صورة قديمة للمبنى

بيت رامبو : ثرثرة الأمواج وصمت المبنى

 
 
 
 
 
 
بيت رامبو في عدن:
صمتَ المبنى وزادت ثرثرة الأمواج ودوي المدافع
 
 
 
تخسر الارض و يفقدالإنسان في الحروب ما لا يدع لهما إحصاء تلك الخسائر التي تتراكم فوق أديمها وفي ذاكرتها كالبثور على وجه جميل تغطيه وترسله إلى النسيان والقبح والموت…عدن ومدن اليمن كلها استعرت فيها نيران الحرب.فكرنا كثيرا بمن بقي من الأصدقاء وما ظل شاخصا من الامكنة..لكن بيت رامبو الهارب من حياته الباريسية صوب أمان المجهول ودعة النسيان لن ينعم بذلك في أتون تلك الحرب..ولئن هرب بساقه معتلا ليموت هناك في أرضه بعيدا فإن آثاره هنا مدعاة للتأمل والمعاينة….
 
مناسبتان تستدعيان استذكار الشاعر الفرنسي الشهيرآرثر رامبو(1854-1891) فقد ولد في 20 أكتوبر وتوفي في العاشر من نوفمبر..وله على الأرض العربية فصول من حياة تستحق الاستعادة والاستذكار في هذه المناسبة..لقد أحب رامبو عدن التي عاش فيها  لفترات متقطعة بين أعوام1880 و1891حيث عاد مريضا لبلده ليتوفى هناك..
لكن ما ظل من تذكارات رامبو في عدن ستهز سلام روحه المعذبة  حين تتطاير مع  شيخوخة الذاكرات التي تهرم قبل أوانها  ..وحيث الدمار الذي لحق بالمدينة التي عاش فيها وشهدت خطواته المتعثرات وخططه التي نسف بها حياته مستسلما لصمت غريب ….
كانت الصدمة الاولى  التي قابلته هي جو عدن   التي يصورها رامبو في  في رسالة كتبها من عدن لأخته إيزابيلا :إنه الان قريب من الجحيم  ومقيم فيه حيث (صخرة عدن المحماة ) و(فوهة البركان )  التي نزل فيها . من بعد أحب رامبو المدينة واعتاد حرّها وبحرها وجبالها. اتخذ الشاعر الجوال بنعال الريح- كما يوصف لكثرة تنقله، سكنا في حي كريتر في مديرية صيره.المبنى في الحقيقة نُزل عام أو (خان ) مسافرين كان لرامبو ركن فيه .زيارتنا للمبنى أرتنا أنه مأوى جماعي  بطابقين ونوافذ تقليدية وممرات ضيقة تناسب طراز  النصف الثاني من القرن التاسع عشر..
يقع المبنى إداريا ضمن مديرية صيرة في كريتر قلب المدينة البحرية والتي يصر اليمنيون أن يطلقوا اسم عدن عليها ، لكن الطريق الوحيد للوصول إليه من الخلف حيث حدود حي كريتر البحرية .كأنه بذلك يحقق رغبة رامبو القائل:
سوف أهيم  بعيداً،متشرداً
في الطبيعة سعيدا سعادتي مع امرأة
يواجه  ساكنُ المبنى البحر، ويستمع لهوس أمواجه تتلاطم غروبا ،وينهكها الصباح فتستسلم للجَزْر الذي يغدو ملاعبَ ومماشي  ومسارَ عربات ،ومكبًّا لنفايات البحر
وما يظل من قواقع وأصداف وحيوانات بحرية وصغار سمك تحمله الموجة وزَبَدها؛
فلما تنسحب يتبقى لتتقاذفه الأقدام أو ينتظر مدّاً جديدا بعد حين من  اليوم.. وجه المبنى  القريب من قلعة صيرة التي بناها الأتراك إبان احتلالهم لليمن. يتطلع في البحر ويسمع الموج المضطرب المتضارب المنسحب  لبحره بعد كل فورة، كمزاج رامبو نفسه ، كطفل يمسك جدارا ويعود راكضا ليستأنف لعبته ويمسكه من جديد.يعطي المبنى  ظهره لحي كريتر مركز مدينة عدن وقلبها السكاني والتجاري ، المسوّر بالجبال البركانية الجرداء من ثلاث جهات  ،والمفتوح بطريق أفعوية ضيقة من جهة الخارج عند الساحل ، حيث خليج عدن يلامس البيوت.لو تهيات لك السكنى حتى في خورمكسر وهو أهم مداخل عدن والملاصق للساحل لظللت تشم الروائح طويلا حتى تعتاد عليها في غرف بيتك كله. ينث البحر رطوبته الهائلة  ترافقه لوازم سنعتاد عليها أيضا، ولا نتخيل عدن رامبو بدونها: رائحة البحر المضمخة بالأسماك والمكتظة بقوارب الصيادين وسكَنهم الصيفي المؤقت على الساحل وعند حواف جبل صيرة الممتد كلسان ناري منتفخ في خليج عدن.
الزوال الرمزي للبيت
المبنى كان قد  انقض رمزيا  بتحوله فندقا باسم ( فندق رامبو السياحي) .  وهو مقارب لفظيا ومفارق دلاليا: إنه رامبو بطل المغامرات الشهير الذي يؤدي دوره الممثّل الأميركي (سيلفيستر ستالون)!  لم تكن المفارقة فقط بصورة المغامر مفتول العضلات ، بديلا لسكون رامبو وهربه بحثا عن الوحدة ، بل في إلغاء ميراث الشاعر وتحوير المبنى وجعله عصريا .والحقيقة أن مستثمراً اشترى المنزل (وحوّله إلى فندق) ظنّاً منه  او إيحاء للإغراء أن المقصود هو رمبو بطل المغامرات .
 
