رمزية القلم

 

 

رمزية القلم: مناجزة افتراضية

مجلة الأديب المعاصر-اتحاد الأدباء والكتاب في العراق-  الصفحة الأخيرة -أما بعد

قد تكون صورة ‏‏شخص واحد‏ و‏منظر داخلي‏‏

 

 

لاحظ أحد أصدقائي صورة قديمة  لي وأنا ممسك بالقلم فسألني مازحاً: أما زلت تكتب بالقلم  في طوفان الرقميات والحواسيب وطغيانها؟

لقد كنت في  أواخر التسعينيات قد انتقلت للكتابة على الحاسوب. ولكني أبقيت مجموعة من أقلام الحبر التي كنت أقوم بتبييض كتاباتي بواسطتها.أقلام بعلامات تجارية معروفة كنت أحب جمعها ، وقوارير المداد الأسود الذي اعتدتُ الكتابة به. لكن صلتي بالقلم الرصاص كانت أكثر دلالة على الماضي القريب.فقد واصلت لسنوات منذ مطلع الثمانينيات حتى العامين الأولين من تسعينيات القرن الماضي على كتابة زاويتي الأسبوعية في ثقافة جريدة الجمهورية بعنوان( تخطيطات بقلم الرصاص)، مستوحياً ذلك من هوامش القدامى وحواشيهم وشروحهم على المتون التي يطالعونها.

لم أستخدم الآلة الكاتبة قبل ذلك الإنتقال الحاسوبي. ما كان لأحد من  جيلي الحق في امتلاك آلة  كاتبة.والحصول عليها يتطلب إذناً من الجهات الأمنية التي يتجنب العراقيون التعامل معها. لذا كان انتقالي للحاسوب تغيّراً نوعياً في تعاملي مع أفكاري وتدوينها.وكان هذا الإنتقال تاماً، أي أنني لم أمرَّ بفترة كتابة موضوعاتي على الورق ، ثم نسْخها على شاشة الحاسوب.بل اقتديت بالمثل القائل: لكي تسبح ،عليك أن تقفز!. ولا يعني ذلك أن غرامي بالقلم قد انتهى عقده .ولا إيماني بالكتاب الورقي أيضاً قد ناله النفاد.

ظلت رمزية القلم مهيمنة عليّ.رغم أنني لا أحب عبارة ( بقلم) التقليدية  التي تتصدر أسماء الكتّاب في بعض المطبوعات.فكرتُ كثيراً بمصير الإشارات المتصلة بالقلم ومتعلقاته من ورق وأحبار  في النصوص الشعرية خاصة.كنت أرى الكتابة القلمية شأناً يتجاوز وجود الخط بهيئته الفنية والجمالية المعروفة، فهي حميمية الصلة باليد الكاتبة، وبنبض القلب الذي يرافق تنقلات القلم على البياض الذي يستفز الرغبة في الكتابة.. الخط ملكة وتعلّم. والكتابة بالقلم أكثر حرية من القواعد والأشكال.وكم آلمني تحول المطابع عن الخط إلى الحروف الكومبيوترية .لقد غابت  بذلك وشيجة رحِمية وآصرةٌ مُثلى بين الخط والقلم في جبهة المناجزة .

كنت أفكر بمصير الإشارات في النصوص المتصلة بالقلم.خطر لي ذلك وأنا أشرح لطلبتي في العقد الأول من الألفية الثالثة  أبيات السياب:

لِم َ تبخلين عليَّ بالورقات، بالحبر القليل ، وسحبة القلم الصَّموت؟

إني أذوب هوىً ،أموت

وأحنّ منك إلى رسالة

كيف سيفهم الطلبة المهووسون بحواسيبهم ورسائل هواتفهم النصيَّة حرقةَ السياب تلك، وتلهفه لرسالة وقلم ينسحب فوق بياضها بصمت؟

وكيف يستوعبون مناجزات القلم والسيف في التراث النثري العربي؟

سيسعفنا السيميائي الأشهر أمبرتو إيكو في هذا السياق، حيث أصرّ على تفاؤله بأن الكتاب الرقمي و الصوتي المسموع، لن يلغيا وجود الكتاب الورقي في الحياة. فلهذا ملمسه المرتبط بمتعة القراءة ، ويضرب إيكو مثالاً يعزي عشاق الكتاب الورقي ، فيذكر أن اختراع السيارة كان صدمة لمستخدمي الدراجة،.لكنها ظلت تُستعمل حتى الآن ،وتعددت وظائفها عما كانت عليه حين استخدمها الإنسان للتنقل فحسب.

أذكر أنني قرأت لأحد المدافعين عن القلم مقترحاً طريفاً:  ، أن يُسمّى لوح الحاسوب (الكيبورد) قلماً! ويبرّر ذلك بأنه توسيع للإسم ،ووصف لعمله، وارتباط عاطفي بالقلم.ويحتج لإثبات صواب مقترحه بأن الحاسوب نفسه تم توسيع اسمه عن الآلة التي تحسب الأرقام ، فانتقل إليه الإسم، رغم أنه يُستخدم للكتابة ، لا للعدّ والحساب فحسب!  ومهما يكن فإن فأرة الحاسوب  قرضت الخطوط وجماليتها وفنها .لكنها لم تهدمها.هي عصية أكثرمن من السد الذي قرضته جدّات مفترضات  لهذه الفأرة الإلكترونية.

تلك محاولة لتعويض غياب القلم واستقدامه بهيئات أخرى.لا تعيد مجده الغابر حتماً!

ولعل ّ صنّاع  التقنيات الرقمية تنبهوا لذلك، فأوجدوا  كتعلَّةٍ وتعويض عاطفي أيضاً القلم  الصغير الذي يمكن لمستخدم الهاتف النقال، أو بعض أنواع الحواسيب الصغيرة المحمولة أن يضغط بنهايته على حروف لوح الكتابة،بدل الأصابع.

مجد القلم  الباقي  أنه يتصدر  فعل الكتابة وذاكرتها ، وذاكرة قرائها بالضرورة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*