دارس ) يتعكز على المناهج الغربية في النقد . ما هو السبب في رأيك ? هل أن الذائقة تستنفد قدرتها
على الكشف أم أنه يجد في المناهج الغربية أفقاً أوسع وتشعره بالطمأنينة أكثر؟
·      هذه الملاحظة ذات شقين : أوافقك في أولهما . فالموهبة والذائقة تقودان ( مشروع ) الناقد ? وأنا لا أستريح ابتداءً لهذا الوصف وأفضل عليه : الكاتب ? وتوجهات نشاطه،·            وقبل ذلك مواقفه ورؤيته ?·          فيستجيب لهما ويتحرك بدافع منهما ?·        سواء في اختيار النصوص التي يحتك بها ?·  أو اللغة النقدية التي ينجز بها رؤيته ..
لكن الكاتب ? كالشاعر تماماً ? تنضاف إلى محصلته خلال عمله خبرات ومعارف ? من بينها الرؤية المنهجية ? فنحن نقع تحت ضغط جهاز منهجي اصطلاحي ومفهومي ? وكما يتأثر الشاعر بالأشكال المقترحة والأساليب ? يخضع الكاتب لما أسميه (إغراءات) المناهج ومقترحاتها .. وهذا أمر طبيعي ولسنا استثناء فيه ? بل لقد خضع له حتى النقاد التقليديون القدامى حين استلفوا مصطلحات ومفاهيم من المنطق اليوناني إلى حد إثقال البلاغة والنقد بها..
الأمر ليس كما صاغه سؤالك الذكي في شقه الثاني الذي أخالفك فيه ? فليس ذلك الامتثال للإغراء المنهجي والكشف النقدي الجديد متحصلاً من ( استنفاد ) القدرة الذاتية التي تمد الناقد بها موهبته ، ( على الكشف ) بل لأن تلك المناهج تهبه ( أفقاً ) رؤيوياً وإجرائياً جديداً، وفي حالتي الخاصة أذكر أن حيرتي بين ربط الأدب ? والشعر خاصة ، بالواقع في مضيق الانعكاس والتعبير آلياً عن الحياة والعالم والواقع ، وهي مسميات مخيفة وذات طبيعة آلتهامية كبيرة ، وبين الإخلاص للنزعة النصية وتقديس النص كمرجعيـة وحيدة للتقويم والتحليل والرصد إلى حد الوقوع في ما يسميه جاك ديريـدا ( الانحباس داخل النص ) وهو ما يمثله تيار النقد الجديد في الأدبيات الانكلوسكسونية.. من تلك الميزة بين الواقعية ، بدوافع ثورية واجتماعية ، والنصية ،بدوافع فنية وجمالية ، حصل لي التوافق مع اطروحات مناهج القراءة والتلقي في الثمانينيات والتي تقترح ( القراءة ) كفعل نقدي وممارسة ذاتية تسمح بإظهار طبقات النص المغيبة وتحفظ لذات القارئ ، الناقد فسحة من دمج أفقه بأفق النص المقروء . التي لا ضير في اقتراضها من الهبة أو الثورة المنهجية المعاصرة شريطة أن يتم تكييف إجراءاتها بما يناسب خصوصية وسياقات النصوص الأدبية ذاتها.
– ونحن مازلنا نتحقق من دقة مصطلح ( الشعر الحر ) حتى برز في الساحة الأدبية مصطلح ( النص ) ? ما هو في رأيك سبب هذا الالتباس وهذه اللادقّة في المصطلحات ?
·      في علم مستقل اليوم هو ( علم المصطلح ) يعوّل ? لا على المفردة الجامعة المانعة بتعبير المناطقـة ? بل على ما يدل بإيجـاز ومرونة صرفية (اشتقاقية) ودلاليـة (معنويـة) علـى ( المفهوم ) الذي يمثل البنية التحتية أو العميقة للشيء المصطلح عليه ..
بعبارة أخرى فالمصطلح هو البنية الخارجية أو الفوقية التي لا يدل الاختلاف عليها إلا على مقدار الاختلاف أو الاتفاق الحاصل على ما يختبئ أو يختفي تحتها من مفهوم ورؤية .
