جماليات النحت الشعبي وأبعاده الثقافية-من الحرفة إلى الإبداع الفنان الفطري منعم فرات نموذجاً

 
مساهمة في كتاب الحرف الشعبية- فنون الناس-ملتقى كتارا للفنون (3)- إدارة البحوث والدراسات-الدوحة -2016
يمكن أن نعد النحت الشعبي على مختلف المواد: حجر -صخر -مرمر-خشب من أكثر الحِرف الشعبية ذات الطابع الفني والثقافي الرابط بين الحرف التقليدية وجمالياتها الذاتية المكتسبة من التقاليد والمحيط والمنفعة أحيانا، وبين الفن بمعناه النوعي كمهارة تعبيرية تنظّم الصلة بن الذات والعالم .وإذا كانت الحرف والفنون تتشارك في الموهبة كشرط للمزاولة والعمل فإن النحت الفطري هو المجسّد لثنائية الموهبة والحرفة ، والثقافة والفطرة .ولابد من معاينة المنجز الفطري لنقترح من بعد سبلا للحفاظ عليه وديمومته وسط حالات الإهمال والتجاهل التي يواجهها، والصعوبات التي تعيق تطوره وحضوره والتي سنأتي على بعضها لاحقا.
 في المصطلح والمفهوم: البدائي والشعبي والفطري
تختلط في المقاربات النقدية  المعاصرة والقراءات المدرسية تسميات ومصطلحات كثيرة متداخلة بصدد الحِرف و المأثور الشعبي وتنويعاته ، وما يتصل بجذوره ومراجعه وتداوليته وشروطه، ومزاياه الفنية بالضرورة، وهي تخلق بلبلة اصطلاحية تشتبك فيها الدلالات والمعايير والأحكام الجمالية ،لكننا  سنحاول  عبر الإجراء النقدي جلاء مفاهيمها  كما نتصورها ،ونستخدمها في التطبيق ونحن نتقرى الإضافة الحِرفية المتوارثة والشعبية لاستخدام مواد البيئة في الإنتاج الفني ممثلة بالنحت الفطري، وضمان تداوليته الجماهيرية وتعاقب الأجيال على صيانتها وديمومتها وتطويرها.
تتشارك البدائية  والشعبية والفطرية في قواسم ومزايا تتلخص في:
1- العفوية والبراءة والرؤى الطفولية بسبب التخلص من التعلم الأكاديمي والامتثال لشروطه.
2 -اكتساب التقنية الحرفية من المحيط أو البيئة بالمعنى الأوسع ، وتعتمد بذلك على المتاح من التقنيات المناسبة لمواد البيئة ، وكذلك في بساطة الأسلوب والتعبير الفني استنادا إلى الموهبة التي تصقلها تدريبات الحرفة وممارستها .
3- استلهام موضوعاتها مما يتيحه الأثر الإجتماعي والثقافي وعوامل أخرى منها؛ التلقي الجمعي لهذه المنتجات الفنية، وما يرغب باقتنائه المهتمون بجماليات هذه الأعمال، ومقدار مطابقتها لأفق وعيهم ومتطلباتهم الذوقية .وهذا يفسر انتشار المنحوتات الفخارية والطينية والحجرية بشكل أوانٍ أو طيور وحيوانات، وكذلك الرسوم التزيينية لشبيهاتها على الزجاج أو المواد التزيينية الأخرى.
4- الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة لمفردات التصوير والنحت تعويضا عن غياب العناصر الفنية المطلوبة في الاعمال المدرسية الرسمية ، كالأبعاد والمنظور والتناسب الإيقاعي لونيا وكتلويا، وغير ذلك مما يبرز على السطح التصويري أو الكتلة النحتية.
5- لا تمنع عفوية الفن الشعبي والفطري من تعليمه كحرفة لها لوازمها الخاصة وترسيخ تقاليد معينة يتبعها المتعلمون الجدد، وتتكرس في وعي متلقي هذا الفن ومستهلكيه بالمواد والتقنيات والأساليب والموضوعات المترسخة في أنواع هذا الفن.مع مراعاة بعض الإضافات والتعديلات التي تحتمها سياقات إنتاج تلك
المفردات الفنية بفعل عوامل الزمن والمواد المتجددة.