ها قد زالت وظيفة البيت كمتحف. هنا ينتصر رامبو أيضا ؛ ففي كثير من مذكراته يعترف بأنه يكره المتاحف، وفي زيارة مع صديق رسام  لمتحف اللوفر شعر بالضجر وانزوى يحدق للخارج عبر النوافذ .المتحف الرامبوي في عدن أخذ وظيفته الثقافية والسياحية بعد رحلة الفرنسيين  وأصدقائهم  العرب العجيبة تعقبا لخطى
رامبو الشاب الهارب عدة مرات  من بيته في شارلفيل . كانت تلك آخرها ، يتيه رامبو متنقلا بين موانئ عدة : قبرص والاسكندرية وجدّة والحُدَيدة حتى يصل إلى عدن .لعله وجد هنا المطلق الذي قال مرة إن العقل يحجبه عنا..
الشاعر بلا قصائده
هو ذا  المكتب الذي سيعمل فيه .كان قريبا للبحر قبل أن تسلب المباني كثيرا من مساحته.هنا يلتقي النازلون من البحر، فتستقبلهم عدن برطوبتها وحرارتها ، ،لكن رامبو  سرعان ما يألف الجو الإستوائي ويستمتع بليالي الصيف ،ويألف الشمس التي تطلع باكرا .إيزابيل أخت الشاعر ستقول إن لرامبو رغبة في أن  يدفن في مقبرة عدنية قرب البحر لم يعد لها الان وجود ، وكان يراها مطلا من نوافذ المكتب الذي عمل فيه. كل ساكن سواء أكان   مقيما او زائرا لعدن لفترة  يمكنه بعد حين أن يعتاد جو عدن هائل الرطوبة وفصلها الصيفي الوحيد طوال السنة ،ورؤية غربانها تلهو بين الناس،أو تختطف الأطعمة من الموائد، سيألف عناق جبالها وشواطئها الرملية ، وأغنيات بحّارتها وصياديها ،والروائح المختلطة  : سمك طازج ومجفف ، وعطر  بلدي نفّاذ يخفف عرق الأبدان ،وتوابل متنوعة  الأشكال لاذعة الحرارة ،وفي الوجبات المتنوعة حتى الصباحية التي يدخل السمك فيها. ثقافات متنوعة تتآزر لتصنع نكهته: بريطانيا بأكلتها الشعبية السمك والشبس مع الملح والفلفل على الشواطئ في ظلمة بحر عدن، وبخورعدني يتخصص كل صنف  منه بمناسبة ليس غريبا أن يكون بينها بخور مؤثر لليالي الخميس والأعراس، وورد الفل عذب الرائحة يفوح من سلال منقعة بالماء أو منخرطا في باقات و منتظما في عقود تلبسها الفتيات ويتزين بها الرجال الذين يفضلون رائحة نبات (الشقر ) الأقرب للريحان يضعونه وراء آذانهم خارجين من صلاة الجمعة أو متبخترين في النزهات الطويلة. تؤطر ذلك رطوبة لزجة تعبق رائحتها في الظهيرة ، و روائح فواكه استوائية  كالباباي(العمْب كما يسميه العدنيون ) والمانجو  والليمون(الليم) والجوّافة  التي يسمونها الزيتون لسبب لا يمكن إدراكه!