وهذا ما حصل عملياً في مصطلح ( الشعر الحر ) فحريته المشروطة كما رأتها نازك وجيلها لا تسمح باعتماد هذا المصطلح بيقين أكيد .. بل سمح ذلك بما تسميه في سؤالك بالالتباس أو البلبلة الاصطلاحية ? فضلاً عن اختلاط هذا المصطلح بالشعر الحر الغربي كما كتبه ويتمان مثلاً ? وهذا هو جوهر اعتراض الراحل جبرا ابراهيم جبرا على مصطلح ( الشعر الحر ) كما روجت لـه نازك واستقر في خطابنا النقدي .. لكنّ استقرار المصطلح ووضوح مفهومه وما يشير إليه جعلنا جميعاً نستخدمه .. ولا بأس في ذلك ..
أعتقد شخصياً أن مفهوم ( النص ) المتّسع عن الأشكال الشعرية كلها لا عن الشعر الحر فقط، ترافق مع بروز النزعة النصية في النقد العربي الحديث بعد السبعينيات تحديداً ? فصار هذا المصطلح يشمل الكتابات الهاربة من التحديد والتجنيس.. وسمحت اللغة العربية بسعتها ومرونتها وتنوعها الدلالي أن يتمدد مصطلح ( النص ) من أصل الشيء ومتنه إلى مفهوم جديد هو ( العمل ) المتنوع المقترض من النثر والسرد داخل القصيدة ? ومن الشعر والمسرح داخل القصة والرواية … وهكذا …
بل لقد استخدمناه بأثر رجعي إذا صحت العبارة .. فصرنا نسمي ( نصاً ) كتابات النفري والجنيد والخرّاز والصوفيين العرب عامة .. وبذا جرى تجنيسها في منطقة قولية خاصة بين الشعر والنثر ..
المسألة في جانب منها تشير فعلاً إلى ( اللا دقة ) التي ذكرتها في سؤالك ? لكنها في جانب آخر تفك اشتباك الأجناس والأنواع القولية .
  – في منتصف التسعينيات التقيت في دمشق بشعراء من جيلي كانوا قد غادروا العراق حديثا ? شعرت وقتها أننا ننتمي إلى عراقين ? أطروحات غريبة ? نصوص لا تدعي القطيعة مع الذاكرة فحسب بل تمتد إلى قطيعة مع الحواس ? لتتحول القصيدة إلى تهويم لغوي خاو ? هل لك أن تخبرنا ماذا حدث في عقد الثمانينيات؟
·      أنت تعلم جيداً لكونك شاعراً عراقياً،·            أن الشعرية العراقية تلخص نبض القلب من الشعرية  بل أزعم أن مراجعة مسيرتها مناسبة لمراجعة مسيرة الشعرية العربية كلها ?·       منذ محاولات العباسيين المحدثين ببغداد والبصرة والكوفة ?·  حتى اندلاع شعلة التجديد الشعري في منتصف الأربعينات (السياب وجيله) وحتى في الحالات التي كان فيها الشاعر العراقي مستقبلاً ومتلقياً ( قصيدة النثر لبنانية الولادة) فهو يمنحها كيفيات جديدة ذات حرارة وتدفق وحيوية وتنوع في المناخات الكتابية والمعالجات .
هذا التشخص لا ينبع من (وطنية) سطحية أو (عراقية) إقليمية بل نتيجة مقارنة ومتابعة ودراسة شخصية للشعرية العربية منذ ما يزيد على أربعين عاماً، وهذا يفسر التعايش الأسلوبي في كتابة الشعر العراقي ويفسر وجود ذرى تقليدية كالجواهري إلى جانب السياب والأصوات الخمسينية (سعدي و جيله) والستينينثم فورة السبعينيات الشابة ? وصولاً إلى ما حصل للجسد الشعري العراقي منذ حروب العراق الاسطورية أللا معقولة وتفتتت كتلة الثقافة العراقية بالهجرة أو النفي أو الصمت أو القمع أو الخوف …الخ .
وهذا يفسر لك أيها العزيز وجود (عراقين) بتعبيرك، ونوعين من الشعرية: تتمسك إحداهما باللغة كفاعلية أولى في كتابة، وتخلص الثانية للموضوع وتجعل منه بؤرة النص..
وفي الحالين تمثل هذه الفسيفاء العراق الشعري الحقيقي: المتنوع دينياً ومذهبياً .. وشعرياً، والمتعايش في الوقت نفسه..
لقد وجد الثمانينون أنفسهم أمام مفترق طرق: التابوات على الأنواع زالت ( صارت قصيدة النثر ذات قبول من الأطراف الشعرية مثلاً) ولكن الإرث يستوجب القطيعة والاختلاف والمشاكسة وهذا ما حصل .