6-  يميل الفن الفطري للتشخيص عامة وتجسيد الأشياء المنظورة والمتعينة في وجود محسوس ومتداول ،هي أقرب إلى وعيه ، وتمثيله لها أيسر عليه من التجريد أو التكوين المدرسي بأنواعه..كما يضيف إلى ذلك المشخّص ما تقترحه المخيلة، أو
 
المعتقدات الشعبية والطقوس ،أو ما يصل عبر  المنجز الفني الحضاري القديم ، والذاكرة التراثية للحِرف والموروثات الفنية .
7- المقترح التعديلي للتشخيص الواقعي يدفع الفنان الشعبي لنوع من الغرائبية التي تختلط فيها الشخوص وأشكالهم وأحجامهم، وتفاصيل الوجوه والأجساد والمساحات  والإنشاء على السطح التصويري .وغالبا يجلب الفنان الرؤى الطفولية للأشياء لتعميق تلك الغرائبية الخيالية.ٍ
8- ارتباطه بالريف والمناطق المحافظة على تقاليد الحرف والفنون الموروثة رغم أن الفنانين يتخذون من الحواضر والمدن سوقا لترويج منتجاتهم وعرضها للبيع.
وأغلب الفنانين الفطريين منحدرون من حواضن ريفية، أو يعيشون في التجمعات  السكانية الصغيرة حيث للتقاليد والموروثات سطوتها ومكانتها.
لكن ذلك لا يعني عزلة الفن الفطري عن البدائية أو الفن الساذج كما في المصطلح المعتمد في تاريخ الفن ولا عن الفن الشعبي المنتج بشكل جمعي متوارث.فالفن الفطري الذي يستخدم مواد بيئية ويطور منها أشكالا فنية متسامية تعبر عن معاناة الجماعة والذات معا ، له دور كبير في تسجيل نسبة الوعي لدى الشعوب وما تفكر به بعيدا عن المدارس الفنية والتقاليد الأسلوبية.(1).
من ناحية أخرى فالكائن الفطري الفرد كما يلاحظ هربرت ريد(2)  يكرر تطور النوع بأكمله، ويهبنا فرصة التعرف على المزيد من طبيعة الفن لدى الإنسان البدائي والطفل.وبذا أصبحت ممارسة الفن الفطري اجتماعية في تداوليتها وتقبلها.لكن هربرت ريد كمؤرخ للفنون وتنويعاتها وجمالياتها يرى الوشيجة الكبرى بين الفن الفطري وفنون الأطفال ، ليس كما يحصل في النقد الفني لأعمال فنانين متأثرين برسوم الأطفال كإضافة أسلوبية مثل شاغال وميرو ، بل يعمد هربرت ريد إلى تقصي الخصائص الإيجابية لفن الأطفال ويرى أن هناك محاولة مقصودة للعودة للطفولة ولكن لا على المستوى الأسلوبي فحسب ، بل في الوعي بالأشياء وإدراكها ثم التعبير عنها.ويظل الرابط الأساس كما يرى النقاد بين الفن الفطري وفنون الأطفال هو تلك البراءة والعفوية في تمثل الأشياء والعالم ،ثم إعادة تمثيلها في الدمى والرسوم والأشكال البسيطة التي يخترعها الأطفال من الطين والورق والخشب وسواها..
إن الموهبة تمنح الفطري والطفل إمكانية التعبير فلا يتم التمييز في هذه الحالة بين ماهو واقع وماهو مثال(3)وبهذا يحوز الفنان الفطري إعجاب متلقي أعماله واهتمامهم؛لأن قوة الفن الفطري تكمن في تأليف فني مبرأ من عقد العالم،يصفها الفنان نوري الراوي بأنها (القوة الرحمية) ( 4)أي التي تربطه بالسلالة من جهة والواقع والمحيط من جهة أخرى.
 
بين الحرفة الشعبية والبدائية
موضوعة الفن البدائي والتلقائي تُنسى وينالها التهميش في النقد الفني كما نال التهميش الفنانين الفطريين انفسهم، وكأن تاريخ الفن يعيدهم إلى الهامش الذي جاءوا منه، في حلم الالتحاق بمتن الحركة الفنية.
ينسى متلقو الفنون البصرية  عادة ما للفن الفطري من مزايا ..يكفي أن  تكون ملامسة الموضوع وتنفيذ العمل تتم استجابة للتكون الإنساني الأول وانعكاس الوعي عليه  لتمثيله في رؤى وأخيلة حرة، وبمواد لا تلزمها فهرسة أو تصنيف ،ما جعل بعض النقاد يعدّونه انطباعيا. ولكن غالبا  ما تم الاكتفاء  بتصنيفه ضمن الموروث الجمعي أو الشعبي أو البدائي.