يتحدث  كاتبو سيرة رامبو عن تأثره بالثقافة الإسلامية لاختلاطه باليمنيين وبعض مسلمي شرق أفريقيا التي تنقل بين بلدانها وعاش في موانئها ، مستندين إلى عبارات ختم بها رسائله لأهله مثل (الله كريم) فاستنتجوا أنه  يؤمن بالقدر لقوله إن ما يراه في حياته( شئ مكتوب كما يرى المسلمون).
لقد نابت حياة رامبو في عدن عن شعره ،كأنما هي تسدد دينا أخذته منه .. لابد أنه قد وجد في القات بعض دواء لاسيما وأنه كان معروفا في اليمن كما كتب نيبور في رحلته عام 1762حيث قدموا له النرجيلة والقات في ميناء المخا في الشمال اليمني.
 الانتحار المؤجل
كان  رامبو بانقطاعه عن الشعر وعمله بمهن غريبة ومريبة بين ميناء عدن وموانئ أفريقيا الشرقية ينفذ انتحارا مؤجلا يظل فيه جسده حيا ولكن تحت طبقات من الصمت المميت، بعيدا عن وطنه وأصدقائه وشعره ، ويركن إلى عزلة لم تخرجه منها حتى  مغامراته العاطفية القليلة ،حيث شوهد أحيانا مع فتاة خلاسية على الشاطئ!
لا تقدم  أية سيرة إذن أجوبة لألغاز حياة هذا الشاعر الذي تنبأ أنه لن يعيش كابوسا أشقى من  حياته التي عاشها ، والتي يردد صدى بعضها في رسائله كما في أشعاره .
لقد غادر عدن نهائياً  يوم 9/5/1891محمولا بمحفة طبية لسفينة ستنقله لمرسيسليا بفرنسا: مستشفى للولادة ترعاه جمعية دينية -تلك مفارقة كبرى  أيضاً ان يكون اسم المستشفى( الحبْل بلا دنس) إشارة لولادة المسيح. وهنا بدأت حياته ..في تلك اللحظة الأخيرة التي مات فيها  وبساق مبتورة كما يقول  يقول بيير بتفيزٍأحد مؤلفي واحدة من سير رامبو التي تعدت الثلاثمائة بعنوان(رامبو الشاعر والإنسان) التي ترجمها  الأكاديمي العراقي حسين عبدالزهرة مجيد بعربية ناصعة ونشرها المركز الثقافي الفرنسي في عدن عام 1995واختير لغلافه ذلك البورتريت الذي صنعه بيكاسو لرامبو : يظهر فيه فتى وسيما نحيلا بملامح غامضة وشعر فوضوي داخل دائرة من خطوط خارجية نحيفة ، بينما تحف به من اليمين خطوط داكنة متداخلة ،ٍ ربماهي إحالة لفوضى حياته وارتباكاتها.
لقد صمتَ المبنى الذي ليس بعيدا من بوابته  ما تزال الأمواج تثرثرو تحكي هذه المرة بلسان الحرب المدمرة  كيف  تذوي حيوات كثيرة بفعل الموت المبرمج للحرب الوحشية التي أتت على كل شيء…. ولا تزال المياه في خليج عدن وساحل أبين والتواهي وفقم والبريقة تقذف ركابا وغرقى وصيادين وصيدا كل صباح..
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*