ولذا ترانا نشكك بحداثة المشككين بمشروع الحداثة. بحجة الواقع أو التراث أو سواهما من الذرائع.. أو رفضاً لما يرونه ( رطانة ) حداثوية في حين أن مصدر سوء الفهم ذاك هو تجمد أطرافهم الشعرية وعدم تغييرهم لأفق قراءتهم أو تطوير جهازهم الذوقي والقرائي ..
  – وإلحاقاً بالسؤال السابق أود أن أسأل : كيف طرحت فكرة (الحداثة) وربما (ما بعد الحداثة) في الأدب العراقي (وبيقينية ) في ظل أشد أنظمة العالم تخلفاً وأعني المؤسسة الثقافية التابعة للنظام البائد .
·      هذا الـذي يشخصه سؤالك هو أحـد اسرار الحالـة العنقائيـة للعراقي ولقصيدته أيضاً.. فالمحصول الشعري العراقي كان يمد الشاعر بنسغ متمرد على القمع والتابوات والخوف ?·       وداخل القصيدة يجد العراقي نفسه كأنما يستبدلها بالعالم القاسي المجنون خارجها..
كنا مثلاًَ في مجلة ( الأقلام ) ? ( الطليعة الأدبية ) نكرس نصوصاً وظواهر تجريبية تفّر من شباك المؤسسة الرسمية وتقلقها … لكن زخم الشعرية العراقية يجعل الأمر متواطأ عليه ولو بصعوبة وكفاحية وتساؤلات . التراكم المعرفي أيضاً ساهم في الحماسة لاطروحات الحداثة وما بعدها ? وكأنما وجد فيها الكاتب العراقي شجباً لتخلف المؤسسة الرسمية ورسميتها وعسفها …..
  – هل يموت الشكل الفني أو الأدبي وبالتحديد الشعري ? بعبارة أخرى هل تؤمن بموت أسلوب معين ؟هل مات الشكل العمودي للقصيدة ? وهل سيموت الشعر الحر؟
·      موت الأشكال وإحياؤها نسبي وظرفي . خذ الموشح مثلا أو البند أو التدوير فهي في قياس نظرية الأدب أشكال قديمة عبرت عن حالة ظرفية في خط الشعر .. لكنها قامت من موتها أو تجمدها لتنجد الشاعر الحديث وهو يبحث عن مرجعيات وأصول ومبررات ?·  ثم وهو يبحث عن كيفيات مبتكرة .. فصار لتلك الأشكال حضورا ? ثانياً أو قيامة .. وهذا يقال أيضاً عن الخطاب الصوفي الذي أفاد منه شعراء الحداثة الأولى ?· وشهدنا مؤخراً عودة ثانية لآلياته في الغزل خاصة يدل على ذلك سيل الدواوين الإيروتيكية التي قد نحصي منها ( أعمالاً لأمجد ناصر : سر من رآك ?· ودرويش : سرير الغريبة ?·          وسعدي: إيروتيكا ?·        وهاشم شفيق : غزل عربي .. ) هذا للتمثيل فحسب ?· أما طي صفحة الشكل نهائياً وتشييعه فأمر لا أغامر بالحكم عليه ?·       لأن الشعر يفاجئ ويتحدى معجزة الأحياء والقيامة ..
كما أنه كيفية خاصة يجد كل شاعر نفسه في ركن منها .. أعني أن الرؤى المتباينة ستظل تستنجد بأشكال متباينة .. تتعايش وتلاعب بعضها ظهوراً واختفاءً .
  – استكمالاً لآرائك كيف ترى تطور الشعراء الشباب ( الذين كانوا شباباً ) والذين كتبت عنهم كتابك ( الموجة الجديدة ) ? وهل في نيتك استدراك تلك الدراسة بالأسماء التي لم تتطرق لها ?
·      في كتابي ( مواجهات الصوت القادم ) خضعت لإكراهات منهجية : فأنت تعلم أنني كتبته في الداخل حيث لا تصلنا غالباً إنجازات الشعراء المهاجرين والمنفيين بل حتى الذين يصدرون كتبهم في عواصم قريبة ( عمان ? بيروت ? دمشق …) فضلاً عن أن الكثيرين كانوا في الداخل ولم يبدأوا أوديسة نفيهم بعد ?·        لكنني ككاتب ستيني كنت أشكك بأطروحات السبعينيين الضائعة بين الأجيال والمضطربة في استخدام الرموز الأساطير وفي اختيار لغة القصيدة وضياع إيقاعها بين الوزنية والنثرية وعدم وضوح المشغّلات النظرية للجيل نفسه ..