ويأتي النقد التشكيلي وتاريخ الفن المعاصر ليزيدا الأمر بلبلة وتعقيدا بتكثير المصطلحات الدالة على توصيف هذا الفن؛ فهو فطري وبدائي وشعبي وساذج وتلقائي وعفوي وطفولي ،  كما أن مراجعه تتعدد ولا تبوب في مراتب واتجاهات ، ولكن أبرزها  البيئة والروح الشعبية والذاكرة الجمعية للبشر التي تعيد نفسها لتبقى،
والتعويض عن الحرمان من تعلم الفن و الاطلاع على مدارسه بالكد الشخصي والالتصاق بالجماعة وهويتها الثقافية وتاريخها  ، وإذا كانت تجربة فنان فطري عالمي كهنري روسو قد  استوقفت السورياليين والانطباعيين تجاوزا ورفضا  لتهكمات معاصريه وسخرياتهم، فإن  فناني الفطرة العرب لم يمنحوا ذلك الاعتراف، وظلت رؤاهم وتجاربهم تقدم بشكل أقرب إلى الحنو والتعاطف، والإشادة بما تتضمن  من غرابة وخيال، مع التذكير دوما بنقص الجانب الأكاديمي(المدرسي) في رسومهم ،رغم  اقتراب فنون ما بعد الحداثة من  جماليات المحيط الذي يعد الفطريون فنانيه والمعبرين عن حياته وحركتها وطبيعتها من أمكنة ووجوه وعلاقات وموضوعات، كما أن الحرية التي اتسمت بها التجارب التشكيلية الحديثة قد حولت السطوح التصويرية   والكتل إلى مناسبة لأنشطة الخيال ،والصدمات  الموجهة للمتلقي بتكسير مفاهيم اللوحة أو العمل التشكيلي، واستضافة المواد البيئية  وتلصيقها داخل العمل جزءاً من بنيته الأسلوبية..وذلك  بعض منهجيات الفنان الفطري أيضاً.
ويمكن القول بصدد التهميش الحاصل للفن الفطري إن رفضه والتعالي على منجزه متأتٍ من غياب الاشتراطات الأكاديمية التي لم يعد الفن الحديث ذاته يلتزم بها . وتلك مفارقة تتجسم في حال اسقاطها على المنتج الفني الفطري والشعبي عامة؛ لاننا بذلك  نطالب الفنان الفطري بما لا يلزم به الفن الحديث نفسه ، كما ترد هنا مسألة المرجع والمؤثر،فإذا كان الفطريون يقاربون ما يتصل بحياتهم تعويضا عن الوعي بالفن واساليبه وجمالياته ،فإن الفنان الحديث والمتعلم مدرسيا يعود إلى مراجع الفطريين ذاتها ،حتى لتأخذنا الحيرة في تصنيف عمل لهنري روسو وآخر لشاغال أو ميرو اللذين تعد الطفولة والأخيلة الحرة روافد مؤثرة في تجربتهما ،ولقد أدرك اندريه مالرو ذلك حين عدّ أعمال روسو ذات نزعة طفولية ،مع علمنا بأن توصيف المؤثر في تلك المقولة تشوبه غطرسة وتعالٍ قابل بهما نقاد الفن عموم التجربة الفطرية نحتا ورسما وعمارة وفنونا تقليدية. ..
وأحسب أن من إشكاليات الفن الفطري اختلاطه في وعي المتلقين بالفن الشعبي المنتج جمعيا والمتوارث كتقاليد شعبية ممثلة بالريازة والخط والتزويق والتطريز ، ولا تنتهي بالاشكال المدونة على السطوح الخشبية المنزلية أو الواجهات والسقوف والثياب.لكن الميزة الأساسية للفن الفطري تكمن في تميزه عن الفن الشعبي بوجود عنصر الابتكار لا الاجترار ، وبحضور ذات الفنان وشخصيته وثقافته والمؤثرات الخاصة التي ترافق تجربته.

الفنانون الفطريون أصدقاء الحجر والشجر والماء
منذ زمن لم نعرف ظهور فنانين فطريين ..ظل اسم منعم فرات صديق الحجر المدهش فريدا في الذاكرة الفنية العراقية والعربية ، محفوفا بذكرى إنغماسه في عالم النحت واستفادته من مشاهداته المتحفية والآثار القديمة ، ومن الموروث الشعبي والأساطير والحكايات، من مخيلة ثرية تنتج التهاويل والصور وربما الكوابيس التي نعاينها في منحوتاته التي تجمع المتناقضات وتحول الكتل إلى مجردات مخيفة لحيواناتو طيور وأشكال آدمية قادمة من عمق الكهف محورة الأعضاء تقترب من الخلق الحيواني الأسطوري، لقد تماهى مع الحجر حتى قال إنه قريب منه وأنه منذور له(5) ، و تلتقي أعماله في أفق التشكيل العربي مع لوحات الشعيبية وفاطمة المغربيتين وبشكل أكثرملموسية مع أعمال شعبية مجهولة تسكن في زوايا البيوت والجدران و على سطوح الأدوات والخزائن والأسرّة والواجهات، وعلى الثياب ،وفي وشم الجسد  والخطوط التلقائية ، والالوان التي تمنح العمارة المحلية شخصيتها  في بغداد والبصرة والقاهرة كما في المغرب العربي وفي اليمن  والجزيرة والخليج العربي والسودان وبلاد الشام.
ولكن عمل هؤلاءالمبدعين الفطريين ليس معبّدا أو يسيراً .إنهم يعانون من التهميش والإهمال، لكنهم يواصلون نتاجهم لما يجدون فيه من تلبية لتطلعاتهم الفنية وتعبيرعن معاناتهم الحياتية.وهم جميعا من الأرياف والأماكن البعيدة عن الحواضر.وقد تسببت هواياتهم تلك في مواقف سيئة لهم .كما حصل للفنان العراقي الفطري منعم فرات الذي حُكم بالسجن عاما كاملا بتهمة تزوير الآثار(6)، مع أنه كان في بداية حياته الفنية ييبع نماذج مقلدة  لا مزيفة أو مزورةعلنا وبأسعار رخيصة ويضع اسمه عليها.بدل تشجيعه وتعضيد تجربته النحتية المتأثرة بالموروث النحتي الرافديني القديم ويعمل على إحيائه معلنا تأثره به شأن ما عمل الفنانون المدرسيون.
وفي تحقيق صحفي نشر عام 2014 نقرأ عن معاناة عينة من نحاتي الطين والحجر المصريين ونقرأ شكواهم مما يلاقون على المستوى الرسمي(7)
 
يقول الفنان بدوي علي عثمان، من محافظة الإسماعيلية:( أمارس النحت باستمرار دون الالتفات لظروف المعيشة الصعبة أو الدولة التي تتعالى علينا، وترفض الفن خارج الأُطر العلمية. مُعاناة الوطن ومأساة الإنسان الفقير هي القضايا التي أُحاول تجسيدها بالجداريات الجرانيتية، والرخامية، وأقوم بترجمة مشاعري تجاه مشهد ما أثر في وجداني، إلى منحوته أعتز بها وأعتبرها أحد أبنائي..)
 
ويقول جلال حزين من المنوفية:( منحني الله موهبة وأسرة فقيرة، ولذلك لم أُكمل دراستي بعد الحصول على الشهادة الإبتدائية، وأعمل موظفًا بالطرق. تمثال “نهضة الفيوم” .كان أول منحوتاتي وله قصة لن أنساها، بسببه أُلقيت في السجن لمدة 21 يومًا، إذ اتهموني بأنني تاجر آثار، لتأثري بالنحت الفرعوني، فأنا شديد التأثر بهذا الفن لأنه يحكي الماضي والحاضر والمستقبل.)
 
ويقول النحات محروس محمد خالد(أتذكر جيدًا أول تمثال قمت بنحته، كان يُجسد أحد الطبالين، وأعترف أنني مولع بالفن الشعبي وهو محور أعمالي).
وعن معاناته يقول:( بالكاد حصلت على الشهادة الإبتدائية، ومنعني الفقر من إكمال تعليمي، لكني أحمد الله على موهبة الفن. ومنحة التفرغ كانت تساعدني كثيرًا على العمل لكنها الآن متوقفة).ٍ
ونزيد على ذلك  الإهمال الرسمي نظرة المجتمع أحيانا إلى تلك الحرف والمواهب على أنها مقصورة أو محصورة بالنساء والأطفال كما يرون في عمل التماثيل الطينية وغيرها أو ربما جعلوها لهوا محرما أو عبثا طفوليا ..
 
المادة والمحيط في الحرفة والفن
للمادةالمتاحة في المحيط أثر مهم في تشكيل وعي الفنان الفطري وأسلوبه واختيار مضامينه وشخوصه وموضوعاته.