من هنا كان كتابي احتكاكاً ضدياً مع السبعينيين من جهة ? وتعويلاً على ضرورة تجديدهم لدم الشعر العراقي من جهة ثانية ..
لو قدر لي اليوم أن أعيد كتابة كتابي ذاك ? سأستدرك أسماءً وأغير مختاراتي دون شك .. لكن ذلك عمل جديد برؤية جديدة تحتكم إلى المتغيرات التي جرت خلال سبعة عشر عاماً منذ صدور الكتاب .
– هل قرأت شعر المنفى ? وأين تضعه في تلك المرحلة ?
·      شعر المنفى والمهجر هو الآخر مناخات .. وليس صفقة أو كتلة واحدة .. الشعراء الذين خرجوا إلى المنافي والمهاجر وهم ذوو رؤى ومواقف وأسلوب واصلوا كتاباتهم بمناخ قريب في شعر زملائهم في الداخل .. أسلوبياً على الأقل ?·            إذا ما استبعدنا حريتهم في الشجب وفي الاعتراض على النظام وحروبه وعسفه وإيديولوجيته ?·   وثمة شعراء تكونوا في المنفى والمهجر وبعض هؤلاء لم تتضح في كتاباتهم أية آثار للمنافي والمهاجر .. وقد كتبت هذا ذات مرة ?·       وبعد خروجي من العراق للعمل في الجامعة اليمنية ?·            إذ افتقدت في شعرهم مؤثر المكان الجديد ومناخاته ولغته وثقافته باستثناء الحنين وتنويعاته …
ذلك كله يظل حكماً غير قابل للتعميم .. فكما أنك ستقرأ شعر رعد عبدالقادر وطالب عبدالعزيز مثلاً رغم أنه مكتوب في بغداد وأبو الخصيب دائماً ? فأنت تقرأ شعر العقابي وفرات وغيلان وسبتي وشاوي ومظلوم والربيعي وحربي والمرعبي والصائغ وغيرهم مؤطراً بسياق منافيهم محتكماً إلى شعريته أولاً وقبل كل اعتبار ..
أكثر من مرة وفي مناقشات مع عبدالقادر الجنابي وفوزي كريم ومناسبات نقدية أخرى أكدت أن المنفى ليس امتيازاً وليس تزكية .. كما أن الوجود في الداخل ليس امتيازاً أو ميزة .. ورفضت النظرتين لتطرفهما وشموليتهما .. ولكن من المؤكد أن كم الشعر العراقي المكتوب في المنافي والمهاجر ونوعه وأسلوبيته يستلزم دراسته الآن تواصلاً مع نسغ الشعرية العراقية وليس خارجها أو بعيداً عنها .. امتداداً لها وليس مروقاً أو ابتعاداً .
  – كيف ستقرأ الأجيال القادمة الأدب البعثي في العراق ? هل هو نتاج فترة مظلمة ? وهل سيلاقي نفس مصير الأدب النازي ? أم أن بعض نماذجه سيبقى لما فيه من قيمة فنية صرفه ? كبعض شعر سامي مهدي مثلاً ?
·      التاريخ الشعري كالتاريخ الرسمي يقصي من الذاكرة أطنان المدائح والسخريات .. وهذا ما حصل ولآلاف الأسماء الشعرية في عصور سابقة .. وهذا العراق الشعري ليس استثناءً : رغم كميته الهائلة وسخف وإسراف لدوافع معروفه عراقياً .. سيكنس التاريخ الكثير مما كتب في عراق الماضي القريب ويسفه تراجعاته الأسلوبية ( العودة للمديح وللصيغ المبتذلة والأشكال التافهة والمباشرة الخ… )
لكن الشعر سيظل يحتفظ بما كتب لإغناء القصيدة ذاتها وخطها التحديثي ? لاسيما حين يكتبه شعراء منشطرون على أنفسهم .. يواصلون مشروعهم في جانب ? ويدخلون في متاهة العراق من جانب آخر وهم بالمناسبة يعيشون لحظة كتابة فريدة بسبب هذا الفصام ولا يخلو .. الأمر من إنجاز كمثالك في السؤال مثلاً .. لكنه نادر قطعاً ..
– أربعة عقود مرت على موت السياب لكن شعره لا يزال متوهجاً ? أين يكمن في رأيك إبداع السياب ( الأمر لا يكمن بالريادة فقط بالتأكيد ) ?