وفي العراق حيث ولد وعاش الفنان الفطري الرائد منعم فرات كان للطين والحجرموقع خاص سواء في الذاكرة الحضارية أو في الواقع.فقد كانت  بيوت مدن وادي الرافدين ومعابدها تبنى من الطين والآجر المجفف بالشمس أو أفنار النار( 8) كما أن بعض أعمدة الطابوق استوحاها الفنان السومري من شكل النخلة(9) ما يؤكد التأثر بالبيئة في الفن البدائي. كما عمد الفنانون العراقيون القدامى في سومر وأكد وآشورإلى صنع أنواع من تلك التماثيل والأفاريز والجداريات والواجهات بأحجام مختلفة. كما أن مؤرخي الفن يشيرون إلى الأواني المصنوعة من الطين المفخورمتقنة الصنع ومزخرفة بوحدات هندسية أو أشكال آدمية وحيوانية،وكذلك الدمى والتماثيل المصنوعة من الطمي المحروق لأشكال آدمية نسائية
أو رجالية(10) وسنجد لاحقا وفي العصر الحديث أن الطفل الريفي لايزال مهتما بصناعة الدمى بيديه رغم وجود ألعاب بلاستيكية أو معدنية أو ميكانيكية (11) .ولن يقف تأثير تلك الدمى والتماثيل الصغيرة -التي سبق بعضها عصر ظهور الكتابة عندالأطفال – فحسب، بل يتعدى ذلك إلى وعي فنانين كبار كجواد سليم الذي أشار في إحدى يومياته عما في وادي الرافدين من لقى  ومصغرات وتماثيل، وما ألهمته مادتها وموضوعاتها الكثير في تجربته النحتية(12).من هنا فلن نجد غرابة أن تكون مادة الطين والحجر المحلية إضافة إلى المرمر والمعادن والمواد الأخرى هي المواد التي يعتمدها الفنان الفطري ، إضافة إلى الخشب أحيانا كونه مادة يستقيها من الشجر الذي يزين المحيط.
 تطبيقات حول أعمال الفنان الفطري منعم فرات
تعرفنا في ما سبق إلى ما يميز الفن الفطري من جمع للحرفة الشعبية وجمالياتها  ، والفن الإبداعي ومافيه من مزايا.وقد تجسد ذلك في أعمال فنان فطري عراقي رائد في هذا المجال هو منعم فرات(1900-1972)
وسنجد وعيه الفني بدءا من اختياره اسم فرات بدلا عن اسمه الرسمي منعم بربوت وادي منتسبا إلى الفرات النهر الشاهد على ظهور الحضارات وتعاقبها على ضفتيه وفي الوادي الفاصل بينه وبين دجلة.وتشي سيرته المعروفة بأنه عاش في مدن بغدادية صغرة ،وعمل في الزراعة ،وأحب النحت على الحجر مبكرا ،واختار في مرحلة أولى نحت الطيور وبيعها، ولكن طيوره لم تكن نسخا للطيور في الواقع بل أضاف عليها من خياله وفطرته أبعادا جعلتها ذات وجود أسطور أو طقسي يلفت انتباه الناظري إليها.(13)وفي تلك المرحلة وهو واقف لبيع طيوره في (شارع الرشيد )الحيوي في العاصمةيتعرف عليه مثقف وباحث عراقي هو الدكتور أكرم فاضل ويدعوه لزيارة المتحف العراقي للآثار ويشجعه على نحت أشياء أخرى غير الطيور .ولكن الحقيقة التي يؤكدها النقاد والباحثون الذين تناولوا تجربة منعم فرات هي أنه لم يستجب فقط للمؤثر المتحفي ، فقد كان يستجيب بشدة لهواجس ورؤى داخلية تخامره وتشكل صراعا بينه وبين الحجر الذي يستخرج منه الوجوه والأشكال.خيالات أقرب إلى السوريالية   بطابعها الكابوسي الحرفي فضاء المخيلة وتحطيم أبعاد المناظير والرؤى والكتل والأبعاد وقد وصف النقاد مرحلة المنحوتات الحرة هذه بمرحلة المنحوتات المركبة (15)بعد انتهائه من مرحلة الطيور وأخرى سبقتها تلخصت في تماثيل صغيرة ومصغرات نحتية مختلفة.في النحت المركب يضع منعم فرات أجسادا عديدة فوق بعضها أو إلى جانبها متلاصقة ولكن بغير حميمية ، وكأنها تحمل عدوانية تجاه بعضها. إن تجاورها لا يعني تعايشها بل هو وجود مكاني على الكتلة النحتية أما في تأويل الدلالة وما ترمز إليه الأجساد المتلاحمة فهو التباعد لأنها تدير ظهورها لبعضها أو تتجه عكس اتجاهها أو تعلوها متممدة فوقها .وهي أشكال متناسخة عن أجساد آدمية لكنها محورة ومتغيرة الملامح إلى غرابة ممسوخة وأشكال حيوانية.هنا نستذكر ما قررناه في مستهل  هذا البحث عن مساحة الخيال المفرط التي يتمتع بها الفنان الفطري ،وما يضيف من تصورات عن الأشياء والعالم من مخيلته الحرة .وهذا بالذات ما يميز تجربة منعم فرات، فلا يمكننا البحث عن تفسير يقيني لوجود هذه الأشكال الغريبة والجمع بين الحيواني والإنساني بهذه الطريقة أولا ،ولا تفسير لتوزيعها في الإنشاء النهائي للعمل حيث تتراتب عشوائيا أو غرائبيا فوق بعضها أو متقاطعة متباعدة.(16)
هل يريد الفنان الفطري أن يقدم رؤيته لعالم قاسٍ يخشاه ويتصور موجوداته قاسية خشنة صلدة بهذا الشكل؟يصرح منعم فرات مرارا بأن في رأسه ضجيجا معذبا لحيوانات ويعج بالسعالي والغيلان والأفاعي والعفاريت والطناطل ( 17) وأنه يريد تمثيلها مجسدة على الحجر الذي أحبه وتماهت رؤاه في كتلته وصلابته.كما ينقل عنه أنه فسّر للسائلين سبب وضعه لصخور عديدة فوق رؤوس شخوصه بأنها ترمز لأعباء الحياة وثقلها.وهو انعكاس لمعاناته في العمل والكدح في الحياة والهموم الأسرية .

وأحسب أنه بذلك يلائم بين موضوعه وأسلوب عرضه فيجد لخياله وتصوراته هذا الشكل الموائم بين البشرية والحيوانية.وبذلك لا أراه يبتعد عن تقاليد النحت الرافديني والعراقي القديم عامة والآشوري خاصة حيث يجمع النحات البدائي بين أشكال متعددة بشرية وحيوانية كأجساد ثيران نينوى المجنحة والمنتهية برأس بشري.أو في الحيوانات المجسمة في نحت ناتئ على جدران بابل حيث الحيوان المتعدد المراجع والأعضاء من حيوانات مختلفة(18)
يرى الناقد عادل كامل في دراسته الموسعة عن منعم فرات أن بدائيته (تمتلك وعيا ً مرهفا ً ليس باختيار الموضوعات فحسب، وإنما في تنفيذها. فليست ثمة مهارة أكاديمية أو حديثة تقارن بأعمال أساتذة النحت، ولكن ثمة مهارة، كالتي عند هنرى روسو ، مهارة مثيرة للجدل. فأعماله النحتية لم تنجز للتزيين. والفنان لم يفكر في ذلك مع انه كان قد احترف النحت، ولم يصغها كنصب أو علامات لأحداث سياسية.. فلم يفكر بجماليات تتوازن مع هذه الأهداف. بل على العكس، ترك يده تعمل بفكر غير مقيد. فهو، غالبا ً، عالج كائناته بخيال لم يضع فاصلا ًبين الواقعي والخرافي..)(19) وهذا المقتبس الطويل يلخص ميزة مهمة لدى منعم فرات بصدد مواءمة موضوعاته وأسلوبه  والحرية التي تعضد خياله عند العمل.
وبجانب الحرية التي وهبها لنفسه وتمثله للمؤثر النحتي القديم نجد محاولته تجسيد حيرة الإنسان المعاصر إزاء ما يتحداه في حياته.وقد عبّر عن ذلك في تمثال حجري يمثل حكيما يجلس للقضاء أو الحكم ضاما يديه في حضنه يحيلنا مباشرة إلى تمثال شهير لغوديا حاكم مدينة لكش السومرية بوضعية ضم اليدين ذاتها، والتي تتكرر في أعمال منعم فرات كثيرا .