·      بعد 25 عاماً من موت السياب أذكر أنني فتحت ملفاً في ( الأقلام ) بادئاً من سؤال وجهته لعدد كبير من الشعراء ونقاد الشعر .. وآستوقفتني في حينها إجابة زاهر الجيزاني وسامي مهدي .. وهذا ما ذكرته في مقدمتي للملف بعنوان ( المقعد الشاغر ) فالجيزاني قال إنه لم يقرأ السياب ?·        وسامي صرح بأن السياب مجرد كتاب في مكتبته .. هذا النظر إلى شعرية السياب يمثل مأزقاً حقيقياً .. فالسياب كالمتنبي ذو حضور ?·      وكما حصل لشعره نفسه من تدرج في مراقي الحداثة والنزعة الرمزية واللغة الحية ?·     فإن قراءته اليوم كقراءة المتنبي تتيح العثور على كيفيات شعرية متقدمة : مخيلة تصويرية هائلة?·         وتدفق وهيجان لغوي وصوري ?·  وابتكار في زوايا الاحتكاك بالموضوع الشعري ?·         وإغناء النص برؤى سردية ?·       وبتقنيات كتابية مبتكرة .. وذلك ما لا تراه القراءة الخاطئة أو الناقصة المنطلقة من عقدة الأجيال أو توهم الحداثة في زمن دون سواه ..
فالسياب ? لا في ريادته ? بل في تطويره لأنساق القصيدة الحديثة سيظل مرجعية قرائية ذات غنى وتأثير .. والقراءة المعمقة ستكشف بنى وأنساقاً فريدة في شعره المترامي الأطراف .. وهذا سر التقاء الأجيال الشعرية حوله مع اختلاف أسلوبيتها معه ومع بعضها البعض ..
  – هل البريكان كقامة شعرية كما وصلنا حتى الآن زائداً هالة الغموض والإشاعات بأعمال ستظهر له لاحقاً ? أم أنه كبير بالإنجاز الذي وصلنا فقط ?
·      صورة ( حارس الفنار ) التي أحبها البريكان هي صورة مصغرة ودالة على حالته في الشعر .. إنه يقود حركة السفن في معزله غير المرئي .. لكنه متفاعل مع كل ما يجري تحت ناظرية .. وهذا ما رأيته شخصياً في زيارتين للبريكان في معتزله البصري صحبة شعراء أذكر منهم حسين عبد اللطيف والراحل العزيز رياض إبراهيم . لقد تكشف لي ? وأنا أقنعه بالعودة للنشر مطلع التسعينيـات ? أنه مهتم بكل ما يجري في الحياة الثقافيـة العراقية رغم ابتعاده الاختياري .. مـن هـنا كان لصمته الشعري فضيلة أسميتها في دراستي لقصائده التي أخلت في نشرها فـي ( الأقـلام ) ( فضيلة ذهبية ) لصمت المتأمل لا الأخرس .. شاعر يواكب الحداثة ويضع نفسه في قلبها .. في جملة شعرية تخترق نسق الجملة النحوية وفي وزنية خفّية لا تشعر معها بإيقاع صاخب أو وزن أو تقفية .. في تأمل مسترسل يعالج مشكلات ميتافيزيقية عن الحضور في الغياب،·        والحياة في الموت والوجود في اللا وجود .. وأسئلة تستلهم جلجامش والأسلاف الشعريين والفكر الوجودي والذات أولاً ..
البريكان يكتب ذات مرة ? مثلاً ? قصيدة تنشق أو تتقشر عن قصيدتين يفصل بينهما خط .. يبدأن بداية واحدة وينتهيان بجملة واحدة أيضاً ( قصيدتان متوازيتان ) . والبريكان يستخدم الجملة الشعرية بامتياز في ضدية مع عامل البيت الشعري أو وزنه أو جملته النحوية . من هنا وسوسته وخوفه من الأخطاء الطباعية وإصراره على مراجعة الطباعة قبل النشر فثمة استخدام شخصي عنده للوقف وعلامات الترقيم خاصة …
كان غموض البريكان يذكرني بغموض شخصيات روائية مثل جاتسبي العظيم في رواية فيتزجرالد أو الجبلاوي في أولاد حارتنا لنجيب محفوظ : إنهما موجودان وفاعلان ومؤثران في خط السرد وأحداثه ونهاياته لكنهما غير مرئيين .. وربما كان هذا الغموض إطار قراءة مضاعف يؤطر معاينة شعره ويحف به .. لكنه سينتهي حال معاينة البريكان نصياً .. بما أنجز وكتب .. وحسب .