في منحوتة أخرى أطلق عليها الفنان عنوان ( الفاشل الحزين) نجد رأسين يعتليان الشخصية الأساية في العمل وهما يتقاسمان المساحة التي تعلو رأسه ،وهو يعاني ثقلهما ،ولكن دون رد فعل أو مقاومة.هذا السكون هو الذي يترك شخوص منحوتاته تتصارع بصمت وتشرك المتلقي في التفكير المصيري لهذه المخلوقات المنسوخة أو المتناسخة.متحولة عن مخلوقات أو متطورة عنها بالحفاظ على ملامح منها.ويتكرر وجود جسدين فوق رأس شخصية منحوتة أخرى أكثر غرابة ، فتمددها عرضا يعطي الشعور بعمل جداري مصغر يحيل إلى جداريات الفن الرافديني القديم وما يسجل عليها من أحداث.ولقد عمل منعم فرات بالتماثيل المصغرة والدمى، لكننا لم نعثر على أي منها في ما ترك من أعمال للأسف.وهذا كله يؤكد المؤثر المتحفي الذي يقصيه بعض دارسيه عن ثقافته ، كأن البدائية والفطرية تتعارض والثقافة البصرية للفنان واطلاعه على الفن القديم والمعاصر.وفي النحت خاصة لا مفر للفنان فطريا أو مدرسيا من تأمل التراث القديم الذي كان للنحت مكانة متقدمة فيه.
ولكن منعم فرات يغري الباحثين في مسألة صلته بالمحيط من حيث اختيار مواد عمله وموضوعاته أحيانا ،فالطين ثم الحجر والمرمر هي من موجودات بيئة منعم فرات، ولاغرابة أن تمتد يداه لتخلق منها تلك الأعمال التي ستتطور لاحقا لتأخذ شهرة عالمية ؛فتنبه  نقاد غربيون  إلى إنه( اختار بمفرده طريقه الذي يقوده نحو غاياته الفنية: هذا الاختيار انبثق من أعماق نفسه الأصيلة. وأول عمل قام به هو رفضه لأي شكل ولأي تأثير أوروبي، سواء كان ذلك في التكنيك أو في الشكل الظاهري، ففضل في عمله الفني الرجوع أدراجه، مستوحيا ًالماضي بكل ما فيه من جلال.
فنان مثل منعم فرات شيء نادر لا يمكن العثور عليه في كل زمان ومكان لما في اعماله من خصوصية)(20)
ويقول ناقد بلجيكي  إن منعم فرات (باستخدامه للكتل الحجرية مشذبا ً صاقلا ً أكثر من كونه ناحتا ً، ..أبرز صورا ً للنساء والرجال، وأطلع شخوصا ً للحيوانات وهي مزيج عجيب في كل حركة من حركاتها مما ينغمس فيه سكان القرى من اضطراب في حياتهم اليومية.
إن المادة حين تلامسها يده، تستحيل إلى تعبير مباشر، يمكن القول عنها أنها تغدو في حكم المنتهية منذ تخطيطها الأول، لأنه من البداية، يجعلنا نستطيع التكهن بالتفاصيل التعبيرية. “(21).كما يطلق عليه الناقد محمد الجزائري لقب سيد النحت الفطري كونه رائدا في هذا المجال الصعب والحيوي معا.كما نوه
باختيار موضوعاته وأسلوبه في اعتماد مواضيع الأسطورة المتوارثة في الذاكرة الشعبية العراقية أو المستلهمة من الأقنعة الأفريقية وسواها.(22)
لقد اعطت ميزة التراكم ثقلا لمنحوتاته منحتنا فرصة التعرف على أبرز مزايا هذا الفن التلقائي وهي العفوية حيث لا يتعمد الفنان أن يضع مركزا واحدا للعمل بل يأخذنا لمعاينة هذا الحشد من المخلوقات المتجاورة والمتعاكسة في الحجر نفسه.وإلغاء مركز العمل يعطينا فكرة عن التراكم وتأكيد التشايه في الطوايا والنيات بين الجميع ، وهو ما يعكس الكآبة والحزن لدى الفنان ونظرته للعالم .بجانب ميزة أخرى تحدثنا عنها في مدخل البحث وهي الاهتمام بالتفاصيل تعويضا عن غياب الضوابط والأبعاد والاشتراطات الفنية المدرسية.ولكن ذك كله لم يمنع أن تنال أعمال منعم فرات ما تستحق من اهتمام النقاد ثم تتويجها بجائزة عالمية في مهرجان فني للفطريين في براتسلافا عام 1972 لم يستطع الفنان نفسه حضوره.(23)
خاتمة
لم يجد منعم فرات تلامذة يتعلمون على يديه لأنه لا يملك سوى تجربته العملية وأعماله المعروضة للمعاينة البصرية.لكن الضمير الجمعي دون شك قد نال بتجربة هذا الفنان دفقا قويا يعزز مكانة النحت الشعبي كوسيط بين الحرفة والفن، الموروث والمعاصرة، الموهبة والتدريب العملي.وانشغالات منعم فرات الموضوعية لاسيما وحدة الإنسان وعزلته وقسوة العالم وقوة الشر وشراسته هي ما ظلت توحي لأجيال من الفنانين الذي يحذون حذو منعم فرات ،ويعيدون سيرته الكفاحية التي عمقت جماليات النحت الفطري وثقافته ونصوصه المجسدة بحيرة وعفوية وصدق.(24)
 
 
 
هوامش وإحالات
 
1) يؤكد ذلك الفنان نوري الراوي في دراسته عن الفن الفطري في العراق ، ضمن كتابه: تاملات في الفن العراقي الحديث،المؤسسة العربية للدراسات، بيروت1999،ص142
2)هربرت ريد:أهمية الفن البدائي، ضمن كتابه: الفن الآن- مقدمة في نظرية الرسم والنحت الحديثين،ترجمةفاضل كمال الدين،دائرة الثقافة والإعلام-الشارقة2001 ،ص30
 
3)نفسه،ص31
4) نوري الراوي: سابق،ص144
5) علي النجار:الفن الفطري العربي من التجارب الأولى(1) منعم فرات-موقع إيلاف،27-1-  2011
6) أكرم شكري- نقلا عن عادل كامل،منعم فلاات-أسئلة النحات ومشفراته،موقع الحوار المتمدن،4874،في 12-7-2015
7)زيزي شوشه: رموز الفن الفطري-مساهمة في ندوة الفن الفطري بالشارقة-موقع البديل،15-11-2014
8) غلين دانيال:الاصول والأساطير،ترجمة سعيد الغانمي،كتاب دبي الثقافية،27،دبيأغسطس2009،ص58
9)نفسه،ص82
10)نعمات أحمد فؤاد:فنون العراق القديم،سلسلة كتابك167،دار المعارف-القاهرة1984،ص4-5
11)  محمد عجاج جرجيس : صناعات الطين في الريف العراقي،أبحاث في التراث الشعبي،كتاب التراث الشعبي2،بغداد1986،ص 258
12)حاتم الصكر : المرئي والمكتوب -دراسات في التشكيل العربي المعاصر،دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة   2007، ص 29
13)هناك نموذج لها في ملحق الصور للمقارنة بين تمثال غوديا وعمل منعم فرات .نلاحظ اليدين المضمومتين بالطريقة نفسها : اليمنى فوق اليسرى والاستسلام للتأمل والنظر.
14- يشير جيرارلوغران في دراسته : السريالية والفن إلى (حالة ميرو المثالية) حيث يعده فناناً فطرياً يُبرز كل ماهو خارق وغير متوقع، ويعيش في عالم الطفولة.يراجع كتاب المغامرة السريالية -مقالات ونصوص،اختارها وترجمها عن الفرنسية عدنان محسن،منشورات الجمل،بيروت -بغداد2016،ص33.
15- نوري الراوي: سابق،ص148
16)يؤكد ذلك عادل كامل في دراسته الموسعة : منعم فرات الأسئلة النحات ومشفراته التي أشرنا إليها سابقا، وكذلك نوري الراوي،ص146
17)عادل كامل ،نفسه
18)نعمات أحمد فؤاد،سابق،ص34،إشارتها إلى فكرة مزج عناصرمختلفة في كائن واحد و التي كانت منتشرة في الفنون السومرية..   ،ومنها الزخارف التي يظهر في إحداها جلجامش ممسكا زوجا من الثيرانبرؤوس آدمية ملتحية  ،وثمة أنواع من الحيوانات تمشي على أرجلها الخلفية وتعمل كالبشر.
19) عادل كامل،سابق
20) البرتو جانيتي:منحوتات فرات تتكلم اللغة العربية،نقلا عن عادل كامل،سابق
21)أرمان آبيل: هذا الأعرابي الذي صنع نفسه بنفسه، سابق
22)محمد الجزائري،منعم فرات سيد النحت الفطرينندوة الفنون الفطرية بالشارقة،جريدة البيان الإماراتية،14-11-2007
23)نوري الراوي،سابق،ص 145
24) من النقاد والفنانين الذين كتبوا عن تجربة منعم فرات : عادل كامل ومحمد غني حكمت ونوري الراوي وشاكر حسن آل سعيد وعلي النجار وأكرم فاضل وحسين الهلالي ومؤيد البصام ومحمد الجزائري وسواهم..
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
S

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*