ولا أحسب أن ما ينشر له سيضيف أو يعدل كثيراً من مكانته في الشعرية العراقية …
-هل لعب النقد دوراً رئيسياً في مسيرة الأدب العراقي الحديث ? أم بقي تابعاً للإبـداع الأدبي ( شعر ? قصة ? رواية ) ?
·      يقدم النقد إنجازاته بأشكال وكيفيات عديدة ليس خدمة النصوص وتقديمها وقراءتها إلا إحداها .. فالنقد يمهد الأرض ويهيئ التقبل لدى القراء .. وحركته أحياناً كحركة الأرض ودورانها غير مرئية بحاسة ما?·           لكنها حاصلة . وتوازن الكون وخلق الأوقات والفصول منبثق عنها .. لقد أفلح النقد العراقي في جعل الأشكال الجديدة ممكنة ومقبولة ومقروءة ..
لقد مهّد وحرث الأرض الشعرية ليبذر الشعراء أشجارهم النصية القادمة ..
وهو في دور آخر رسّخ ظواهر وأسماءً وكشف عنها .. كما رتّب الشعرية العراقية ضمن أجيال ومدارس وإتجاهات .. وأشاع مفاهيم وأحكاماً ورؤى .. وفي النقد السردي الأقل أثراً منه حصل شيء مشابه .. لكن هذا الدور لا يمكن وصفه بأنه ( رئيسي ) فماذا يعني ذلك ? لا أدري . لكن النقد يعمل في مجال التجنس ونظرية الأدب والأساليب وتاريخ الأدب . كما يعمل في حقل النصوص ويقترب منها بدرجة وأخرى ..
  – أين هو الشاعر حاتم الصكر ?
·      الشخصية الروائية في ( الخلود ) لكونديرا تقول لمحاورها : ( الشيء الجوهري في الرواية هو الشيء الذي لا يمكن التعبير عنه إلا في الرواية .. إن الرواية لا ينبغي أن تكون مثل سباق دراجات هوائية بل وليمة في عدة وجبات ) ..
وأنا أستعير كلام بطل كونديرا لعلاقتي بالشعر .. لقد كان لدي إحساس مشابه .. فحين وجدت أن علاقتي بالشعر داخل القصيدة لا تكفي لخلق ما أود خلقه ? وصار لوعيي بالشعر شكل آخر أكثر حدة من كتابته ? ارتضيت بعلاقة عشقية ? لا زوجية رسمية ? بالشعر … أدور حولـه .. أكتب عنه وأقرأ نصوصه وأجد نفسي في كثير منها .. لقد توقفت وأبتعدت دون قطيعة بل بأقتراح صيغ أخرى للعلاقة بالشعر .. أنا راضٍ عنها ومشبع بها ككتابة القصيدة تماماً .. تلك الكتابة التي أمارسها في الحلم أحياناً وأنتهي منها دون تدوين أو أكتبها موسمياً ? وبشكل لقاء مع امرأة مشتهاة ? لكنها غير مطلوبة كظل لك ? وحدها دون سواها ..
  – الشعراء العراقيون فاضوا على أربعة أركان المعمورة ? أثّروا وتأثروا وربما لم يعد هناك مـن قاسـم مشترك بين هذه القبائل الشعرية سوى كونهم عراقيين فـي الأصـل فهل ترى أن هنـاك ( شعراً عراقياً ) له سماته وخصائصه ? وأخيراً كيف ترى إلى مستقبل الشعر العراقي ?
·      لن أجيبك عن فقرة السؤال الأخيرة ( مستقبل الشعر ) فحتى العراف الأسطوري لا يستطيع التنبؤ بزلزال الشعر متى ينطلق وأين حدوده متى يتوقف ..
لكنني أجزم أن طاقة الشعرية العراقية وحيويتها تعد بالكثير وفي شتى الظروف .. وهذا يرتب آلياً إقراري بسمات خاصة للشعر العراقي المجسد لحيوية الحداثة ورؤاها ولغتها وأشكالها هذا المناخ العراقي الخاص يدرسه القارئ والكاتب ولا تخطئه العين .. وشيء صحي وجيد أن تكون ( قبائل الشعر ) متعددة الأعراق والأنساب .. لكن قاسمها المشترك هو الشعر قبل كل شيء وبعده … .
 نقلا عن مجلة نصوص التي يصدرها الشاعر حميد العقابي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*